أحلام! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أحلام!

  نشر في 13 شتنبر 2020 .

كانت تتوقع ما الذي ستجده حين تفتح النافذة، لكن التفاصيل الصغيرة تلك هي التي تصنع يومها، قناعتها الضيئلة المتكورة حول ما سيحدث بعد قليل تصنع لها بهجات مختلفة، صدق من قال "القناعة كنز لا يفنى"


لفحتها نسمة هواء حارة، إنه أيلول ومع ذلك تقارب درجة الحرارة الأربعين، تطاير حجابها قليلاً وكشف البعض من شعيراتها التي سارعت لإخفائها، لم يمنعها هذا الوقت القائظ بالحرارة أن تراقب أو تتراجع للخلف، 

الحادية عشر ظهرًا، الوقت الجديد الذي ينصرف فيه الطلاب من مدارسهم إثر الجائحة المقيتة، تتذكر حين مشت من نفس هذا الطريق مرتدية "مريولها" الأخضر قبل سنوات طويلة، لكن الشارع اختلف كثيرًا منذ وقتها، دكانة الحي ذات الباب الخشبي الأزرق التي اعتادت أن تعرج عليها لتجلب لوالدتها الأرملة بعض الحاجيات أُغلقت وفُتح مكانها "سوبر ماركت" حديث بباب متحرك يفتح حين يستشعر مرورك من أمامه، الخالتان زهرة وليلى الجالستان على شرفة منزلهما وهما تقضمان بعض بذور دوار الشمس وترميان قشوره على الأطفال المشاكسين الذين يحاولون سرقة الخوخ من الغصن المتدلي من حديقتهما نحو الشارع، توفيت الأولى منهما عام 2010 وما لبثت الأخرى ورائها شهوراً حتى لحقتها، تقول أمها أن أرواحهما كانتا متعلقتين ببعضهما كثيرًا لهذا لم تتحملا الفراق أكثر من هذا، أما العجوز أم سعيد فما زالت نوارة الحارة، تاريخ المكان كله تحتضنه في قلبها الضعيف الغض، تروي للأطفال كل القصص القديمة، كيف تغيرت البيوت بتغير قلوب ساكنيها، وكيف أصبحت عبارة عن علب كبريت صغيرة مكومة فوق بعضها البعض وكيف أن شرارة صغيرة تكفي لأن يندلع حريق في المكان وتنقطع العلاقات للأبد!


كانت مدرسة يونس بالقرب من هنا، المدرسة نفسها التي يرتادها شقيقها الصغير الذي بلغ الآن سبعة عشر عامًا، دائمًا ما تساءلت متبرمة لماذا هي الوحيدة التي تأخرت في الزواج بين صديقاتها وبنات خالاتها، وكانت والدتها تضحك دائمًا وتردد على مسامعها "ع شو مستعجلة يمّا، ع الواع والويع، عيشي الحياة يا هبلة، ولا مفكرة الجيزة أحلام وردية زي المسلسلات، ااخ شو ضاحكين عليكم يمّا" 


كانت تظن أن والدتها لا تفهمها أبدًا لهذا في النهاية لم تعد تعترض أمامها، ولكن بعد سنوات وحين ظهر يونس بالتحديد عرفت لماذا تأخرت كل هذا الوقت، ولماذا لم يأذن المولى بسفرها للخارج حين كانت هي المرشحة الأولى للمنحة الدراسية التي أرادتها دائمًا، تعبت والدتها في ذلك الوقت ودخلت المشفى إثر عملية زائدة دودية لعينة لم تتذكر أن تنفجر إلا في ذلك الوقت، بكت كثيرًا حتى أن عينيها تحولتا لدب الباندا طوال أيام لكثرة الاسوداد حولهما، كانت صحة أمها هي الأهم، وخاصة وهي يتيمة مذ كانت في الخامسة عشرة من عمرها، كانت تثور تائرتها كل فترة صغيرة بسبب هذا الأمر، "والله يا ماما بغص قلبي لما اشوف صاحباتي كملوا دراسة، وأنا لساني مكاني، بتعرفي قديه كنت بحب الاوراق والكتب وريحتهم وكيف بضيع بينهم، ما بحكيلك عشان تنقهري، بس إذا ما حكيتلك وانتي أمي لمين بدي احكي" تنفرط بكاءً في مثل هذه اللحظات ولا تجد صدرًا أرحب من صدر امها ليتقبلها،


في تلك الحارة الصغيرة كانت والدتها مقدرة جدًا، على عكس الأفكار الرائجة عن كون الأرملة محط عيون الأنذال، ربما كان لطف المولى بحالهم، حاولت جدتها أن تضمهم إليها لكنها فشلت، لا زالت تذكر تلك اللحظة، حين خرجت أمها عن طورها صرخت في جدتها "بدك إياني أترك دار أبو أحلام، لا والله، ما يخرجني من هون إلا الكفن" 


أبو أحلام، والدها، الآن وبعد سنوات غابرة بعيدة عنه، لا تحمل له الكثير من الذكريات، لكن واحدة كانت تشفع لكل شيء، لم يكن يظهر عاطفته أبدًا، لكنه بقي أبو أحلام، حتى بعد مجيء الصبي بعدها بسنوات صعبة مضت في أروقة المستشفيات لأجل الحمل، وحين كان أحد في الحارة يناديه بأبو مالك كان يصحح مسرعًا "مالنا يا زلمة، أبو أحلام" كانت تشعر أنها الطريقة الوحيدة التي يجيدها للتعبير عن حبه لها وعن ثقته بها وعن كل آماله التي يعلقها عليها، 


يونس كان يشبهه كذلك، ربما لهذا وقع قلبها لأجله، يعبر عن حبه بطرق مختلفة،

ظهر من خلف المنعطف الذي يبعد عن نافذتها بضعة أمتار، لوحت للصغار ورمت لهم القليل من الحلوى التي تعودوا عليها، يتقافزون كأنهم يقفون على "زنبرك" لأجل أن يحصل الواحد منهم على أكبر قدر ممكن، 

حين تقدم يونس لخطبتها، همست أمها في أذنها "شايفة لو كنتي مسافرة ولا بعدتي ما كان حصلتي يونس، كل تأخيرة فيها خيرة يمّا، بحياتك ما تسألي ربنا ليه، لا دايمًا اشكريه عشان يعطيكي أكثر" لم تستطع منع دموعها من الانهمار، 

"شايف يا أبو أحلام، اجى مين ياخد بنتك، ان شاء الله أكون قد أمانتك وأكون أديتها صح" 

تتكلم مع صورة والدها المعلقة في منتصف الصالة ويقطعها شريط أسود من الطرف، التفتت ليونس وأهله "شوف يمّا يونس، ربيتها بدموع عيني، وسهرت عليها ليالي، تركت منحتها عشاني، ربت اخوها كأنه ابنها، وشالتني لما كبرت كأني بنتها مش أمها، بالجامعة اشتغلت ودرست عشان تريحني من المصروف، يا بدير بالك عليها وبتكون قد الأمانة، يا رح أسألك عنها وأحاسبك عليها في الدنيا قبل الآخرة بين ايدين ربنا، مش بس أنا، حتى أبو أحلام ما رح يتركك بحالك لو زعلتها" 


انفجر الجميع ضاحكًا حتى أنه هيء إليها أن والدها يبتسم في الصورة من خلف الإطار! بكت ذلك اليوم بقدر سعادتها بيونس وأهله، بقدر العوض الذي رزقه الله لها جراء صبرها الطويل لكل ما مروا به، 


مشى من تحت نافذتها، سلّم عليها واستفسر عن أحوالها، هنا ظهرت الخالة أم سمير في الصورة، دائمًا ما تقطع لحظاتهما القليلة بالتدخل، وتبدأ تشرح شيئًا من طفولة أحلام له، وهو لا يملك إلا أن يضحك وأن تذوب هي داخل ثيابها من الخجل، 

"والله انك يا أم سمير حشاشة قلبي" 

غامزًا لأحلام، خرج صوت والدتها من الداخل "هالنصاب الكذاب مفكرنا هبايل، احكيله امي عازمتك اليوم عالغدا" 

"لا تفكريني مش سامعك يمّا، حاضر يا غالية، الغدا عندكم اليوم!" 

"ما أنا بحكي عمدًا عشان تسمع وله، شو مفكرني مستحية منك"


تقف بينهما مثل البلهاء تراقب بجذل طفلة "الردادة" و "النواحة" والدتها ويونس، تغيرت كثيرًا مذ قدم لحياتهم وباتت أكثر حيوية ونشاط، تشعر كأنه ضرتها، وكيف لا وهو يأخذ منها حبة عينها وقرتها الأولى، أحلام! 


ستسافر مع يونس بعد أسابيع، وستكمل دراستها وقد تخطت الثلاثين، لا يهم فوجود زوج يتفهمك ويقف معك يهون كل الصعاب، كما قالت أمها "كل تأخيرة فيها خيرة يمّا" وتذكري "ربنا لما بده يعطي بدهشك وبخليكي عاجزة عن الحكي" ما تخيلت للحظة أن يأتي العوض مرة واحدة!


  • 1

   نشر في 13 شتنبر 2020 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا