سأموت يوماً في صالة عرض - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

سأموت يوماً في صالة عرض

عن السينما

  نشر في 14 نونبر 2019 .

1

في الماضي البعيد للغاية لم أكن حراً في التنقل بين الشوارع كيفما أريد ،كان يجب دائماً ان يكون لي مرافق للذهاب إلى أي مكان بحُكم مدى صغري ، كُنت ابن سبع أعوام تقريباً أو رُبما أقل لستُ أدري ، و لكني أتذكر جيداً أن عالمي كان جدران غرفتي لا غير و لم أكن منزعجاً من ذلك، في تلك الفترة كان أخي مراهقاً و قريباً من مطلع شبابه، كان وقتها قد اقترح عليّ أن نذهب إلى مكان لم أكن سمعتُ به من قبل، كان ذلك المكان هو السينما.

كيف لي أن أدرك السينما في تلك المرحلة من حياتي و انا كُنت مواطناً مغترباً في بلد لا تمتلك حياة فنية إلا في بيتنا ، بيتي كان بيت ذا ذائقة ، كان أبي قارئ و سميع و متفرج جيد، مُجرب لا يخشى التجربة ، و كُنا جميعاً مثله تماماً، بالرغم التفاوت و التباين فيما بيننا الآن ، لكننا كُنا جميعاً نسمع أغانٍ شتى و نشاهد معاً أفلام مُقترحة من أحدنا و نتناقش حول الممثلين و المخرجين، و أنا أصغرهم بالطبع كُنت أتغذى فقط على هذا المجتمع الصغير ، الذي كان في تلك المرحلة مجتمعي الوحيد.

كُنا – أنا وأخي – في ذاك اليوم في مصر، و قد اقترح عليّ أن نذهب إلى السينما حينما قال لي " قوم البس و نخش سينما " ، لم يكن أخي في صغري يبغض مشاركتي أي شيئ في حياته ، و كُنا مرتبطين من أول لحظة حتى اليوم في أمور عديدة، ولم أكن أعتاد رفض تمضية أوقاتي معه ، لذلك ذهبتُ معه مثلما اقترح، و لكنني لم أكن أعلم ما هذا العالم الذي نذهب إليه ؟ ، و في الطريق كُنا نتحدث عن أمور أخرى بعضها في البيت و بعضها بلا قيمة مما نراه في الطريق إلى سينما أوديون في شارع طلعت حرب .

يومها رأيتُ هذا العالم ، شاشة كبيرة للغاية، كراسي كثيرة مزدحمة ، صوت ضخم و عال لكن غير مزعج إطلاقاً ، ظلام شديد و ضوء وحيد يأتي من جهة واحدة فقط، هو أجمل الأضواء التي قد تراها، حكاية تروى بأجمل أسلوب قد تروى به الحكايات، كان الفيلم الذي دخلناه يومها في عام 2006 هو فيلم the prestige ، كان هو المفتتح لرحلة طويلة للغاية ، هي رحلة إدماني لزيارة صالات العرض السينمائي .

2

كثيراً ما يلوم الناس مبالغتي في ممارسة عاداتي و منها عادة السينما التي كان يلومني عليها أبي، الذي لاحظ أنني وصلتُ لمرحلة يُرثى لها في تلك الرحلة القصيرة لماليزيا ، كُنت قد مضيتُ أسبوعاً واحداً فقط بعيد عن الشاشة التي أحبها ، و قومتُ بالبحث عن أقرب صالة جيدة حول سكني وقتها ، و حينما توصلتُ لمكان كان يبعد عني بمسافة خمسة و عشرين كيلو و يبدأ العرض منذ الساعة التاسعة صباحاً.

سأخبرك شيئاً عن ماليزيا ، في ماليزيا في الساعة التاسعة مساءاً لن تجد أي شيء في الشارع إلا إن كُنت محظوظاً المشفى و الصيدلية يكونان مغلقان في هذا الوقت، الشرطة تتواجد في دوريات و لن تقف لك لكي توصلك إلى منزلك، أما انا قومت بالجلوس في تلك السينما من التاسعة صباحاً حتى التاسعة مساءاً ، قومتُ بذلك دون التفكير كيف يمكنني العودة إلى الفندق في بلد لم أعش بها يومها إلا ثلاث أيام فقط.

كُنت فعلتُ ذلك لمشاهدة أفلام لم أكن مدركاً أي شيئ منها ، لا أعلم اللغة التي يتحدث بها الممثلين ، و لم أكن أعلم من هم، ولم أعلم ما تلك الأماكن التي تدور بها الأحداث ، و لم أعلم ماهية الأحداث، أحدهم كان فيلماً كوميدياً علمتُ ذلك من شيئياً، الأول هو ملابس الممثلين، و الثاني ضحك الناس من حولي، و لكنني كُنت سعيداً للغاية ، و هذا رُبما سأشرحه في بقية حديثي الطويل، لكن حينما خرجت لم أجد أي وسيلة للعودة كل تلك المسافة إلا سيراً في المطر .

حينما تحدث معي أبي قلتُ له خُطبة طويلة، تأكد منها من شيئين اثنين، الأول أنني أصبحتُ وجنوناً مرة أخرى بشيء آخر ، و الأمر الثاني أن لا قيمة للحديث في هذا الأمر، و هكذا يا سيدي أشرح لك كيف أصبحت السينما لدي، الهوس الشديد و المواعيد المتكررة التي لم تنتهي و الأموال الضائعة و اللهفة الشديدة لكل ما هو جديد فيها و كل ما هو معروض ما بالك بما هو جيد! ، تخيل معي أن هذه العلاقة الغريبة بين إنسان و مبنى جائت على سبيل الاقتراح فقط، قبل هذا الاقتراح لم أكن أعلم ما هذا!

3

بعد رحلتي الأولى للسينما كُنت أحاول دائماً دفع أخي لرحلات أخرى ، و ها هنا كانت تقع مشكلتان، المشكلة الأولى هو أن أخي كان في المرحلة الثانوية، و المشكلة الثانية هو أنني كُنت مقيم في مصر فقط في فترات قليلة و لكنني كُنت مقيم في المملكة العربية السعودية، المدينة المنورة على وجه التحديد، وها هنا قد أسرد فقرة ذات واقع ثقيل قليلاً .

المدينة المنورة و هي أحب المُدن لقلبي، مدينة مملة و سخيفة للغاية ، ليس بها أماكن ذات قيمة إلا المسجد النبوي ، الذي لن يكون مكاناً جميلاً لطفل ذو سبع سنوات لكي يعيش طفولة سعيدة إطلاقاً، ذلك لأنني في تلك المرحلة كان الله اقتراحاً وكان النبي حدوتة ، و لذلك رغم كل شيء قد تراه في العبارة ، لكنني لم أكن متفرغاً لله و نبيه في ذاك الوقت ، كُنت أبحث عن أمور أخرى ، بالرغم أنني كُنت في تلك المرحلة مهوساً بقصص السيرة لكن هذا حديث يطول ، المهم في هذه القصة صالات العرض.

كيف يمكنني حل تلك المشكلة ؟ باختصار كُنت أشاهد الأفلام يومياً عبر الكمبيوتر الخاص بي ، كُنت في منزل يستخدم منتجات أبل مثلما تستمع أي أسرة مصرية المصباح الكهربي ، و لذلك كان اقتراح شراء جهاز فيديو و الاشتراك في شبكة تلفاز في ذاك الوقت لم يكن أمراً غريباً أو مرفوضاً ، و لكن نظراً لأنني أصبحتُ بين مكانين اثنين فقط في تلك المرحلة ، هما المكتبة و التلفزيون ، قرر أبي شيئاً، هو أن يضع قفلاً على باب المكتبة و وضع رقماً سرياً للتلفزيون ، و ذلك لأن بصري بدأ يتضرر ، و التقيتُ بعويناتي في تلك المرحلة ، حينما اقترح طبيب صديق للعائلة أن عليّ أن أرتدي نظارة طبية ، و أصبحتُ أنا و الكُتب و السينما و النظارة التي بالصدفة ارتديها منذ عام 2006 حتى اللحظة ، و أصبحت جزءًا أصيلًا من شخصيتي و مظهري.

هكذا كُنت أعوض بُعد السينما عني ، عبر اقتراحات أخي لي كل مدة و مواعيد أبي التي وضعها لي للقراءة ومشاهدة الأفلام و الدراسة، والتي لولاهم لأصبحتُ فيما بعد شخصاً يأكل ما يحبُ بلعاً و ليس مضغاً ، و رُبما جاء الوقت لكي أتحدث ما الفرق بين البلع و المضغ و التصبيرة .

4

ما الفارق بين البلع والمضغ في الطعام حتى يصبح هناك فارق بينهما في ممارستنا لتناول الفن ، الفرق بين أن تبلع حبة توت و أن تمضغها هو هل أنت تعطي فرصة للسان أن يتذوق أم لا، و الحقيقة هاهنا أن هناك كثيراً من محبي الأفلام لا يمضغونها قدر بلعها بلعاً، و أشهرهم هؤلاء الذين يفتخرون مثلما كُنت أفعل و أنا طفل لا يدري ما يفعل في نفسه أنهم يشاهدون في اليوم الواحد سبعين فيلماً لمارلون براندو ، أو أنهم بقى لهم القليل من الأفلام لهيتشكوك ، ذلك لأنهم حينما شاهدوا تلك الأفلام لم يتوقفوا لكي يدققوا فيها، لم يفكروا في إعادتها، لم يبحثوا فيما بعدها أو قبلها ، لم يبحثوا عن ظروفها ، لم يقرأوا عن المخرج أو المؤلف، هم فقط اكتفوا بتجربة ما و قرروا الاستمرار دون أن يأخذوا منها شيئاً.

أما المضغ فهو فن خاص لكل فرد منا، و يتدخل فيه تفاصيل كثيرة ، مثلما هناك فرق بين مضغة إنسان لشطيرة و مضغة إنسان آخر ، فهناك فارق بينّ في فروق البشر فيما بينهم في مضغ الأفلام، أنا مثلاً أحب مشاهدة الأفلام مع فناجين القهوة، حينما أكون في السينما أقوم بشراء 3 فناجين إسبريسو ، و لا مشكلة لدي إذ برد أحدهم ، ذلك لأنني لن أغادر الكرسي قبل نهاية الفيلم حتى في الاستراحة ، سأبقى ها هنا ، حينما أكون في منزلي، هناك سبرتاية و كنكة ، و عذراً للغة العربية لكنهما سيبقوا باسمائهم الدارجة، و يكون دائماً هناك فنجان تلو الآخر ، لا يهمني نظافة الكنكة أو مصائر الفناجين فيما حولي ، المهم الكافيين المتدفق في الدم و مرور الكادرات المتتالية أمامي بلا توقف ، أما أبي يحب مشاهدة الأفلام و هو يتناول شيئاً، المهم كيف تمضغ الأفلام ، كيف تحافظ على انتباهك معها.

التصبيرة يا سيدي هو بين البلع والمضغ، هي سد الحاجة أو تفريغ الوقت في مشاهدة شيء مسخ أو شيء غير كافي، و رُبما نضع السينما العربية و الدراما في هذا السياق بشكل جيد، حيث الاخراج و الانتاج والتأليف والتمثيل جميعاً يفتقرون لكل معايير الصناعة و كل مقاييس الإبداع ، هم لم يصنعوا الفن حتى يبدعوا فيه ، و لكن ما يجعلهم يأكلون العيش من تلك الصناعة البائسة فقط هو حاجة الناس لتمضية أوقاتهم ، و لهذا حديث طويل آخر .

لولا ما صنعه ابي كُنت ساكون شاب أبله يتحدث بعنف عما يحب، ولا يستطيع تذوق ما يشاهده، و لا يدري قيمة تجاربه في المشاهدة أو فيما يقرأ ، و ذلك لأنني حينما كُنت متلهفاً مثلاً في تجربتي لمشاهدة الأب الروحي – the godfather – و كان ذلك بعد قراءة الرواية ، كان الفيلم و الأخر بينهم أسبوعاً كاملاً، تخيل معي كيف كُنت أتلقي الفيلم الذي كان يُعرض أمامي ، كيف كان تأثري بالممثلين مثل ال باتشينو و روبرت دي نيرو و مارلون براندو ، أتذكر أن بعد ما اتممتُ الجزء الثالث تحديداً قضيت شهور في حياتي أبحث عن افلام الثلاثة ، فقط لتأثري برائعة ماريو بوزو و أفضل الطليان الذين عاشوا في الولايات المتحدة الأمريكية.

5

أقر لك شيئاً ، بالرغم من حدة طباعي و حزمي في أمور عديدة لكنني مرتاب طيلة الوقت تجاه التحصل على الكتابة الجيدة، القيمة التي أشعر بها حينما أقوم بعملية مراجعة ما أكتبه، و نظرتي تجاه ما صنعت ، و لذلك دائماً ما كُنت أكتب في المساء أو الصباح الباكر للغاية ، و في الظهيرة كُنت أطبع نسخاً مما كتبتُ لكي أراجعها أثناء نزهة القهوة ، نزهة القهوة تلك كانت عادة أصنعها دائماً في عملي أو جامعتي ، و هو أن أقوم بقيادة سيارتي إلى مقهى أو كافيه ، كوب قهوة و أي شيء خفيف ، و أوراق لكي تقرأها .

لكنني كُنت أعاني في كتابتي طوال تلك السنوات في الكتابة في قطاع واحد فقط ، وهو قطاع السينما ، لم أكتب سطراً فيها ، فقط اقترحتُ فقرات في كتاباتي كمثال أو قصة تشابه أمر ما في الواقع الملموس ، لكن لم أكتب مباشرةً في السينما، و لذلك كُنت دائماً أخشى التجريب فيها، حينما أتحدث مثلاً عن التاريخ أو نظرتي لأفعال الإنسان لا أجد خوفاً قدر الاسترسال في هذا الذي الآن أكاد أنهي دباجته و التسلل إلى سوداء قلبه ، أنني حقاً منذ هذه النقطة لا أدري هل سأتحصل على الكتابة الجيدة التي أحبها ، أم أنني أقف على أعتاب بيت عشوائي البناء .

أنني صدرت فقط في الفقرات الأربع الأولى قصتي و البدايات لحبي العميق لهذا الفن ، الذي بات اليوم موعداً يتكرر كل ثلاث مرات، في كل شهر لي عشر زيارات إلى السينما، كثيراً ما أكون وحدي، و كثيراً ما اكون في فيلم رُبما لن يكون جيداً و كان بالفعل سيئ للغاية لكنني كُنت سعيد فقط لأنني أقوم بتلك الزيارة ، وحيداً و لم أكن اشعر بالوحدة، مُصاب الأكتئاب و لكنني لم أشعر بالحزن، قلق رُبما ، لكن في المطلق كُنت هادئاً في كُرسي أحاول التقاط الدفء فيه و موجهاً رأسي تجاه شاشة الألوان و مصغياً لدُنيا الأصوات حولي و متتبعاً خيط السرد.

و في قصتي مع زياراتي للسينما سأتحدث في عناصر التجربة ، عناصر تجربتي الشخصية و ليست عناصر الفن نفسه، ذلك بأنني أرى أن أي فن مهما كان له قواعد واضحة و بارزة و هي التي تصنع قيمته إلا أن لكل متلقي للفن معايير خاصة به هي من تجعل الفنون السيئة مفاتيح مدارس فنية جديدة ، و هي أيضاً ما تجعل الفنون الجيدة مملة و سخيفة لأن المتلقي لم يجد فيها ما يجذبه.

6

كُنت في صغري أزور سينما ذات قيمة وقتها، سينما أوديون في شارع طلعت حرب قبل ذيوع سُمعة صالات المراكز التجارية الفخمة، مثل سيتي ستارز ، لم يكن السادس من أكتوبر إلا منطقة مملة بها مراكز تجارية رخيصة و منازل هادئة، قبل الميجا مول و عصر الواحد و العشرين صالة عرض ، كان ذلك قبل اقتراح الصالات ثلاثية الأبعاد حتى، ولذلك كانت وسط البلد منطقة حيوية تُمثل الثقافة والفكر في مصر قبل وسط البلد الآن التي تمثل الثقافة المحدودة أو النظرة الضيقة او المُدعيين.

قبل سور المترو العظيم كان شارع السادس و العشرين من يوليو واسعاً حتى أنك ترى أشجار حديقة الأزبكية و ترى سُلم المترو و ازدحامه إذ كُنت واقفاً تحت ظل شجرة من التي كانت خلف سور دار القضاء العالي – وقتها كان هناك شجراً – في هذه اللحظة يكون على يمينك طلعت حرب باشا الذي فيه ست أو سبع مسارح لم يبق منها اليوم إلا مسرح مترو ، على يسارك شارع عماد الدين الذي كان به سينما كثيرة لا تزال قائمة و لكن رُبما تذاكرها تقريباً تصل إلى خمسون جنيهاً كأقصى حد.

في ذاك الوقت كانت وسط البلد هي تمثيل حقيقي للقيمة الثقافية التي كانت عليها مصر، حيث كانت الندوة الثقافية مقهى مثقفين بحق و حقيقي و التي رحل عنها أخر من كان يستطيع تولي زمام حُكمها عم مكاوي سعيد ، و كانت المعارض تُعرف بالاسم، المحلات الكُبرى منتشرة ، و التي أنتهت حقبتها يوم ترك إديداس حانوته الشهير الذي كان يُعرف به بالنسبة لي شارع طلعت حرب، كان من البديهي أن ترتبط السينما بذاك المكان.

يوم أن تغيرت وجهتي حينما أشاهد فيلماً ، كان ذاك في عام 2010 ، يومها تقريباً اختلفت السينما تماماً عما كانت عليه ، و ذلك لأن وسط البلد أصبحت تتدهور، و أصبحت السينما موجهة بشكل ما بشكل طبقي، حيثُ هناك سينما الفقراء و لها معاييرها، و هناك سينما الأغنياء و لها معاييرها، و هناك سينما وسيطة و لكنها قليلة للغاية و لها معايير الأثنين و عيوبهما .

7

سينما الفقراء هي السينما التي تقع في منطقة وسط البلد التي يسهل الذهاب إليها من كل المناطق الشعبية و الفقيرة، يسهل تمضية وقتك فيها لأسعارها المعقولة و تعدد الخيارات فيها، في نفس المنطقة و نفس الشارع يمكنك شُرب الشاي بثلاثة جنيهات و بسبعين جنيه ايضاً ، كان من البديهي أن تصبح أوديون الحبيبة مزاراً لهؤلاء الباحثين عن العادات السيئة في الظلام، و الأفلام الرخيصة ، كيف حدث ذلك بالضبط؟

حدث ذلك نتيجة لدخول المستثمرين مسألة السينمات التي لم تكن موجودة في مطلع الألفينات بهذا الانتشار اليوم ولا هذا القبول ، و نظراً لذلك لم يكن يسعى أصحاب الصالات القديمة لتطوير الصالات الوحيدة لأن باختصار هي وحيدة، و لذلك كان الكرسي الضيق و الحمامات القليلة الرديئة و الأكل الغالي و المكيف المعطل و الشاشة الصغيرة و الصوت السيء و كل ذلك لم يكن ملحوظاً إلا حينما ظهر في الصورة و المقارنة سيتي ستارز .

لماذا ظهر المستثمرون متأخرين ، ذلك لأن في فترة اكتشافي لهذا الفن ، كان في الحقيقة هو الفن الحرام، أو هو مضيعة الوقت، أتذكر في عام 2007 حينما زرتُ مصر مع أبي كان هناك نقاش غريب بين أخي الكبير و خالي حول كيف تدهور به الحال من غضب الله عليه ، و أن أفعاله هي التي أوصلته لتلك الحالة، أخي كان وقتها يقود نقاشاً حاداً في المنزل، هذا النقاش حول هل نقوم بتوصيل الإنترنت إلى المنزل أم لا ، اليوم هذا الخال بنفسه هو أول من يقوم بدفع مبالغ فوق الاشتراك الخاص به من أجل اضافة مساحات جديدة للاستهلاك ، و من الذين يقترحون أفلاماً.

السينما الرخيصة كانت هي الحل الوحيد و الحاصلين على المال وحدهم فقط حتى عام 2009 أو 2010 لأن المجتمع المصري كان يحارب الدين في نظرته إلى السينما و الإنترنت و قضية الفيديو كليب، حينما اتفقنا على أن السينما ليست بهذه النظرة فقط ظهرت السينما الحديثة ذات الرفاهية ، و مع ظهورها أصبحت سينما الفقراء هي السينما القديمة التي كانت تحمل هذا الفن بمفردها و تمتلئ بالعاصي و الكافر و المغضوب عليهم.

8

لماذا كُنا في حاجة لسيتي ستارز، ذلك لأنني أول مرة رأيتُ تقنية العرض ثلاثي الأبعاد كُنت في متحف العلوم بكامبردج، و كُنت وقتهاً منبهراً بعرض النجوم و الكواكب ، كانت لغتي الإنجليزية لا تساعدني في الفهم بالقدر الكافي، و لكن في عام 2008 و عمري تسعة أعوام بالضبط كُنت أفكر كيف قد يكون الأمر إذ رأيتُ فيلماً من الأفلام التي أحبها كأفلام ثلاثية الأبعاد.

كان ابي حريص دائماً في الأسفار البعيدة أن يتركني لتجربة ما لم أجدها في مصر، ولذلك كان لدي فرصة في أن أعيش تجارب حتى اليوم لم أرها في مصر، و لكنني ذهبتُ إلى سيتي ستارز الذي كان من أوائل السينمات في مصر يعرض افلاماً ثلاثية الأبعاد لكي أشاهد حرب النجوم التي كانت أول الأفلام التي شاهدتها بهذه التقنية ، لولاه لم تكن تتجرأ سينمات وسط البلد العريقة أن تتقدم للأمام و تحاول تغير أفكارها نحو نظرتها للزبائن.

كان يُنظر لزبائن السينما في العهد القديم على أنهم أنفار الميكروباص ، و لذلك حينما زرتُ سينما سيتي ستارز أدركت كيف كانت الكراسي المريحة في الماضي في سينما أوديون ضيقة للغاية، و كيف كانت الغرفة شديدة الحر ، و إلى مدى كانت صالة العرض في حالة يُرثى لها ، لأنني لأول مرة في مصر فقط أرى خيار أخر ، و سأوضح لك كيف أصبح الخيار الأخر هذا جيداً و له قيمة.

في فترة عرض هاري بوتر الجزء الأخير كان الفيلم الأول و الثاني ثلاثي الأبعاد، شاهدتُ أحدهما في سينما سيتي ستارز، و الأخر في أوديون ، وقتها كانت اول مرة أوديون تقرر أن تقوم بعرض افلام ثلاثية الابعاد، اضطروا وقتها أن يغلقوا صالات العرض لمدة ثلاث شهور، هذا يوضح لك كيف كانت تلك السينما تخسر أموالاً نتيجة تمسكها بأفكارها القديمة، و لكن حينما عرضت أوديون الفيلم كانت التذكرة أقل من تذكرة سيتي ستارز بحوالي أربعين جنيهاً ، فقط للفارق الشديد مثل الشاشة و الكُرسي و المكيف.

9

التقنيات يا سيدي كانت هي الأخرى تصل إلينا بعد نظرة المجتمع و تغيره، في فترة 2010 كُنا نشاهد الأفلام بسرور و بهجة بتقنيات التسعينات ، و ذلك لأن قليل من المنازل في مصر لديها الأنترنت، قلة من لديهم كمبيوتر في منازلهم، كان هناك في بعض المناطق جرائم تحدث نتيجة لنظرة المجتمع لألعاب الفيديو، و يمكن أن أذهب إلى سرد ذلك في فترة أخرى، و لكن الثورة هي من صنعت كل هذا .

في ديسمبر 2010 قال صديقي العزيز أنس هذه الجملة و التي اتذكر يومها جيداً من حيث المكان و الزمان و الظرف الذي جمعنا ببعضنا "هو الناس في تونس أتجننت!" ثم أتبعها بهذا السؤال "بيقولك عايزين يشيلوا ريس" ، وقتها كُنت أنا و هو فقط من لديهم فيسبوك ليس فقط في المدرسة رُبما في محل إقامتنا، و كان يُنظر لنا بأننا من أذكى الناس في هذا المجتمع فقط لأنني نستطيع فهم هذا الموقع و كان أحدنا لديهم هاتف ذكي و هو هاتفي العزيز الذي كان أيفون 3

يوم أن وصل الإنترنت إلينا هو اليوم الذي أصبح فيه المواطن المصري مواطناً عالمياً، و ينتظر حلقات حرب العروش و يشاهد بريكينج باد ، كان ذاك اليوم الذي انطلق فيه يبحث الجميع على الانضمام إلى المجتمع التي كانت انفجرت بعد الثورة ، سواء المحتوى الساخر أو المحتوى الحر ، وهنا انطلقت أمريكانا بلازا ، سينما مول العرب ، و غيرهم من السينمات التي كانت تتسابق في نقل التقنيات التي وصل لها العالم في العرض، و ها هنا ظهرت سينما الأغنياء بشكلها الحالي .

سينما لا تقدم المحتوى قدر تقديمها إلى الأفلام التي تعطيك التجربة المبهرة، الأفلام التجارية التي تظل طويلاً ، فمثلاً في عام 2011 تم عرض فيلم 18 يوم و تم الموافقة عليه بحُكم انها فترة الثورة و هذا فيلم عن الثورة، لم تقم العديد من السينمات بقبوله للعرض فقط من أجل أمرين، خشيتهم من الحكومة، و الثاني هو أنه لن يأتي بأي أرباح، بينما ستجد الأفلام اليوم مثل مارفل و دي سي ، يُسبق الحجز فيها و تُعرض تذاكر اول ايام العرض في مزادات أحياناً و كهدايا في مسابقات ، ذلك لأن تقنيات العرض هي من وضعت هذه الظواهر.

10

بين انهيار السينما القديمة التي ليس بها تقنيات عرض جبارة مثل جالكسي سينمابلكس و أمريكانا بلازا، و الأفلام المبتزلة التي تُعرض في الأعياد فقط، قامت سينا زاوية ومعهد جوتة ، كسينما متوسطة ، و استكمال لمشاريع أخرى ثقافية كانت القاهرة تحاولها و لكنها تفشل، كمجتمع مصر الذي به كل المجتمعات المثقفة من كل إقليم، قامت سينما زاوية في البداية في بدايتي، في وسط البلد.

سينما زاوية التي كانت انتقلت من بدايتها في أحد المراكز الثقافية إلى صالة عرض واحدة في سينما أوديون، ثم أصبحت اليوم في موقعها في عماد الدين طوال العام ، كانت محض يوم واحد في الاسبوع ثم شهر في السنة ثم صالة واحدة طوال السنة ثم كيان ثابت وأصيل يمثل حقيقةً النافرين من الاتجاهين ، أو المتضررين بالانقسام إلى طبقتين في السينما.

فالأفلام الرخيصة و السينمات الرخيصة هم تجارب سيئة و مضيعة للوقت و احداث ممل بلا قيمة و أفلام لا يجب حتى حمد الله على نعمة البصر إن كانت هي المُقترح الوحيد لك،و الأفلام التي تتمتع بصورة جيدة و قابلية لتقنيات العرض العظيمة هي حقيقةً افلام لا يمكنك مشاهدتها مرتين او استفادة اي شيء منها او إيجاد أي قيمة منها.

هنا ضاعت السينما المستقلة و الأفلام القيمة، ولم يكن مقترحاً مثلما يحدث في الخارج أن يُعرض فيلم غير حصري فقط في السينمات، و لذلك حينما اقترح الشباب فعل مشروع سينما زاوية كانت هنا بداية السينما الحرة المتوسطة ، التي تم البدء فيها فقط من أجل الباحثين عن افلام رائعة دون البحث عن سنتها أو البلد التي انتجتها، الباحثين عن الفن فقط!

11

رُبما ها هنا سنشرع بفتح نقاش آخر ، هل هناك ضرر بأننا لدينا طبقات سينمائية ؟ ، الأجابة التي أود قولها هي نعم ، فمثلاً هل يمكن لمُحبي المُؤدي محمد رمضان و الذين يبحثون عن أغنية مافيا من غناء محمد رمضان و كلمات شيندي و كنكة من مشاهدة فيلم تاكسي درايفر للرائع روبرت دي نيرو و إخراج مارتن سكورسيزي ؟ ، و هل مثلاً تتوقع إن دراويش دي سي و شخصية الجوكر و محبي خواكين فينكس ان تطرح عليهم فيلم ملك الكوميديا الذي كان من تمثيل دي نيرو و إخراج مارتن سكورسيزي والذي تم اقتباس مُعظم فيلم الجوكر منه ؟ ، هل تتوقع انهم قد يكملوا فيلماً تم انتاجه في الثمانينات ؟ هنا سنفتح مسألة الأضرار.

مشاهد سينما الفقراء جعلت السينما الجيدة فقط هي السينما التي بها مشاهد الشجار والخلافات البدنية و الصراع بين البسطاء الفقراء و الأغنياء المجرومين، سينما سطحية مرتبطة بالأحداث و ليس تعقيدات الشخصيات و تكويناتها، حتى أنك إذ سألتهم مثلاً عن شخصيات محمد رمضان في آخر سبع افلام له و اسمائهم رُبما لن يدركها أغلبهم، و لن يجد أغلبهم الفروق الفيصلية بينهم جميعاً ، و هذا يدل فقط أن القيمة في الفيلم هي الحدث و ليست الشخصيات، اللكمة و الجملة و ليس البناء والإمدادات التي تضيفها الأحداث في تلك الشخصيات .

أما في أفلام الأغنياء المهم التكوينات الشخصية بعيداً عن الحدث، فمثلاً يجب علي ان يكون ثانوس شريراً لكنه حكيم، و ليس من المهم شرح أين ذهب كُل هؤلاء الأموات، على أيدي الإنسان الحامل للفينوم ، أن يُصبح شخصاً حزيناً و مضطرباً ، ولكن ليس هناك شرح تفصيلي لشخصية الفينوم و القبول بعدم شرح كيف تم تحويل الفينوم من الشر للخير، الحدث ليس مهماً قدر تعقيدات الشخصيات الرئيسية و لذلك قد تجد في هذا الجمهور دائماً نقطة أصيلة و هو كيف أنهم لا يدركون ثغرات السرد و الحوار قدر ثغرات بناء الشخصيات فقط.

إما السينما المتوسطة فقط هي السينما التي تجد فيها الحدث و الشخص ، و لذلك من الطبيعي ان تجد فيلم فورست جامب مثلاً غير محبوب من الجهتين ، لان فورست جامب شخصية لم يكن لها بناء مقنع بالنسبة للأخير، و أحداث الفيلم ليست مثيرة ولا مركز اهتمامه من أجل أن ينتبه له ، و هو فيلم ليس دائماً ذو طابع كوميدي قدر أن له طابع تأملي في مدى انعدام جدوى الرموز التي يؤمن بها المجتمع الأمريكي وقتها.

12

و هنا يجب أن نطرح سؤال بسيط ، هل المجتمع المصري هو مجتمع يؤثر على التجربة او مُجتمع يتأثر بالتجربة، ها هنا سأوضح لك شيئاً ، احياناً حينما أذهب لفيلم ما و يعجبني ، اقوم بدخوله عدة مرات فقط لكي ارى بعيني كيف يراه الناس من حولي، أقوم بأخذ اخر صف في المكان على حسابي من قبلها بيوم ، و اراقب الناس و هم يشاهدون هذا الفيلم.

هناك أفلام شاهدتُ كل أيام عرضها و كل حفلاتها، و لم أصل إلى إجابات كثيرة عن المجتمع المصري و السينما حتى اننى اصبحتُ ايقن أنني لا أزال إلى التجريب، حتى أنني فكرتُ في كيف يمكنني بدء مشروع سينما فقط لأدرس الناس، و لكن بالطبع لم أفكر في بدء مشروعي المجنون هذا .

إن مثلاً قومتُ بمثل هذا سأموت يوماً ما في صالات العرض، و لكنني جربتُ كثيراً على نطاق ضيق أثر السينما على الناس، و بحثتُ طويلاً عنها، حتى أنني في محاولتي القادمة سأتحدث عنه و رُبما في مقال أطول ، و لكن حتى هذه النقطة أود قول شيء واحد.

أحمد الله أنني أستطيع العيش في كل طبقات المجتمع، مشاهدة الأفلام في كل الظروف ، قبول كل الأذواق، و أنني و الحمد لله لستُ مضافاً إلى أي جمهور ، و أنني حتى اللحظة من جمهور الجميع، و في الخطاب القادم يا عزيزي الحبيب الذي وصل لهذه النقطة، سأكتب لك " أسطورة مشاهدة فيلم ما " .


  • 1

   نشر في 14 نونبر 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا