داعش لم تحدث أي أثر على تفكير الإنسان العربي
نشر في 23 يناير 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
دائما ما تجسد تغير المجتمعات و الأمم في التاريخ في أحداث دامية كانفجار العنف و الحروب الداخلية و الخارجية و النزاعات الإثنية و الثقافية ، مع ما يوازيها من دمار و خراب و أثر سلبي على الإنسان و الأخلاق و المجتمع ، و تحاشيا لعدم تكرار الكارثة يعمل من قاسوا مر مذيق و لهيب العنف على إحداث تغيير راديكالي لكل أفكارهم و عقائدهم و تصوراتهم عن أنفسهم و عن الآخر ، و ذلك ما يساعدهم على النهوض من جديد لا بالعقلية القديمة التي أنتجت الخراب بل بثقافة جديد تجعل من الأخوة و السلام أساس بناء المجتمع و الأخلاق ، و هو ما يعزز اللحمة الإنسانية بين البشر و يفتح أمام مجتمعاتهم إمكانيات التقدم و الإزدهار ، و لعل مثال بريطانيا و أمريكا وفرنسا بعد الثورة و ألمانيا و اليابان و النمسا بعد الحرب العالمية الثانية أوضح دليل على ذلك .
إن الواقع الإجتماعي لأي أمة يعد انعكاسا مباشرا للفكر الذي يحمله أفرادها ، فبما أن واقع الإنسان العربي خرب فهذا يعني أن أفكاره مُخَرِّبَة . و من ذلك سعت مختلف الأمم التي أدركت هذا المبدئ إلى إعادة مراجعة أفكارها على هدي النقد الراديكالي المؤسس على المنطق و الإنسانية و صلاحية الفكرة للواقع الذي ستتنزل فيه و الزمن الذي ستعيش فيه ، ذلك من أجل شفط الأفكار التي لا مقدرة لها على العيش في زمن غير زمن اختلاقها أو مكان غير مكان ظهورها ، من أجل دحر الأفكار الميكروبية التي تلوث ذهن الإنسان و تفخخ إرادته ، فأي فكرة أو أيديولوجيا تضم الإنسان إلى جماعة أو ثقافة معينة و توهمه بأن كل الخير يوجد في هذه الجماعة ، و بالمقابل تكفر باقي الجماعات و الثقافات و توهم أتباعها بأن كل الشر ينبع من هناك ، فهي فكرة ليست قمينة بالتبني و لا الإتباع ، بل تستحق الإدانة أولا و دفعها إلى الإنقراض ثانيا .
درس التاريخ يعلمنا بأن مثل هذا الحدث يحتاج إلى ثورة ، يحتاج إلى وعي مؤسس و ليس جهلا مقدسا ، بل الثاني هو ما يجب دحره بواسطة الأول ، يحتاج إلى زعامة فكرية و إرادة سياسية و شجاعة بطولية ، ما إن تتحقق هذه الشروط حتى تصبح أي شرارة صغيرة تنبعث من الجسم الإجتماعي تؤدي إلى انفجار بركان كبير يتجسد على شكل فعل اجتماعي عنوانه "الرفض" ، رفض المجتمع بثقافته و سياسته و قيمه البالية و معتقداته الدوغمائية و تصوراته الديماغوجية اتجاه نفسه و واقعه و الآخر المختلف عنه . إذ لا يتحصل مخيال الأفراد على هذه الإرادة إلا بعد أن يصل واقعهم الإجتماعي إلى نفق مسدود ، يصبح معه الحل كامنا في تفجير و طرح كل تاريخه و ثقافته و نظمه القيمية و السياسية ، و وضعها على طاولة المراجعة و النقاش ، ذلك ما يؤدي إلى إنتاج مجتمع جديد و ثقافة جديدة و فكر جديد ، و أهم شي "واقع جديد" ، غالبا ما ييسر سبل التقدم و الإزدهار في ايطار اجتماعي يتمتع بالسلام و هو شرط أي مبادرة للإرتقاء .
كم تمنى مجموعة من المفكرين العرب أن تتوفر هذه الشروط و يتحقق هذا الوعي كي تَقدم "كارثة عظمى" إلى الوطن العربي ، كارثة على ماضيه و حاضره و ليس على مستقبله . كي يصاب هذا العقل العروبي بصدمة كبرى تُحتم عليه إعادة مراجعة أفكاره و عقائده و دوغمائياته ، ثم يتحرر منها عبر إعادة صياغتها في قالب تنويري جديد ، هو أقرب لروح العصر الذي نعيش فيه منه إلى عصر البداوة و القرون الوسطى حيث تشكلت أهم إيمانيات و أصول ثقافة هذا العقل . فلا يخفى مدى الكوارث التي حدثت في التاريخ العربي من مذابح و ثورات و حروب ، غير أنها لم تحدث أي أثر على الفكر العربي خصوصا اللاهوتي منه ، حيث كلما ازداد مقدار العنف تراكمت زيادة فقهيات تبريره أو شرعنته ، هكذا ظهر مجرمي الأمويين و الخوارج و العباسيين و غيرهم ، دون أن يحدث ذلك أي أثر يذكر على العقل العربي يحمله على أن يدرك أن هذه الجماعات التي خربت الواقع يخلقها فكره و ثقافته و تصوراته ، ذلك ما يحتم مراجعة هذه الأفكار و هذه الثقافة المتحجرة و تعويضها بأخرى تنبذ العنف ضد الآخر و تدعه وشأنه على الأقل ، و بالمقابل تسوق لقيم السلام مع الكل دون تمييز.
يمكن أن نقول أن الربيع العربي شكل مناسبة لائقة لظهور هذا الحدث المنتظر "حدث التحرير" ، مناسبة لتغيير كل شيء ، غير أنه بقي حبيس تغيير رأس النظام السياسي فقط ، دون هدم النظام كله ومن أساسه ، فالثورة الحقيقية ليس هي من تنادي بإسقاط النظام بل بإسقاط العقلية و الثقافة و المجتمع الذي خلق النظام . أكثر من ذلك تجددت المناسبة مع ظهور تنظيم داعش الإرهابي الذي ولد شبابه في مجتمعاتنا و تربى تربية إسلامنا و صلى في مساجدنا و تعلم في مدارسنا و جامعاتنا و مشى في شوارعنا و حاراتنا ، ثم بعد ذلك تحول إلى آلة نحر مجنونة تكفر و تقتل كل مختلف عن الفهم و الثقافة و السياسة و الثراث الإسلاميين بمعناه القروسطي ، و مع ما مارسه هذا التنظيم من كوارث و مجازر باسم الدين و الشريعة الإلهية في حق المسلمين قبل غيرهم ، لم يحمل ذلك المسلمين بعد على فقط الإعتقاد بإمكانية أن يكون هذا التنظيم فعلا نتيجة طبيعية إلى ما يعتمل داخل هذه الرقعة الشاسعة المسمات العالم العربي و الإسلامي ، بكل ما يتكون منه من تاريخ و تراث و ثقافة و قيم و سياسات .
و هو الإمكان الذي قد يدفع هذه الأمة التائهة إلى فتح نقاش نقدي بينها و بين ذاتها ، بينها و بين ماضيها ، بينها و بين ثقافتها ، بينها و بين الآخر ، هو النقاش الذي قد يساهم في مراجعة أفكارها و تاريخها و عقائدها الدينية ، لكي نستوضح هل داعش تمارس الإسلام فعلا كما يدعي التنظيم أم لا ! إذ يُستبان لكل دارس للتاريخ مدى معقولية و صدق هذا الإدعاء ، الذي يصدم المدرك له و الواعي بحيثياته ، إذ أن داعش لم تسقط من السماء بل هي ثمرة فاسدة لبذرة أفسد ، هي مولود متوحش لأم أكثر توحشا ، هذه الأم و هذه البذرة هي "ثقافة المسلمين" و تاريخهم الفقهي و السياسي و الإجتماعي ، داعش لم تظهر سنة 2012 بل عمرها يتجاوز 14 قرنا و لازالت حية ، هذه هي الحقيقة التاريخية التي تصدم أي دارس للتاريخ الإسلامي المليء بالفضائع و المجازر و المذابح ، التي أحدثها المسلمون في بعضهم و في غيرهم.
لماذا نقول ذلك ؟ لأن داعش ليست جماعة إرهابية فقط ، بل هي فكر و ثقافة و نمط عيش ، لا يخطئ ملاحظته أو تلمسه من يعرف ثقافة المسلمين بشكل عام ، التي تعيش في كل الأقطار التي يعيش فيها هذا القوم ، مجال تواجد داعش ليس مقصورا على العراق و سوريا (في الماضي القريب) ، بل حيث ما وجدت الثقافة الإسلامية وجدت الداعشية .
و للتدليل على ذلك نقول: بأن القاعدة الفقهية التي تقول بأن كل العالمين كفرة إلا المسلمين ، أي أن 85% أو أكثر من البشرية كفار و سيدخلون مخلدين في جهنم، بالإضافة إلى القاعدة الفقهية التي تحصر الأخوة في من يشترك في الإيمان فقط ، أي أن المسلم الفيليبيني أخ للمسلم المصري رغم بعد المسافة الجغرافية بينهما ، غير أن القبطي في مصر ليس أخ لجاره المسلم لأنهما مختلفان في الدين و أن كليهما كافر في نظر الآخر و بالتالي يحرم ود أو مآخات بعضهما البعض . القاعدة الفقهية التي تبيح الهجوم و الإعتداء على غير المسلمين و فتح أراضيهم بالقوة ، إذ لا يزال المسلمين يؤمنون حتى اليوم بأنهم سيفتحون روما و باريس و واشنطن في آخر الزمان حتى يغلب و يسود الإسلام على باقي الأديان . هذه عينة صغيرة من الأفكار المدمرة التي يؤمن بها المسلمين و هي نفسها التي أنتجت داعش و غيرها من العصابات الإرهابية . لكن مع ذلك يلوك بسداجة هؤلاء البشر في هذا السقع المتخلف من أسقاع الأرض بأن داعش لا تمثل الإسلام رغم أن كليهما يصدران عن نفس الإيمان و العقيدة و الفكر . و هو ما يؤكد أن هناك مرض في هذه الأمة لا يسعنا كيف نشخصه .
فمع كل ممارسات داعش الموغلة في الحيوانية و التوحش التي شاهدها المسلمون و معهم العالم كله ، من تقطيع للأيدي و جز للرؤوس و جلد للظهور و حرق و رمي للجثث من الأعالي ، رغم كل هذا لا زال المسلمون يطالبون بتطبيق الشريعة و إحياء الخلافة و أسلمة الثقافة و الحياة ، أليست هذه علامة من علامات العته و الحمق الذي أصاب هذه الأمة ، إذ أن المطالبة بالشريعة تساوي تماما المطالبة بالدعشنة و الحيونة و التوحش.
معلوم لغير مرضى العقول أن مشروعية و صلاحية أي فكرة تأتي من نتيجتها العملية في الحياة ، إذا أتت بالصلاح فهي صالحة ، و إذا أتت بالطلاح فهي طالحة ،إذا أتت بالكارثة فهي كاسدة ما يستدعي تغييرها بفكرة أخرى أكثر إنسانية و صلاحا ، هذا المنطق يبدو أنه لا يشتغل في الوطن العروبي ، إذ أن فكر التكفير و الغزو و العنف دمر الوطن العربي على مدى أكثر من 14قرنا، و مع ذلك لم يفكر العرب بعد في تغييره ، و كأن بلاد العرب صحراء المتغيبين الذين لا يعقلون و لا يفكرون بل و لا يشعرون . إلى الآن لم يدركوا بعد أن هذا الفكر مدمر و يجب إصلاحه أو التخلي عنه ، إنه فكر يجعلنا في موقف ضد العالم كله ليس معنا فيه أي أحد .
بدل ذلك يدرسون هذا الفكر الأسود في مدارسهم و جامعاتهم و مساجدهم و يبسقونه على العالم بأسره عن طريق إعلامهم الديني و السياسي . و هو ما جعل باقي دول العالم تصدر لبعضها البعض السيارات مثلا أو الخضر أو وسائل التكنولوجيا ، و الوطن العربي يصدر للعالم الإرهابيين و الإنتحاريين ، يصدر من لا يُطمئن بجوارهم مخافة أن يفجروا أنفسهم و يمشي في سبيل إرهابهم الأبرياء . هكذا أصبح غيرنا يخترع وسائل الإستمرار و نحن نخترع وسائل العرقلة و الأزمة ، هكذا هم اخترعوا TOYOTA و SUMSUNG و MERCEDES ، و نحن اخترعنا "سيارة مفخخة" ، بحيث إن العالم يخترع وسائل الحياة و نحن نخترع وسائل الموت .
لا يخفى عن الباحثين و الدارسين أن الوطن العربي مقبل على أزمات أكثر مما هو غارق فيه الآن ، بسبب هذه الثقافة و هذه التربية و هذا الفكر و هذا التدين المعتوه ، الوطن العروبي أضحى كبحيرة تجف و هي مليئة بالسمك ، و هذا السمك يأكل بعضه بعضا ، لأن ماء الحياة قطع صبه في هذه المنطقة بسبب ثقافة تكفير الآخر ، الذي لن يأتي ماء الحياة إلا عن طريق التفاعل معه بشكل إنساني خلاق للتعاون و التعايش ، غير أن المسلمين لا يتعايشون مع بعضهم فما بالك مع غيرهم .
إن الإبقاء على ما يضر الإنسان و عدم التخلى عنه و تغييره ، يشي بأننا أمة في طور الإنقراض و الموات حيث لا مقدرة لنا على تغيير واقعنا رغم إتاحة غيرما فرصة لإحداث هذا التغيير ، إننا أمة تشبه ميتا هرب من قبره و لا يدرك أن غيره حي. فإذا كانت داعش بكل ممارستها المتوحشة لم تحملنا على تغيير فكرنا الديني الكارثي فأي شيء آخر عساه أن يدفعنا إلى سلك مسلك الإصلاح و التغيير ؟!