أين تقع مساكن قبيلة عاد؟ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أين تقع مساكن قبيلة عاد؟

  نشر في 25 ماي 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

لقد شغلت مساكن قبيلة عاد حيّزاً كبيراً من اهتمام العلماء والباحثين والمؤرخين، لسنوات طويلة، وبذلوا في معرفة مكانها الكثير من الوقت والجهد والمال، إلّا أن جهودهم كلها بائت بالفشل الذريع.

وكل ما ورد في القرآن عن مساكنهم، أنها بالأحقاف، ولكن أين هي الأحقاف؟ فلا يوجد في جزيرة العرب موضع بهذا الاسم.

وكأن الله تعالى إنما أشار إلى وصف بلادهم، لا لاسمها، إلّا أن تكون الأحقاف اسم الموضع الذين كان يعيش فيه بنو عاد، ثم تغيّر اسمه مع مرور الوقت، فأشار الله إلى موضعهم، بما كان يعرف به في زمانهم!

والحِقف وصف يطلق على كل ما انحنى واعوج من رمل أو جبل، وبما أن وصف بلاد عاد جاء بصيغة الجمع، فهذا يعني أن منازل قبيلة عاد إما تكون أرض جبلية أو أرض رملية.

وبما أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لم يبيّنا موضع الأحقاف، فقد اختلف المفسّرون في موضعها على قولين:

الأول: أنها بالشام، حيث تكثر الأحقاف الجبليّة.

والثاني: أنها بالرمال الواقعة بين حضرموت وعمان، حيث تكثر الأحقاف الرمليّة.

ولكن في القرآن ما يشير إلى أن بلاد عاد كانت أرضاً جبليّة، نجد ذلك وبصراحة في قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) والريع، وجمعه: ريعان، وصف لا يطلق في لغة العرب؛ إلا على المناقب التي تكون في المناطق الجبلية.

قال ابن منظور في لسان العرب: "والرِّيعةُ والرِّيعُ والرَّيْع: المَكان المُرْتَفِعُ، وقيل: الرِّيعُ مَسِيلُ الوادي من كل مَكان مُرْتَفِع .. والجمع أَرْياعٌ ورُيُوع ورِياعٌ، الأَخيرة نادرة .. والرِّيعُ: الجبل، والجمع كالجمع، وقيل: الواحدة رِيعةٌ، والجمع رِياعٌ .. والرِّيعُ: السَّبيل، سُلِكَ أَو لم يُسْلَك .. والرَّيْع: الطريق المُنْفَرِج عن الجبل؛ عن الزَّجاج، وفي الصحاح: الطريق ولم يقيّد .. وقوله تعالى: أَتَبْنُون بكل رِيعٍ آية، وقرئَ: بكل رَيْع؛ قيل في تفسيره: بكل مكان مرتفع. قال الأَزهري: ومن ذلك كم رَيْعُ أَرضك أَي كم ارتفاع أَرضك؛ وقيل: معناه بكل فج، والفَجُّ الطَّريق المُنْفَرِج في الجبال خاصَّة، وقيل: بكل طريق" اهـ

وعلى هذا فالأحقاف المراد بها في القرآن هي أحقاف جبليّة وليست رمليّة، مما يؤكد لنا، أن ما يشاع من أن الأحقاف التي كان يحلها بنو عاد هي الرمال الممتدة من بين حضرموت وعمان، قول مرجوح.

 أثبتنا سابقاً أن الأحقاف بلاد قبيلة عاد تقع في منطقة جبليّة، وليست رمليّة، وأن هذا يفيد أن ما أدعاه بعض المفسّرين والمؤرخين، من أن بلاد عاد كانت في رمال حضرموت لا يصحّ، بل هو قول مرجوح، وأن الصواب أنها بالشام.

وعند الرجوع إلى القرآن العظيم، نجد أن الله تعالى وصف مدينة عاد بصفات، قد تؤدي بنا إلى معرفة أين تقع مدينة عاد.

وسوف نعرض جميع الأقوال التي قيلت في تحديد موضع إرم ذات العماد، ثم نرجّح ما نراه صواباً منها.

وقبل أن نشرع في ذكر الأقوال، نريد أن نحدّد مميّزات مدينة عاد التي وردت في القرآن الكريم، لنقوم من خلالها بتحديد أي الأقوال هو الصواب، وإذا رجعنا إلى القرآن وجدنا أن صفات مدينتهم هي:

أولها: قال تعالى: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) فإذا كان هذا الوصف، يراد به مدينة، فقوله تعالى: (ذَاتِ الْعِمَادِ) تحتمل عدّة معانٍ، فإما أن يكون المراد بذلك: ذات المجد والشرف، أو يكون المراد بذلك: ذات الأبنية الطويلة الرفيعة. أو قد يكون المراد بذلك: ذات الأعمدة الكثيرة، فظاهر الآية يحتمل هذا المعنى أيضاً، لذلك سوف نأخذ في الحسبان، جميع هذه المعاني، ونقيس عليها.

وثانيها: قال تعالى: (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) فإذا كان هذا الوصف، يراد به المدينة، فهذا يعني أنها مدينة جميلة وخلّابة.

وثالثها: قال تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) أي: أن لها قرى تتبع لها منتشر في أصقاع متعددة وليس محصوراً في حدود مدينتهم الكبيرة، في كل منها أبنية فريدة الصنع.

ورابعها: قال تعالى: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أن مدينة إرم ذات العماد وتوابعها من القرى، قويّة البنيان قادرة على تحمل العوامل الطبيعية.

وخامسها: قال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ) أي: أن قريشاً في رحلاتها التجارية، كانت تمر ببلاد عاد، وقراها، كما كانت تمر ببلاد ثمود، وكانوا يرون مساكنهم، وما حلّ بهم.

وسادسها: قوال تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) أي: أن مدينة عاد وتوابعها من القرى مبنيّة في مناطق جبلية، أو تكثر فيها الجبال، بدلالة والريع، وصف لا يطلق إلّا على المناطق الجبلية كما قدّمنا.

وتتلخص أراء الباحثين والخبراء في تحديد موقع مدينة عاد في ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنها قلعة أوبار، الواقعة في منطقة الشصر، بصحراء ظفار، بحضرموت، حيث عثر مؤخراً في تلك المنطقة، على قلعة ثمانية الأضلاع سميكة الجدران بأبراج في زواياها مقامة على أعمدة ضخمة يصل ارتفاعها إلى تسعة أمتار وقطرها إلى ثلاثة أمتار.

وهذا القول باطل، فهذه القلعة لا تتحلى بأي صفة من صفات مدينة عاد، فهي ليست سوى قلعة حربية أقيمت على شاطئ بحر العرب، زيادة على أن جميع ما عثر عليه من مقتنيات أثرية داخل هذه القلعة، تم التأكيد على أنه تمت صناعته في العصور الإسلامية، مما يجعلنا بعيدين كل البعد عن التصديق بأن تكون هذه القلعة البسيطة هي مدينة عاد، المدينة العظيمة التي لم يخلق مثلها في البلاد.

والقول الثاني: يرى أنها كانت جنوب الأردن، حيث يوجد في تلك المنطقة جبل كبير يدعى: إرم، وقد أطلق على الوادي الذي يمر بحذائها اسم: وادي إرم، وفي طرف الوادي بئر أطلق عليها نفس الاسم، وتعرف ببئر إرم.

قال الهمداني في صفة جزيرة العرب: "وبحسمى بئر إرم من مناهل العرب المعروفة" اهـ

وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان: "إرم: بالكسر، ثم الفتح .. وهو اسم علم لجبل من جبال حسمى من ديار جذام، بين أيلة وتيه بني إسرائيل، وهو جبل عال عظيم العلو، يزعم أهل البادية أنّ فيه كروما وصنوبرا. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، قد كتب لبني جعال بن ربيعة بن زيد الجذاميين، أنّ لهم إرما" اهـ

واستظهر القائلون بهذا القول، أن إرم الوارد في قوله تعالى: (إرم ذات العماد) أنها اسم مدينة، كانت مبنيّة في هذا الموضع، وحملت اسم الموضع الذي بنيت فيه، فالعرب تطلق على مدنهم، أسماء المواضع التي يبنون عليها مدنهم.

ولكن هذا القول ضعيف أيضاً، فلا يتوفر في هذا القول من صفات المدينة المذكورة في القرآن، إلا الوصفين الخامس والسادس فقط، فلا يوجد في تلك البقعة، أي أثارٍ لمدينة عظيمة! وقد يكون لقبيلة عاد امتداد إلى هذه المنطقة، ولكن يستحيل القول بأن مدينة عاد، كانت في هذا الموضع.

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع إرم، أناساً من قبيلة جذام، وهذا الخبر لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة في الحديث والسيرة، ولكن إن صحّ- وهذا ظنّ - فهذا يدل على أنه لا يوجد علاقة بين هذا الجبل المسمّى إرم، وبين بلاد عاد، ولو كانت هذه المنطقة هي حقاً موضع قبيلة عاد، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتخليتها، ولحرّم ورود بئرها، كما فعل عندما دخل ديار قبيلة ثمود.

وأما القول الثالث: فيرى بعض الباحثين، أن أهرام مصر والمباني الهائلة، ذات الأعمدة الضخمة، هي مدينة عاد، معتمداً على ظاهر قوله تعالى: (ذات العماد) وفسّرها بأنها ذات الأعمدة الكثيرة، والحقيقة أن تلك المدينة جديرة بأن تكون هي مدينة عاد، إن صحّ أن ذات العماد، وصف لها لكثرة أعمدتها، حيث تطابقت أوصافها مع أوصاف مدينة عاد في أربعة مواضع، ولكنها اختلفت معها في موضعين، وهما:

أن تلك المباني ليست في مناطق جبلية، بل هي في صحارٍ جرداء.

ثم إن هذه المباني ليست في ممر قوافل قريش أثناء ترحالها إلى الشام أو إلى اليمن.

لذلك فالقول بأن تلك المباني هي مدينة عاد، هو الأخر لا يصحّ.

إذاً ومن خلال ما سبق، تبيّن لنا أنه ولا واحدة من تلك المواضع اجتازت الاختبار الذي وضعناه لمعرفة أيهن هي مدينة عاد.

ولكن هناك مواضع أخرى، تمتلك المميزات الستّ المذكورة أعلاه، ولكن الباحثين والخبراء يؤكدون على عدم وجود علاقة بينها مدينة عاد، فهل كان الباحثون والخبراء مخطئون، أم أنهم تعمدوا تزوير نتائج أبحاثهم في هذه الآثار لأغراض تاريخية ومادية!

فبعد بحث خاص أجريته على المدن الأثرية التي عثر عليها، تفاجأت بأن هذه المميزات الخمس، تنطبق تماماً على ما يسمى بالآثار الرومانية، والنبطيّة، في الأردن والشام وفلسطين، بل عثر على نظيرات لها في أسيا الوسطى، وإيطاليا واليونان والأسبان وشمال أفريقيا. كما أنها ذات أعمدة كثيرة، ومدن جميلة وخلابة، ومبنيّة بطريقة متينة وقوية.

فأما الآثار التي تنسب إلى الأنباط، فموجودة في البتراء وتدمر وبصرى.

بينما تنسب الآثار التي في جرش وفلسطين وأسيا الوسطى واليونان وإيطاليا وإسبانيا وشمال أفريقيا إلى الرومان!

ولا أدري لماذا اجتزأ المؤرخون - وأكثرهم من الغرب وذوي أصول أوروبيّة - الآثار الموجودة في جرش وفلسطين ونسبوها إلى الرومان ولم ينسبوها إلى الأنباط، ما لم يكن الدافع ادعاء وجود أثر للرومان على أرض العرب!

فجرش تقع بين البتراء وبصرى، وليس بين جرش وبصرى سوى قريب 35 ميلاً، وبين جرش والبتراء قريب 130 ميلاً، بينما تبعد عن تدمر، التي تعتبر ثاني المدن النبطية - حسب قول المؤرخين المعاصرين - قرابة 300 ميل! مما يؤكد قطعاً أن الأمة التي قامت ببناء البتراء وبصرى وتدمر، هي ذاتها التي قامت ببناء جرش والآثار في فلسطين.

والذي دفعني إلى القول بأن هذه الآثار المنسوبة إلى الرومان والأنباط تعود ملكيتها أساساً إلى قبيلة عاد، أن الأدلة المطروحة لإثبات ملكيّة الرومان والأنباط لهذه المباني ليست قويّة، وإنما هي قائمة على الظنّ والتخمين، وما فيها من شواهد ظاهريّة، لا تقطع بصحة ملكيتها لهذه الأمم.

إن أدعاء الباحثين أن الأنباط هم من قاموا بتشييد هذه المدن، قائم على حجتين:

الأولى: أن الأنباط هم أقدم من سكن هذه البلاد حسب المصادر المتاحة.

والثاني: وجود آثار الخط النبطي في كثير من هذه المواضع.

فأما الحجة الأولى، فإنه لا يعني عدم وجود شعوب سكنت في هذه المواضع قبل الأنباط في المصادر التاريخية المتاحة، عدم وجود شعوب سكنت قبل الأنباط في هذه المناطق حقيقة، وورثت الأنباط عنهم هذه المدن، فالتاريخ المدوّن لم يحفظ لنا كل شيء، بل إنه لم يحفظ لنا سوى جزء يسير جداً من التاريخ، فكون الأنباط هم أقدم من عرف في المصادر التاريخية في سكنى هذه البلاد، لا يعني بالضرورة أنهم هم من قام ببنائها، ويكون هذا الادعاء مجرد ظن.

وأما الحجة الثانية: فلنا أن نتسائل: ما الدليل على أن الخط المسمى بالخط النبطي، هو من ابتكار الأنباط حتى ينسب إليهم؟! الذي سمّى الخط النبطي بهذا الاسم، هو الأخر إنما زعم ذلك، لأن الأنباط هم أقدم من عرف في سكنى المواضع التي ينتشر فيها هذا الخط، فادعائه أن الأنباط أوّل من ابتكر هذا الخط، هو قول مبني على الظن أيضاً، وإلّا فقد تكون هناك شعوب سكنت قبل الأنباط في تلك المواضع، هي من ابتكرت هذا الخط، وكتبت به، وقد تكون هذه الشعوب، هي قبيلة عاد.

كما أنه لا يعني أن شعباً من الشعوب ابتكر خطاً، أنه لم يكتب به غيره من القبائل التي تتكلم بنفس اللغة، فقد يبتكر شعب حروفاً في الكتابة، تنتشر بين الشعوب الأخرى وتكتب بها أيضاً، فيأتي هؤلاء الباحثون، ليقولوا لنا: بأن الشعب الفلاني امتدت سيطرته على جميع تلك الشعوب، والدليل عندهم، هو أن خطهم موجود في تلك المناطق التي تسكنها تلك الشعوب!

فتبيّن بذلك أنه ليس هناك دليل قطعي يدل على أن الأنباط هم من بنو تلك البنايات، أو كتبوا بذلك الخط.

وأما ادعاء أن الرومان هم من بنى المدن في جرش والبنايات في جرش والإسكندرية وآسيا الوسطى، والمدن التي في ليبيا وتونس والجزائر واليونان وروما وأسبانيا، والبنايات التي في المغرب، فقائم على حجتين:

أولها: هو وجود بعض هذه المدن ذات الطراز المعماري الفريد في روما واليونان، وهذا من أهم الأسباب التي جعلت الباحثين الغربيين، يجزمون بأن هذه الآثار ملك حصريّ للرومان! ومع إقرار الباحثين الغربيين بأن الآثار المدنية في البتراء وبصرى وتدمر عربيّة، إلّا أنهم يزعمون أن العرب تأثروا بالفن الروماني في البناء - زعموا - وقلدوهم عليه!

وثانيها: هو عثورهم على نقوش وكتابات بالخط واللغة الرومانية في كثير من هذه المدن، وهذا إثبات أخر على أن الرومان هم من قاموا ببناء هذه المدن والبنايات!

والجواب على ذلك:

أولاً: أن البنايات الموجود في روما واليونان، قليلة جداً بالنسبة لما عثر عليه من المدن والبنايات في الشام والأردن، وهذا إن دلّ، فإنما يدل على أن الرومان - إن كانوا هم حقاً من بنى تلك البنايات - هم الذين تأثروا بالفن المعماري العربي في البتراء وجرش وبصرى وتدمر وفلسطين. هذا إن لم يكن أباطرة الرومان، هم من استقدم حرفيين عرب، ليقوموا ببناء مدينتهم على الطراز العربي.

ويدلّ على ذلك، أن العرب والفرس والمصريين، كانوا قد سبقوا الرومان إلى التمدن والحضارة بقرون طويلة، بينما كان الرومان - والذين كانوا يعتبرون أكثر شعوب أوروبا تحضراً مع تخلّفهم حيث كانت شعوب أوروبا التي تحيط بالرومان تعيش حياة بدائية جداً يسكنون في بيوت القشّ والخيام المتنقلة مع أخلاق وعادات هي أشبه بأخلاق وعادات البهائم منها إلى البشر - متخلّفون بكثير عن هذه الشعوب، وقد امتد هذا التخلّف الحضاري الذي كانوا يعيشون فيه، إلى قبيل بعثة النبي عيسى عليه السلام.

يقول المؤرخ اليوناني هيرودوست في تاريخه ما نصّه: "ويقال أن أحشويرش، كان قد ترك خيمته الحربية في عهدة ماردونيوس، لدى انسحابه من بلاد الإغريق، فلما وقعت عينا باوسانياس على هذه الخيمة، بستائرها المطرّزة ذات الألوان المختلفة، وزخارفها الرائعة المطرّزة بالذهب والفضّة، قام باستدعاء الخبازين والطهاة العاملين لدى ماردونيوس، وطلب منهم إعداد وجبة طعام كالتي اعتادوا إعدادها لسيدهم السابق، فأطاعوا الأمر، فلما رأى باوسانياس الأرائك الذهبيّة والفضيّة الجميلة، والموائد الذهبيّة والفضيّة، وقد أعدّ كل شيء للوليمة بفخامة لا عهد له بمثلها، لم يكن ليصدق عينيه لجمال الأشياء الموضوعة أمامه، ومن باب المزاح، أمر خدمه بتحضير وجبة عشاء إسبارطيّة عاديّة، كان الفرق بين الوجبتين مدهشاً بالفعل، ولما غدت الوجبتان جاهزتين، ضحك باوسانياس، وأرسل في طلب قادة الإغريق، وعند وصولهم دعاهم لإلقاء نظرة على المائدتين، وقال: يا رجال الإغريق، لقد استدعيتكم إلى هذا المكان، لتروا مبلغ حماقة الفرس، الذين يعيشون في مثل هذا النمط من الحياة، ثم قدموا إلى بلاد الإغريق، ليسرقونا نحن الفقراء" اهـ

وهيرودوست، عاش في القرن الخامس قبل الميلاد (500 ق م - 401 ق م) حسب تقدير المؤرخين المعاصرين.

فأي تخلّف يعيشه الرومان في تلك الحقبة، حتى جعلهم يتعجبون من فخامة مائدة طعام ملك الفرس! فماذا لو رأوا قصور المدائن وبابل ونينوى ماذا سوف يكون شعورهم؟ وهذا إن دلّ فإنما يدلّ على شدّة تخلفهم.

وهذه الحضارة البسيطة التي كان يعيشها الرومان في تلك الحقبة التي جعلتهم يتعجبون من فخامة مائدة طعام ملك الفرس، لم تكن من إبداعهم، بل كانت بفضل احتكاكهم بالشعوب المتحضرة، والمتاخمة لهم في الشام والعراق ومصر، جعلت الرومان يتميّزون عن باقي شعوب أوروبا البدائية، بشيء من الحضارة والتقدم.

لقد كان الرومان في تلك الحقبة، هي الأمة الأوروبية الوحيدة التي بنت المنازل، واتخذت الأسوار والحصون، وهذا بخلاف باقي شعوب أوروبا، الذين كانوا يسكنون في الخيام وبيوت القشّ، ولا يتمتّعون بأي نوع من أنواع الرفاهية والمدنيّة.

بل إن جميع العلوم التي أشتهر بها الرومان، كانوا قد أخذوها عن حضارات ما بين النهرين، في العصرين البابلي والآشوري، وهذا ما أقر به فلاسفة الإغريق القدماء.

يقول غوستاف لوبون، في كتابه حضارة بابل وآشور، ما نصّه: "وهكذا كان الإغريق الراسخون في المدنية يقولون بأعلى صوتهم أنهم أخذوا مدنيتهم عن مدارس العلم القديمة التي ازدهرت فوق مجرى الفرات الأدنى في العصور القديمة".

إلى أن قال: "ولذلك كان يقول ديودوروس وهيرودوتس وسترابون وأرسطو وأخرون أن نمو العقل البشري كان مترعرعاً وكاملاً فوق ضفاف الفرات قبل أن يولد ويظهر على ضفاف النيل" اهـ

وتمعن في قولهم: "أن نمو العقل البشري كان مترعرعاً وكاملاً فوق ضفاف الفرات قبل أن يولد ويظهر على ضفاف النيل" تجد فيه دلالة صريحة، على أن الرومان كانوا عيال في العلم على أهل العراق أولاً ومصر ثانياً.

مع أن العلم الذي تلقاه الرومان عن أهل العراق ومصر، كان علماً مدخولاً، بمعنى أن منه ما هو علم حقاً، كالهندسة والصناعة والزراعة ومعرفة الفصول والاتجاهات، ومنه ما هو مجرد سحر ودجل وشعوذة وادعاء لعلم الغيب وفلسفة.

بل إن أقدم فلاسفة الإغريق، وهو طاليس الملطي (نحو 624 - نحو 546 ق.م) هو رياضي وعالم فلك وفيلسوف يوناني، وهو أحد «الحكماء السبعة» عند اليونان، لم يكن يونانياً ولا أوروبياً، بل كان فينيقياً، ومن المعلوم أن الفينيقيين عرب قدموا من الشام! والأغرب أن تعاليم طاليس الفلسفية في بعض جوانبها، شبيهة جداً بتعاليم الإسلام، ونحن نعلم أن الإسلام، هو دين إبراهيم عليه السلام، أبو العرب والعبرانيين!

انظر ترجمة طاليس الملطي:

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%B3

ومما يدل على ذلك، هو تأثر الرومان بالحياة الاجتماعية الشرق أسيوية، خصوصاً في الملبس، فإن الزي الروماني، سواء للذكور أو الإناث، يشبه إلى حدّ كبير الطراز المنتشر بين الأمم العربية وانتقل فيما بعد إلى الأمم الفارسية والتركية الشرقيّة والسنديّة والهنديّة، مما يدل على أن الرومان كانوا يتأثرون بالحضارات المتقدمة في زمانهم، فكانوا الشعب الأوروبي الوحيد المتحضر من بين مئات أو ألاف الشعوب الأوروبية، التي كانت تعيش حياة أشبه بحياة البهائم، منها إلى حياة البشر!

وبهذا نعلم أن الرومان ليسوا صنّاع حضارة، بل مستوردين لها، وبما أنه والحالة هذه، فكيف يقال أنهم هم من أبدع الفن الراقي في المدن المبنيّة في البتراء وجرش وبصرى وتدمر وفلسطين، وغيرها من البلاد.

إن المؤشرات تقول: بأن البنايات والمدن الموجودة في البتراء وجرش وبصرى وتدمر وفلسطين، هي فنٌّ محلّيٌ أصيل، أنتجته موهبة أهل تلك البلاد، وأما ما وجد في بلاد الرومان وآسيا الصغرى من ذلك الطراز، فله حالان:

الأول: أن الرومان استوردوا صنّاعاً عرباً ليقوموا ببناء تلك البنايات في بلادهم.

والثاني: أن تلك البنايات الموجودة في بلاد الرومان، سابقة لنشوء شعب الرومان، وبالتالي، هناك أقوام عربيّة سكنت تلك الديار قبل الرومان، وبنو تلك البنايات، ليهلك ذلك الشعب العربيّ، ويخلفه الرومان في سكنى تلك الديار، الذين ورثوا تلك البنايات، وهم لا يعلمون من أوّل من صنعها، ليقوموا بتجديدها والاستفادة منها.

وأما المدن والبنايات التي عثر عليها في مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وأسبانيا، فالراجح أن العرب عندما كانوا يهاجرون جماعات إلى تلك البلاد، قاموا ببناء تلك المدن واستوطنوها، فالذي يظهر لي، أن العرب أنفسهم تأثروا بالفن المعماري الذي قامت به قبيلة عاد، ومن هنا صار العرب أنفسهم يبنون مدنهم على نحو ما كانت عاد تبني مدنها، فالعرب انتقلوا إلى أماكن بعيدة عن جزيرة العرب، وتركوا آثارهم في كل موضع نزلوه، بل إن من العرب من بلغ أمريكا الشمالية، وهذا ليس في العهد الإسلامي القريب، بل قبل الإسلام بقرون طويلة، فقد عثر على نقوش وكتابات عربيّة في قلب الولايات المتحدة الأمريكية، تثبت انتقال العرب إلى تلك النواحي، في عصور قديمة جدّاً.

وأما احتجاجاهم بوجود نقوش وكتابات بالخط واللغة الرومانية في كثير من هذه المدن، فكما قلت سابقاً، بأن هذه النقوش والكتابات لا تصح أن تكون دليلاً على كون هذه الآثار للرومان، فأي أمة يمتد سلطانها إلى أرض أمة أخرى، سوف تستحوذ على جميع أملاكها، وربما تضع بصمتها على ممتلكاتها، فقد وجدنا مثلا البيوت الحجرية في مدينة الحِجر، مدينة قبيلة ثمود، قوم نبي الله صالح عليه السلام، عثر فيها على نقوش عربيّة شماليّة، وأخرى نبطيّة، وأخرى معينية، وأخرى إسلامية، مما يثبت أن الأمم عندما ترث آثار أمم أخرى، فإنها لا بد وأن تضع بصمتها على تلك الآثار، فليس معنى وجود تلك النقوش في تلك المواضع التي وجدت فيها، أنها دليل على أن الرومان هم من قام بتشييدها، ولا أدل على ذلك من أمرين:

الأول: أن المسرح - المعروف بالمسرح الروماني - في أسيا الوسطى، عثر فيه على نقوش بالخط الروماني، وكذلك نقوش باللغة السلجوقية، وذلك أن السلاجقة لما استولوا على تلك البلاد ورثوا ذاك المسرح، ونقشوا عليه بلغتهم!

والثاني: أن المسرح الموجود في المدينة الأثرية بشمال أفريقيا - ليبيا حاليا - وجد فيه على أثر كتابة رومانية، وقد أكمل عليه بالخط واللغة الليبيّة.

والثالث: أنه عثر في مقبرة أثرية في مصر، في منطقة تدعى: سقارة. والتي يؤكد علماء الآثار على أنها مقبرة رومانية، حسب زعمهم! على منحوتات مصريّة، لصور الآلهة المصرية القديمة، نحت في أسفلها بالخط الروماني، فهل نقول بأن الآثار المصرية هي في حقيقتها أثار رومانية لمجرد أن وجدنا الرومان نحتوا كلمات بأحرفهم على تلك المنحوتات؟ طبعا الجواب: لا يكون ذلك، بل في هذا دليل على أن وجود نحت بالخط الروماني على صرح أو منحوتة لا يعني بالضرورة أن تكون من صنع الرومان، وإنما الرومان نحتوا بأحرفهم على آثار موجودة مسبقاً وقبل احتلالهم للبلاد التي قاموا باحتلالها.

وقد عُلِم أن الرومان قد احتلوا مصر، واحتلوا ليبيا وتونس والجزائر، بعد أن قويت شوكتهم، وعظم أمرهم، لذلك عندما وجدوا تلك البنايات أخذوا في النقش عليها، وهذا كل ما في الأمر.

مع أني لا استبعد أيضاً، أن الرومان بعد أن تأثروا بالفن المعماري العاديّ في بلادهم، نقلوه إلى مستعمراتهم، في مصر وشمال أفريقيا، ولكنه رأي بالنسبة لي مرجوح وليس راجح، فالراجح أن العرب هم من بناها، والدليل على ذلك: أن الرومان إنما كانوا يكتفون بولاء الشعوب المغلوبة لهم، وما يقدمونه من أموال سنوية، يدفعونها إلى خزينتهم في روما، ويكتفون بوضع حامية لهم في تلك المنطقة، ويستحيل أن نقول، بأن هذه الحامية هي من بنت تلك المدن الجميلة في الأردن وسوريا وفلسطين وليبيا وتونس والجزائر وأسبانيا وآسيا الصغرى، لأنها مجرد حاميات، تعبّر عن سيطرة الرومان على المنطقة، ومهمتها عسكرية بحتة، حيث أنها مكلفة بإحكام قبضة روما على تلك المنطقة، وقمع أي تمرد يحدث من أهل البلاد المحتلّة، بينما العرب، كما هو ثابت تاريخياً، كانوا ينتقلون جماعات وبأسرهم وأموالهم، ويستقرون في البلدان التي ينتقلون إليها، ومن هذا حالهم، فلا شك أنهم عندما يبنون مدينة لهم، سوف يبنونها على الطراز الذي يعهدونه في بلادهم التي قدموا منها.

وهناك مؤشرات أخرى، تفيد أنه لا علاقة للرومان بذلك الفن المعماريّ، منها:

أننا لا نجد للرومان أي أثر معماري في الإسكندرية، إلّا شيئاً بسيطاً لا يكاد يذكر، مع أنهم يزعمون أن من بناها هو ألكسندر المقدوني - الذي حُرِّف أسمه في المصادر العربيّة والإسلاميّة إلى الإسكندر المقدوني، لأنهم لم يجدوا تطابقاً بين اسم البلدة الإسكندريّة، وبين اسم ألكسندر، لذلك حرّفوا أسمه ليؤكدوا على أن اسم البلدة مشتق من اسم مؤسسها الروماني المزعوم - أحد كبار أباطرة الرومان، أيعقل أن الرومان يستحدثون مدينة في شمال أفريقيا، على غير طرازهم الفني المزعوم! فالباحثون الغربيون أقنعونا بأن الرومان لا يبنون مدينة إلا بنفس الطراز المعماري الذي يسمونه الروماني! فما بالهم في الإسكندرية أعرضوا عن هذا الفن!

وهناك أقاويل تزعم أن ألكسندر المقدوني، هو من بنا ما يسمونه بـ "المدينة الرومانية" في جرش، لأنهم يريدون الفصل بين جرش كمدينة عربية بسيطة، ليس فيها أي أثر عمراني بارز، أو فنٍ هندسيٍّ متقن، وبين المدن الرومانية فائقة الجمال!

وهنا نعود إلى التسائل من جديد: لماذا لم يبني ألكسندر المقدوني مدينة الإسكندرية – التي يزعمون أن أول من أسسها هو ألكسندر المقدوني- على النمط الروماني المزعوم؟!

والجواب: لأنه في الحقيقة لم يبني الإسكندرية، ولم يبني شيئاً في الشام والعراق، لأن عبوره كان وقتياً، من ناحية، ومن ناحية أخرى، هي بالنسبة له، مجرد مدن محتلة تكفل الثراء والمجد لمملكته في روما لا أكثر، حتى قيل بأن ألكسندر عندما استولى على بابل، استولى على خزائنها، وبعث بها إلى روما، حتى أنه لكثرة خزائن بابل التي استولى عليها، كانت تساوي دخل روما لمدة ستّ سنين، أفيكون هذا عمل قوم ما تركوا شبراً إلا وبنو فيه مدناً مزدهرة غاية في الجمال، كما يزعم أحفادهم اليوم؟!

وهذه عادة الباحثين الغربيّين، لا يجدون أثراً يشبه النمط العاديّ، ولو بنسبة بسيطة، إلّا ونسبوه إلى الرومان، لا لشيء إلّا لأن هذا النمط موجود في بلادهم في روما واليونان، فمن ذلك: ما يزعمونه في شأن المسرح البابلي، في بابل، فإنه مسرح يشبه وبنسبة بسيطة المسارح في جرش وتدمر وغيرها من البلاد، ولكون ألكسندر احتل بابل في فترة من الفترات، زعموا أنه هو من بنا هذا المسرح!

ولك أن تتخيل كيف لحاكم لم يستقر في العراق وقتاً طويلاً أن يبني مسرحاً للّهو في بابل!

ولك أن تتعجب، كيف أن ألكسندر المقدوني، الذي بنى في مصر – فيما يزعمون - مدينة بأكملها، واستحدثها استحداثاً، لم يحدث فيها سوى النزر اليسير من الفن المعماري الروماني المزعوم، يكلّف نفسه عناء بناء مسرح في بابل ومدينةً كاملةً في جرش، مع أن جرش مدينة قائمة قبل أن تطأ قدماه الأردن والشام! ومع أنه لم يمكث في هذه المواضع طويلاُ، بل لم يثبت أنه أقام في جرش أو مرّ بها أساساً!

كما أن الرومان كانوا قد احتلوا بيت المقدس، أو ما كان يعرف قديماً باسم: أورشليم، بل كانت هذه المدينة هي مركزهم الأساسي في الشام، نظراً لمركزها السياسي في ذلك الوقت، فقد كانت عاصمة اليهود، ومع ذلك لا يوجد لهم في تلك المدينة أيّ أثر يذكر، فالآثار التي تنسب للرومان في فلسطين خاصة، توجد في نابلس، وفي سبسطية، وحمّام للاستحمام عثر عليه في النقب! وهي آثار بسيطة ومحدودة.

ولنا أن نتسائل، لماذا لم يُحدِث الرومان أي أثر هندسي في بيت المقدس مع أنها كانت من أهم مستعمراتهم، ويوجد بها الكثير من الحامية الرومانية، وهم في حاجة ماسّة إلى ما تعوّدوا عليه في بلادهم، فإذا كان الرومان هم بناة تلك القصور الفارهة والحمامات والمسارح، أفلم يكن جنودهم في حاجة إلى قصور، وحمامات، ومسرح، وغير ذلك في تلك المناطق التي أرغموا على الذهاب إليها؟!

وليس هناك تفسير لهذا كلِّه إلّا أن نقول: بأن هذه الآثار لا علاقة لها بالرومان!

ولنعد إلى جرش، فقد مرّ بها يا قوت الحموي، ووصفها في كتابه معجم البلدان، بأنها: "آثار عاديّة". أي: أنها ربما تكون آثار قبيلة عاد.

وتنبه إلى أن ياقوت رومي الأصل، ومثله لا يجهل اللغة والخط الرومي، وقد ولد في روما، وقيل في اليونان، عام 574هـ، ومع ذلك، لم يشر ياقوت الحموي مطلقاً لوجود خط روماني في جرش!

أفلا يكون هذا دليلاً على أن تلك النقوش والكتابات الرومانية إنما كتبت بعد زمن ياقوت الحموي؟ ولكن في أي عصر كتبت، وما مصلحة من كتبها لأن يكتبها؟

الحقيقة أن الجواب على هذا السؤال ليس صعباً، فإن تاريخ الباحثين في الآثار، فيه أمثلة كثيرة على تزوير الآثار، وأما الأسباب، فهناك أسباب عديدة، أسباب قد تكون مالية أو ثقافية، وهي هنا، لا تخرج عن هذين السببين.

وخلاصة ما سبق: أن هذه الآثار آثار قبيلة عاد، وانتشار طرازهم الفني في العمارة، لا يخرج عن سببين:

الأول: أن قبيلة عاد امتد نفوذها ليشمل أسيا الوسطى واليونان وروما وأسبانيا وشمال أفريقيا، فهي من بنت تلك المدن والبنايات.

والثاني: أن القبائل العربية كانت متأثرة بالفن المعماري العاديّ، لذلك كانوا يبنون مدونهم على ذلك الطراز، فتكون الشعوب العربية عندما تهاجر إلى أوروبا أو شمال أفريقيا، هي من بنت تلك المدن، وأن الرومان ربما ورثوا تلك المدن والبنايات بعد احتلالهم لتلك البلاد، فأثروا فيها بما أضافوه إليها من نقوش وكتابات.

والثالث: أن البنايات الموجودة في روما وتوابعها، إما أن يكون بنو عاد هم من بنوها، بحيث أمتد سلطانهم إلى تلك البلاد، أو أن الرومان قد استوردوا صنّاع عرب ليقوموا بتشييد تلك المباني لهم، أو أن حِرَفيّيهم تعلموا هذا الفن المعماري، وبنو على شاكلته في روما وتوابعها، ولعل من العمارة الأوروبية التي استوحت تصميمها من الطراز المعماري العادي، النافورة، والتي تسمّى: نافورة تريفي. والتي بنيت في سنة 1762م. والموافق لسنة 1175 – 1176 هـ، ثم قامت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، ببناء بيت الرئاسة الأمريكية على هذا النمط أيضاً، سنة 1792م الموافق لسنة 1206 – 1207 هـ.

وهنا أريد أن أنبه: إلى أن التاريخ الروماني الموثّق، قليل جداً، وأكثر التاريخ المسطّر اليوم عن الرومان، أكثره مجرد تلفيق من قبل المؤرخين، بناء على ما يعتقدون أنه آثارٌ رومانية، أو على ما وجدوه من آثار رومانية حقيقيّة، أو آثار مزوّرة أيضاً، فيختلقون بناء على هذه الآثار تاريخاً للرومان، قد لا يكون وقع سوى في مخيلتهم الواسعة.

فإذا كانت هذه الآثار التي في الأردن والشام وفلسطين، حقاً لقبيلة عاد، فإنه يوجد أكثر من موضع، يمكن أن يكون هو عاصمة مملكة عاد، خصوصاً الأثار الموجودة في جرش، والبتراء، وتدمر، وأما باقي الأثار الموجودة في الأردن والشام وفلسطين، فلا تحمل من الأبهة والعظمة والجمال ما يؤهلها أن تكون عاصمة قبيلة عاد، بل هي آثارٌ تابعة لها، ومتأثرة بنمطها الفنّي.

فإحدى هذه المدن الثلاث، هي عاصمة مملكة عاد، وأما بقيّة المدن فهي متأثرة بها، سواء كان من بناها من قبيلة عاد نفسها، أو أن القبائل العربية في الأردن والشام وفلسطين، الذين أخذوا في تقليد الفن المعماري العاديّ، وبنو مدنهم على نفس النمط.

وبعد إمعان النظر في هذه المواقع الثلاث، فإني أرشّح المدينة الأثريّة في مدينة جرش لأن تكون هي عاصمة قبيلة عاد، وذلك أن أوصاف هذه المدينة تنطبق تماماً مع أوصاف مدينة عاد التي ذكرناها سابقاً.

فعندما رأيت الآثار العتيقة، للمدينة الأثرية، التي بنيت عليها مدينة جرش الأردنية، أخذني العجب من بنيانها وهيئتها. وأكثر ما شدني في تلك المدينة، هي كثرة أعمدتها، حتى سميت مدينة الألف عامود، فكان أول ما جال في خاطري هو قوله تعالى: (إرم ذات العماد) كما أنها في منطقة جبليّة، تكثر فيها الريعان والأحقاف الجبلية، وبناياتها قويّة ومتينة، وفي غاية الأبهة والعظمة والجمال، وانتشارها في مواقع عديدة من الأردن والشام، يذكرني بقوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) كما أنها على طريق قوافل قريش عندما تزور الشام للتجارة، كما قال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ) فالصفات الستّ التي ذكرناها سابقاً تنطبق عليها كلّيّاً!

إلا أنه أعترض مسار هذا البحث ما تم إعلانه سنة 2014 م، حيث تم الإعلان عن العثور على حجر أثري، في الآثار الموجودة بمدينة جرش - والتي يرجح كاتب هذه السطور أنها مدينة عاد إرم - عثر في هذا الحجر المزخرف على كتابة بالخط الروماني ينص فيها على اسم مهندس إحدى المعابد الوثنية الذي أطلق عليه اسم: زيوس، في جرش، والذي ذكر في النص باسم: ثيودور زبيداس الجرشي! ويذكر اسم المتبرع ببناء المعبد باسم: ديوميتريوس! والذي وصفه الآثاريون بأنه من طبقة النبلاء في مدينة جرش! والحقيقة أنني كدت أن أضعف أمام هذا الخبر لولا أنني آثرت التريث للتحقق من صحة هذا الخبر.

فليس كل خبر يتم الإعلان عنه يكون بالضرورة صحيحاً، خصوصاً مع من لديه اطلاع كاف ومعرفة تامة بمدى التلاعب الذي يصنعه الباحثون الغربيّون، فبعضهم قد يتعمد تزوير الآثار، حتى لا ينقطع الدعم المادي، الذي تغدقه عليهم الجهات البحثيّة في الغرب، بل ربما تم تزوير الآثار من قبل الجهات البحثيّة نفسها، لأسباب تاريخية أو اجتماعية.

أخذت أشاهد هذا الخبر عدة مرات، فكان مما استوقفني في هذا الخبر أسماء سكان مدينة جرش، فالمهندس أسمه: ثيودور زبيداس الجرشي، واسم المتبرع ببناء المعبد هو: ديوميتريوس! وهذه أسماء رومانية محضة! ولعل سائلاً يقول: وماذا في ذلك؟ والجواب: أن جرش باتفاق جميع المؤرخين هي مدينة عربية منذ نشأتها، وسكانها هم العرب، بل إن اسم مدينة جرش اسم عربي.

وقد سميت بها بعض المدن في جنوب الجزيرة العربية، ومن المعلوم أن غالب القبائل العربية التي استوطنت الشام هي قبائل من الأزد وقضاعة ولخم وجذام وعاملة، وقد ذكر هيرودوست وهو الذي كان حياً - حسب الروايات الغربية - في القرن الخامس قبل الميلاد، أن العرب كانت لهم مملكة قوية في الشام في زمانه، أي قبل 1000 سنة من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، و 2400 سنة من الآن، وهذا يدل على أن العرب استوطنوا تلك الديار قبل زمن هيرودوست بزمن طويل، أهَّلهم فيما بعد لتكوين مملكة قوية في زمنه، ولا شك أن جزءاً من العرب، عندما حلّ في موضع مدينة جرش، وأسسها، أطلق عليها هذا الاسم العربي، والتي ضلت قائمة منذ ذلك اليوم إلى زماننا، فثبت إذاً أن من أسس مدينة جرش هم العرب.

وبهذا نجزم ببطلان قول من يزعم أن الرومان هم أول من أسس هذه المدينة ثم استولى العرب عليها بعد ذلك.

فإذا كانت جرش منذ تأسيسها قبل أكثر من 1000 عام من بعثة النبي و 2400 سنة من زماننا، وهي عربية، مع أول نزول للعرب في الشام، واستمرت جرش في أيدي العرب إلى اليوم! فكيف يكون سكانها من الرومان؟!

قد يقول قائل: لعل الرومان الموجودون في جرش هم عبارة عن حامية وموظفون رومان لضمان تبعية هذه المدينة للرومان!

والجواب: قد يكون هذا صحيحاً، ولكن يعترض على هذا كون المباني التي يدعى أنها للرومان تؤكد على أنها كانت مدينة ضخمة وقوية، بينما لو كان الأمر كما تقولون فالحاميات لن تؤسس مدينة بأكملها، بل سوف تؤسس ثكنة عسكرية أو ما شابه كما هي عادة الرومان، فلن يكون هناك مهندسون وتجار وأصحاب صنائع وما شابه من الرومان؛ لأن هذه الطبقات من المجتمع سوف تكون مقتصرة على أبناء المدينة المحتلة نفسها، ومن خلالهم يتم انتزاع الضرائب وإرسالها إلى روما لتزداد ثراءً وقوة، فروما لم تأتي إلى هذه البلاد لتتخذ منها محل سكنى وتقوم بتطويرها وتعمل على ازدهارها والتحسين من أوضاع أهلها المعيشية، بل جاءوا كجامعي ضرائب شأنهم شأن غيرهم من الأمم.

والحقيقة بخلاف هذا تماماً، فكما قدمنا أن جرش أسسها العرب، وأسموها جرش، وأن جرش اسم عربي، معناه: الموضع الكثيف الأشجار، والعرب لا زالوا في جنوب الجزيرة العربية يطلقون اسم جرش على بعض مدنهم، وأن الرومان هم من صحفوا نطق الاسم، فأسموها جراسا.

مع أن قولي بأن من أسس مدينة جرش هم العرب، لا يعني أن العرب هم من أسس تلك البنايات التي توصف بأنها رومانيّة، فقد تكون عاد هي من بنت تلك المدينة، وجاء العرب ونزلوا بجوارها، وبنو لهم مدينة أسموها جرش.

وكما ذكرت سابقاً عن ياقوت الحموي، فإنه لم يذكر مطلقاً أي أثر لوجود نقوش أو خط روماني في البلدة، مع كونه رومي، ويجيد اللغة الروميّة، وهذا مما يقويّ الشك في عدم صحة هذه النقوش والكتابات الرومانية المزعومة!



   نشر في 25 ماي 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا