تتراجع قليلاً لتنكشف لك غرفته، مظلمة كـليل ديسمبر، عطنة كقبر، انكست جدرانها بخيبات آماله، وتزخرف بلاطها ببقايا الطعام والأوراق المبعثرة، وطاولة صغيرة تنزوي فيها نفسه حينما يتعب السرير من جسده.
تسترعى الأوراق انتبهاك ولكنه استيقظ، ببطء شديد تنفتح عيناه فتغزو الغرفة شعاع ضوء من شباك كان على يساره، رآه كما رأيته رمادياً لا يزيد الأمور إلا حزناً. يرفع ساعته فإذا هي الظهيرة، وإذا بها أحد عشر ساعة من النوم المقلق، لم يجُد عليه عقله بساعة واحدة منها لينعم فيها بنوم هادئ.
يعطيه عقله الستاتيكا في النهار والكوابيس في الليل، وتعطيه الكوابيس صلادة القلب، كما تعطيه أفكار تزداد بها أوراقه المبعثرة، ثم تُلم الأوراق وتُباع، ويعود بالمال يؤتيه الطعام الذي تراه يزخرف البلاط.
يخرج من سريره متجهاً للطاولة، بثقل شديد تتحرك أطرافه، حاول الإسراع قليلاً ليلتقم بعضاً من الطعام وبضعاً من الدواء قبل أن تنعقد. أضاء مصباحاً صغيراً على الطاولة فتراه لأول مرة - وأظنك تعرفه جيداً - قصير القامة، قصير الشعر، غائرة عيناه كالمفزوع، لم يكن له من الحظ في اللحم فاكتفى بقليله، لا تراه إلا ويختلط عليك الإجلال والشفقة، إعتاد إرتداء عوينات لتصحيح بصره ولكن ما فائدتها حين أصبح كل شيء رمادي، وما فائدة بصر سليم وبصيرة مشوشة؟
بالكاد رأيته يأكل حتى تملكك الملل، فتجول بعيناك في الغرفة فتنتبه لعدم وجود مذياع ولا مصدر للصوت المزعج، تعيد النظر مرات والنتيجة واحدة، لا شيء.
تحول نظرك عائدا إليه فإذا به انتهى، وبنفس الثقل يستعد لارتداء ملابسه، فيتملكك الملل مرة أخرى، تلتقط ما وقع تحت أقدامك من أوراق حتى انتهى، تلاحقه قبل أن ينغلق الباب، وتراقب.
ظهيرة المدينة مزعجة والزحام فج، المبان القديمة تحتال إلى مبان صناعية مؤذية للعين والنفس، والطريق طويل.
تراه يحاول إبعاد عينه عن رؤية المباني ويحولها للنهر فيراه الآخر أنهكته القذارة، وشاركه الإعياء والسخط.
مر ما يقرب من نصف الساعة منذ بدأ المشي ثم باغتك " يبدو أن اليوم أهدأ "
يتملكك الذهول وتدور بعينك باحثاً عن أحد، وسرعان ما تدرك أنه أنت.
إنه يراك، يرى نظراتك الفاحصة، انزعاجك من ثقله، تمللك، إنه يراك!
لم تكد تنطق حتى باغتك مرة أخرى "نعم أراك"
-أنا لم أتكلم!
=وأنا أسمع.
-ولكن كيف!
لايرد.
استحضر عقلك صوراً من الأوراق التي لم تدرك لها معنى حينها، وأضاءت لك كلمات "عدم الإحتمال" ، "قسم من نفسه رقيباً عليهاً" ، " أراه بخير فأدرك أني في النهاية بخير " ، " الأصوات تتصاعد "
يبدو أنك توقفت. تسترجع مكانك في الشارع وعلى جانبك النهر، تحول عينيك بين المارين لترى من تبعته فإذا به قد سبق، تهرول وتلحق به. يلاحظ عودتك فيتجه للنهر ويجلس.
"صفحة الماء كاشفة لكل شيء، حتى العقل" يخبرك بسكينة تجبرك أن تنظر، لم تلحظ بعد أنك لم تر نفسك قط.
تمر لحظات طوال ثقل على الشمس فيها الصمت فهمّت بالنزول، وصعدت صفحة الماء لعينيك فكسى الضباب كل شيء ونظرت له.
بادلك النظرة بضحكة ساخرة، ونظر مرة أخرى لصفحة الماء وزفر.
- إعتدت ضبابية الأمور، ولم أعتد عقلي أبدا، كان دائم السخط ودائم الرفض، يملأني برغبة دائمة في الصراخ والبكاء، ولكن الصمت كان ملاذي، فيسخط أكثر ويطيل العذاب أكثر، فاهتديت للهرب، وأحضرتك، اراقبك كما تراقبني، فأتوهم السلامة، ، لست الأول لعلّك لاحظت، ولكن الهرب لم يكن أبدا بحل، سرعان ما يعود عقلي للسيطرة، عليك، فتحبط رأسك الحيرة ويفتك بك التشوش، فآخذك للنهر، للحقيقة، وأوقن جيداً أني سأرجع وحدي.
تطيل النظر إليه ثم للماء، وترى نفسك مرة ثانية، قصير القامة والشعر، تغور عيناك من الفزع، هزيل البنية إن اشتدت الريح تذريك وينتهى كل شيء. يسيطر على رأسك الخدر وعلى أنفاسك الثقل، فتخلع عويناتك، وتلقي عليه نظرة مطولة يردها بسخرية كالعادة، ثم تلقيا نظرة على طريق العودة.
في الطريق يتساقط المارة واحداً تلو الآخر، تزداد الرمادية شيئاً فشيئاً، الظلمة تسود فتتطلع للغرفة وللسرير، ولكن الشمس لم تذهب بعد، ويختفي الطريق.
-
Hossam ElbahrawyI'm not sure