سلسلة: دمشق مع روسيل (1)
الموت هو البدايات
نشر في 15 شتنبر 2019 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
لا هدوء لنا في هذا العالم، ولا طمأنينة أيضاً
حيث ليلي اليوم لا يختلف عما سبقته تلك الليالي، إلا بضجيجٍ تعتليه أصوات كائناته، صرصار الليل، وديك مستيقظ حتى الساعة، ونباح كلاب يتحدثون ويتشاجرون مع بعضهم البعض، وصوت دراجات نارية مزعجة، والقليل من أنين حنين مرهق تكاد لا تلتقطه أنفاسي من نتوءات خماسينية، وأَبْصار غائرة في جدراني الأربع، وحديث شاب بصمته خارجاً من فمي.
صدقي يا عزيزتي أنني لا أبالي بما أسمعه، ولا أكترث بما تبصره عيناي أيضاً، لقد اعتدت على اعتياد الحاضر بما فيه من مازوخية، حتى تناسيتها بأصواتنا في الماضي، حيث كنا نعيش الفوضى بهدوء، والحرب بسلام، أتذكرين يوم التاسع من آذار؟
عند مقاطعة جسر الآداب، كنا نجلس بالقرب من الجسر أسفل شجرة صنوبر، بجانب الحائط كي لا تصيبك نيران رياح آذار، أذكر أنك قابلتني بشعر مبلل وطقس قارص، كُنتِ عنيدة جداً يا ابنتي، لم توقفك كل السبل لوصالي، وأنا لم أكن إلا ذاك الذي يصد الرغبات كرغبتك تلك باللقاء، وهذا لم يكن إلا من أجل صحتكِ لأنني على معرفة تامة بمناعتك الضعيفة التي لم تتحمل ذلك اليوم، حيث أسفر يومك عن مرضٍ تجاوزت مدته الأسبوع، فمن يدرك يا روسيل ما أعانيه سواك، ومن يعي أيضاً ما أقول، فأنا العالق بين أصوات الحاضر والماضي، الحاضر مزعج والماضي مؤلم، أعيشك باليوم عِدَّة أعمار، الندم والحسرة والفقدان، لا حنين بينهم، ولا شوق أيضاً، فلا تتعجبي، لست ممن يُحَضّر المفاجآت ويستلذها، بل أنا سيد الصدمات كما قلتِ أنتِ منذ زمن قريب بعيد، أتذكرين؟
لا شك أنك هنا، ولا شك أنك تذكرين، لأنني أذكر أيضاً ما قُلتِه في حزيران العام الماضي: لا تخف... الموت هو البدايات، نصير أطيافاً نعيش إيلامكم بينكم.
حينها رددت لكِ: إنه لمتعب جداً الإحساس بالقرب منكِ وأنا بعيد عنكِ أكثر مما أكون معك! فأنا البعيد القريب والقريب البعيد، كل ما أخشاه هو أن تكوني في ذاكرتي أقرب لي من الواقع حيث تعبت من استحضار الذاكرة لأظل سعيداً في الماضي، أرجوكِ هذه آخر مرة أسمعك وأنت تتفوهين بالموت كما قُلتِ منذ قليل.
على ما يبدو، أنها فعلاً كانت آخر مرة تذكر الموت بلسانها، أيا ليتها ظلَّت لسانية يا روسيل، أراد الفعل فعل فعلته ففعلها معك، وكأنك على دراية بالآتي، دون رحمة ولا رأفة، حيث الوقت تغيرت صيغته، فلا الساعات مرت كما يجب أن تمر، ولا حتى الدقائق، حواسي خانتني وخاصة بصري وسمعي، إذ أن الأصوات صارت بطيئة كما الصور في عينيَّ، وعقارب الساعة تتحرك دقيقة في كل ثانية وصوت التكات كان ساعة كاملة بدلاً من الدقيقة؛ كاد الانتظار أن يمزق الحقيقة بحقيقته، فالموت أصبح حياةً، والحياة صارت انتظاراً للموت وحباً له ولكِ... فماذا أنتظر بعد موتك يا روسيل، وما هي الحياة بعد نفاذ الصبر يا إيلامي؟
-
Abdallah Kiwanعبد الله فيصل كيوان من محافظة السويداء -سوريا 21 عام ادرس هندسة الإضاءة في المعهد العالي للفنون المسرحية -والإخراج السينمائي في دبلوم علوم السينما. في رصيدي كتابين: رواية فِضَّة - دفتر الذاكرة في دمشق