تلهمني القطارات للكتابة، ما بين محطة ومحطة، وما بين لعبة الحركة والسكون، وصوت القطار.. يلهمني ذلك الجو العابر، تصادف وجوها قد لا تراها مرة أخرى، وقد تنساها بمجرد ما أن تغادر محطتك المنشودة، وتصادف وجوها أخرى لا تستطيع أن تحيد بها عن ذاكرتك، تظل راسخة مدة طويلة بعد رحلتك.. ربما لشبه بينها وبين أشخاص تعرفهم، ربما لشيء يميزها عن الباقين، ربما لقصة روتها لها، في إطار كلاسيكية قصص الغرباء التي تنتهي بمجرد أن تنتهي الرحلة، كمن يسكب الماء في الرمل، أو كمن يبوح للبحر أو الصحراء ثم يمضي في حال سبيله دون خوف من العواقب. عابرو السبيل كالقلم والورق، لا يمارسون الرقابة عليك ولا يعاتبونك ولا يأخذون انطباعا سيئا عنك.. يسمعونك وفقط ويتبادلون الأخبار والأفكار معك، في لحظات صدق وتجرد من الأفكار المسبقة والخلفيات قل نظيرها في مجتمعاتنا التي تصارع من أجل الظاهر ولا تهتم كثيرا بالباطن. لا ألوم المجتمعات المنافقة، فقد أجبرت على النفاق. كل فرد منا يتوق للصدق والحرية والصفاء والتصالح مع الذات ومع الآخر لكنه يجد نفسه في مواجهة جيوش مجندة من الالتزامات والمسؤولية المعنوية وتضارب المصالح المشتركة، فنحن لسنا مجتمعا فردانيا، لازلنا مجتمعا يؤمن ويتعامل بمنطق القبيلة لحد ما.. وهذا أمر مفهوم، فقبيلتك هي التي تؤازرك، ولو حدت من حريتك... ويمكن اعتبار ذلك ضريبة للمنافع الكثيرة التي تجنيها وسط قبيلتك وعشيرتك ومجموعتك ومجتمعك بمفهوم أوسع. الحرية أمر نسبي كذلك، أهم حرية في رأيي هي حرية التفكير والتجوال، ما عدا ذلك مجرد تفاصيل.. التماشي مع عادات المجتمع ليس بالضرورة سيئا، بل أحيانا يكون أمرا محمودا، باستثناء عندما يتعارض ذلك مع الكرامة والعدل، فلا تطبيع مع اي عادة فيها انتقاص للكرامة وفيها جور وظلم. أما ما دامت كرامة الإنسان مصونة، والحياة الخاصة محفوظة، فلا ضير في اتباع النمط السائد في الحياة العامة بمجتمع ما، مع فصل واضح بين المجال الخاص، حيث الحرية حق مسلم به، والمجال العام، حيث مراعاة الآخرين ضرورة.
وصلت محطتي وأوشكت الرحلة على الانتهاء ومازلت الأسئلة مستمرة والحقيقة بعيدة.