ضمير... يرجُ مياه بركة العهر الديني الآسنة
أمام الجدار الزجاجي لمقهى الوطن... أتأمل المشهد نفسه.. اعتدلت في جلستي، ارتديت نظارتي الطبية، كما أفعل دائما حين أستعد للقراءة.. ازددت ضيقا وأنا أطالع العناوين الكبيرة للجرائد...
لا شيء يلفت الإنتباه... وحده عرس دم العهر الديني يفتك بمهد الحضارات... هناك وعي تام بأن لا مفر من ضريبة الدم من أجل العيش الكريم...
أرشف قهوة مرة برغم قطع السكر التي وضعتها فيها... اللفافة لا تزال في فمي وقد أضحت على شفتي رمادا...
أعود لأتلصص عبر الزجاج... إنها حكاية مطر الدم منذ الصباح... وعلى وثيرة واحدة... أتأمل تلك الحبال المائية الملونة المتدلية من السماء... أرى فيها غضبي... قهري... نزفي السري... عبثي... ضجري...
لكن ما الذي حدث؟ ما الذي أفعله هنا؟... سأظل محترفا لسياحة العزلة... وأمتهن النسيان في شوارع حزينة ماطرة مكفهرة؟ متى كففت عن الرغبة في إيصال صوتي للآخرين... متى كففت عن الكتابة؟
مند أن غادرت حلمي لم أكتب حرفا واحدا، فلا أحاول ترتيب أفكاري واستعادة صوتي. ألم أجزم على عقلي لتصحيح مسار حياتي؟... ثم إنني لم أتقن يوما في تجميل الأشياء وإخفاء أسوأ ما فيها؟...
لماذا لا أعود وأناضل ضد كل ما يخرس صوتي بدلا من البقاء وحيدا كيتيم العصر؟...أليس من حقي أن أناقش وأرفض التدجين؟... أم إنني لست واثقا من رضا ولي الأمر عني؟... أنا الكهل العاطل عن حب كهنوت الدين....
غيام وسحب أمطار الدم تلوح في كبد السماء... وأنا منذ طفولتي أخاف السير تحت المطر... لماذا لا أغير سهو خطواتي وأقتحم البرك... وأترك المطر يغسل كل شيء... كل شيء...؟
الفكرة تنتشلني من عجزي. تدب في عروقي قوة عجيبة. انتفض فجأة... أنطلق هاربا من حلمي... أتجاهل الناس الذين يرمقونني بدهشة... لا أحد يهمني... شعري يتبعثر... نظارتي تسقط... أركض وحيدا بلا معطف أو مظلة... أمطار الدين تنهمر بوحشية... تبلل رأسي، وجهي، جسدي... رماح الحلال والحرام تصيبني... سهام الوصايا تنهال من كل صوب وحدب...
أظل أركض... أحارب... أجري على غير هدى... بصعوبة انتزع خطواتي... قراري... بصعوبة أدبُ على الأرصفة الموحلة... أنط فوق ألغام النصوص...
أنزلق... أتعثر... ألوك بقايا خيبة في فمي... عبثا أحيك خيوط حريتي كأي رجل من القطيع... أخترع لي مصيرا آخر خارج عدادات الموت التي تحصي الأنفاس وتكمم الحناجر...
وابل المطر لا ينقطع... شظايا العهر تتسلل بين جلدي ولحمي... يحتويني شعاع سلام حنون... قبس نور من ضمير يغسل صدري... يلعق خيبتي... جراحاتي تبرد... ندوباتي تلد أشواكا... صرخاتي تطفئ نار الذل... صرخة واحدة تلتصق بحنجرتي: الحرية... الحرية... الحرية...
سعيد تيركيت
الخميسات - المغرب- 30 / 05 / 2015