روبرت شيكبازوف.. وحماقاته الوجودية (2). - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

روبرت شيكبازوف.. وحماقاته الوجودية (2).

لَوحاتٌ من الذاكرة.

  نشر في 22 نونبر 2016 .

التفت إليه وقال: اسمع لقد قلتُ مِرارًا، إذا كُنتَ قادرًا على الحذف والتكثيف بإمكانية كبيرة، فأنتَ كاتبٌ جيد.

وإذا كنت قادرًا على المرواغة في النص والتّملك من خيال القارئ فأنتَ كاتب مُمتاز..

أمّا إذا كُنت قادرًا على أن تفقه لغة الموت.. فأنتَ كاتبٌ مُدهش.

إنَّ فعل الكتابة أشبه بِفعل تبادل.. أو لنقل عقدٌ بين شخصين، القارئ والكاتب.. وهُنالك شخص في هذا العقد يظلّ مُسيطرًا بِحكمِ أدواته..

ولكي يتم هذا العقد بنجاحٍ كبير.. فعلى القارئ أن يتمتع بالمهارة الكافية.. وعلى الكاتب أن يتمتع بالمهارة الكافية.

إنَّ غبنًا واحدًا.. من شأنه أن يُحدث شروخًا في النص.. الكاتب يا روبرت عليه أن يقرأ القارئ أولاً.. والقارئ عليه أن يسأل نفسه.. لماذا أقرأ.. وكيف؟

فعل الكِتابة مُبادلة لطيفة بين شخصين.. فالكاتب حين تبلغ مشاعره أن تُنهكه فإنّه يُترجمها لِكلمات.. يلجأ إليها القارئ حين يشعر بأنه يفقد القدرة على العيش.. وعلى الدهشة.

تذكّر ذلك جيدًا.. في مسيرتك الأدبية.

ليس عليك أن تصفَ فقط يا روبرت.. فَمن شأن أيّ إنسان أن يصف.. ولكن دعني أسألك.. هل من شأن أيّ إنسان أن يجعل من صخرة قبيحة، مَنحوتة جميلة وقِطعة فنية رائعة، بالتّأكيد لا.. وهذا هوَ عمل الكاتب الأول.. ”النحت“.

لنعود لموضوع الموت قبل أن يأتِ القطار:

”إنَّ الموت، هذا الذي نَحسبهُ غريبًا.. وأُحجيةً وجودية يُفضي التفكير بها إلى الجنون.. هِي _بِنظري_ عبارة عن بذرة تقبع بِداخلنا.. ينظرُ إليها من الخارج شُعاعٌ شمسيّ، نعم شعاعٌ شمسيّ يظلُّ يتوغل إلى العمق بِخفةٍ.. ولكن حين يصل في مرحلةٍ ما إلى تِلك البذرة الكامنة.. فَإنّه يتحول إلى ظلمة داكنة.. موحشة، تُثير الغثيان.

إننا لا نجد هذا كلّه في الظِل.. يتمكن منّا فقط في مواجهاتنا وانكساراتنا وصدماتنا واشتياقنا الفارغ للأشياء..

يتّمكن منّا هذا الشعاع مع كل فقد وخيانةٍ وتشويه وتجويعٌ للأسئلةِ من الأجوبة.

عندما يلتف بك هذا الشعاع ويتمكّن منك.. وحين لا يعد بمقدورك الإستمرار.. تصبحُ أنتَ الظلمة الموحشة وفي عُشرٍ من الثانية ربما..

إن روحك وحدها.. تاريخك وذكرياتك هي التي تشفعُ لك ، فَعُد لنفسك يا روبرت.. لا تُحاول الهرب منها ولا تخف من الموت لأنهُ بكلِّ بساطة لا يخاف منك.. هوَ قابعٌ بداخلك.. وداعًا..“

كان قد سأله قبل رحيله: ما فشلك الأكبر في الحياة..؟

أجابه: ”إنَّ أكبرَ فشلٍ مُنيتُ به، _رغمَ نجاحي أن أكونَ موسيقيًا_ هوَ أنيّ لم أتمكن من أن أُذيقَ الحمقى لذة الألحان.. سماعها.. والتّلاعب بها.

ينظر للناحية الأُخرى.. يُغمض عينيه، يرفع يده عاليًا.. يُمسك الهواء بحركة خاطفة.. يلتفت ناحية روبرت من جديد ويقول له: سُحقًا!!.. هذه اللذة، أتشعر بها يا روبرت؟!.. انكسار لحن القيثارة في آخر المقطوعة، بكاء الكمنجة.. حديث الناي!!.

صدّق.. من لا ينتفض من مكانه لأجلِ لحنٍ بارع، من لا يصرخ وجعًا ويكسر الطاولة.. من لا تُصيبه القشعريرة ويقدر على مواجهة آلامه أثناء سماعه للموسيقى.. لا يمتلك أدنى مُقومات الإنسانية.

آه.. يا لهذا الشعور.. ولكن ومع ذلك كله، ليس بإمكانك أن تُشعر أيّ شخص بُتلك النشوة إذا لم يريد هو ذلك.

هذه إحدى أخطاء البشرية الفادحة، حين استبدلوا نشوة الموسيقى بِنشوة القتل والتدمير.

على الأغلب من لا يستطيع أن يكون مُجرمُ حرب.. يُحاربُ الموسيقى بِسخافاتهِ.. هؤلاء من أقصدهم، من لوثوا آذانهم فما عادت تقتحمها الآلحان ببرائتها“.

فجأةً تذكر الحافلة، الأسبوع الماضي، الحادثة، والفتاة التي ما زال يحنُّ إليها.

كيف يحنُّ لشخصٍ غريب.. لا يعرفهُ، ولم يتحدث معه قط، كلُّ ما في الأمر أنه جلس بِقربه عشر ثوانٍ.

”ما هذا الذي يُسمّى الفقد!!.. إنّه شيءٌ جوهريّ ومذهلٌ.. مُذهلٌ جدًا.. تَخيّل أن تقوم بشرية تخلو من الفقد.. من الاشتياق والحنين.. كم ستكونُ مُملةً وفارغةً.. وأظن أنها لن تُكمل العشرَ سنوات!.

ما قيمة رسائل "كافكا" لو أنَّ روحه لم تكن تحترق شوقًا "لِميلينا"؟ وكانت قربه طوال الوقت.. لا شيء، حقًا لا شيء.. إنّها وحدها جُرع الحنين والعذاب والألم القاتلة والتي تختلفُ أسبابها من جعلته يكتب نصوصًا إبداعية!!.

ما قيمة رسالة "فان كوخ" الأخيرة لولا حنينه الحارق للحياة الطبيعية.. للعيش بِلهفة.. وَلِألوان لوحاته.. لا شيء!!.. وهُنالك الكثير الكثير من الأمثلة..

إن أغلب الأساطير والإبداعات والنزوات والطفرات الأدبية والعلمية والفلسفية كان إحدى أهم أدواتها: الإنكسار لِلأشياء.. الفراغات التي يُحدثها الفقد والألم.

إنَّ ذاك الشيء الذي يُسمّى فقد.. يكاد أن يكون بُرهانًا عمليًا ومنطقيًا على أننا أحياء.. هو مرادفٌ للخوف رُبما.. إنّه أساسيّ في كل شيء.. نعم!.

وماذا عن من نُحب.. إنَّ قيمة من نُحب تُقاس بمدى اشتياقنا إليه وابتعاده عن مجالنا الجغرافيّ.. لا حب دون معاناة وخوف وحزن واشتياق وعدم ادراك الليل من النهار!!.

والحقيقة أن أمثال روبرت هُم الأفضل ولهم الحظُ الأوفر في الحنين على الرَغمِ من أنهم لا يمتلكون أحدًا.

إنَّ الشوق يُساورهم في حالتهم تِلك لكل الأشياء.. لكلّ غريب وفتاة وإمرأة وطِفل وحدث..

للشّوارعِ والمارّة وكل شيء..

صدّقوا ذلك، هؤلاء من يُقدّرون الحنين حق قدّره، رغم أنّه لا أحد جانبهم، هؤلاء من تُبكيهم أُغنية، وتكسرهم قِطةً جائعةً في الشارع.

هؤلاء الذين ينظرون إلى أنفسهم في المرآة، إلى لمعة الحب الصادقة في أعينهم، يُخبؤونها تحت وسائدهم ليلًا وينامون باكين سُعداء لأنهم وبكلِّ بساطة لا يجدونَ أحدًا“.

كان يتذكر ذاك اليوم ويُردد في سرّه: ”كل الحق على تلك العجوز العاهرةُ الشمطاء“.

كان وقتها عائدٌ من عند الطبيب، فرحًا لسببٍ لا يعرفهُ، كان ابتهاج أخرق.. ولكن لا يهم، المهم أنه مُبتهج.

صعد إلى الحافلة قبل موعد انطلاقها بربع ساعةٍ تقريبًا.. جلسَ على المقعد بِقرب النافذة، وضع كِتاب كان يقرأ منه على فخذه وبات ينظر من النافذة لعامل يُنظف الأرض، كان العرق يتصبب منه بغزارة وهو يُنظف، ولربما كان يشتم المارّة على قذارتهم.

”آه.. قذارتنا.. تلك القابعة تحت جلدنا.. المُستعدين إلى إظهارها بِفخر عندما نُكسر..“

كانت الحافلة شبه ممتلئة، ثلاث أماكن فارغة فقط، مكان جانب روبرت وآخرٌ جانب فتاة تجلس وحيدة، ومكان ثالث في الخلف.

فجأةً.. بينما كان يأخذه التّفكير من مكانٍ لِآخر.. صعدتْ فتاة أوشكت أن تُغرقَ المكانَ بِسحرها.. كانت ناعمة جميلة وسمراء.. ورغمَ أن وجهها كان مُمِلًا بعض الشيء وإذا ما عاش المرء معها مِدةً تتجاوز السنة يشعر وكأنه يعيش مع ضِفدعًا لزج.. لَكنها جميلة!!.

إنَّ روبرت كاذب.. كاذبٌ كبيرٌ جدًا، فَهوَ لم يكن قادرًا على الاهتمام والحب، كان قادرًا على التّملك لفترةٍ محدودة ومن ثم تتشكل لديه قدرة هائلة من اللامُبالاة والتّخلي!!.

مع ذلك على أحدهم أن يُضحي.. على فتاةٍ ما أن تُضحي لأجله، إنهُ بحاجة ماسّة لِأن يُحِب ويُحَبّ، على الرَغم من أنّه نذلٌ كبيرٌ جدًا.

آوه روبرت.. هذه الدّابة الوحيدة التي ما تزال تحتفظ بِطيبتها وحماقتها ونذالتها في صحراءٍ قاحلة من الازدواجية والخيبات!.

”مع ذلكَ، وحده التّملك الذي يقتل الحب.. ولكن لا يُدرك التّملك إلّا الذي بات يهيم بالمحبوب جنونًا.. إنّها مُعادلة صعبة بالفعل“.

عندما كانت الفتاة تخطو في الحافلة تّجاه روبرت، كان مأخوذًا بها إلى درجة لا تُصدق.. وكأنّه يعرفها منذ ألفِ سنة.

تجاوزت روبرت وجلست في المؤخرة.. كانت تحمل بيدها لوحة على الأغلب.. وتُخفيها بكيسٍ أسود.. لربما كانت فنانة ترسم لوحات خالية من التعابير والجمال..

ولربما لم تقرأ كلمة واحدة من مؤلفات هيغل.. لربما لم تُمسك بيدها كتابًا واحدًا حتى ولو في مدخل علم الجمال.. لربما، من يدري.

فكّر روبرت لوهلة: ”فكّر روبرت لِوهلة: ”أوه!!.. هل سأقضي بقية عمري أستيقظ كُلَّ يوم وأجدُ أمامي لوحات قبيحة تَرسمها زوجتي وتحسبُ نفسها فنانة عظيمة.. إنَّ في تِلك الحالات عليّ أن أُجامل وإلّا.. فالطلاق هوَ الحلّ الوحيد.

نعم.. أن أقضي أيامي وحيدًا، خيرٌ لي من أن أجلس مع إمرأة تشرح لصديقتها عن فترة ”ما بعد الإنطباعية بشكلٍ خاطئ“.

هُنا لا يُمكنني الدّفاع أيضًا والتّدخل.. فَمنطق النساء يقول: ”نحنُ دائمًا على حق وحتى ولم نكن كذلك.. فإن نبرتك في الدفاع عن الحق أيها الرجل كانت قاسية.. وذلك من شأنه أن يضع الحق بأيديهن مرةً أُخرى“.

لكن.. مهلًا، ماذا لو كانت تِلك الفتاة بالفعل تمتلك موهبةً فذّة وتجعلني أعشق لوحاتها إلى درجة أن أتجرأ على نفسي وأقول أن بيكاسو كان عبارةً عن شخص مغرور يرسم في لوحاته تكعيبيات فارغة.

على كلِّ حال.. ومع ذلك لا أستطيع، فَإنيِّ والحقيقة غير قادر على معايشة جمال بقدر هذا الجمال.. سحرها وسحر لوحاتها.. اللعنة! ما الحل!.

الأفضل أن تذهبَ للجحيم، هي ولوحتها هذه..

فجأةً.. وبينما كان يُفكّر في احتمالاتٍ عديدة ويُراقب الفتاة من مرآة السائق. قامت واتجهت صوب روبرت!

استأذنته بالجلوس جانبه..

هُنا زاد ابتهاجه وبات يُلغي جميع الاحتمالات من مُخيلته ويعمل على صنع مكان خاص به في قلبه..

أيها الحرباء الوحشية الوحيدة!! أبهذه السرعة أيها الساذج؟!.. ألتلك الدرجة يقتلك الشوق!!

أفسح لها مكان.. وجلست.. وبنظرةٍ خاطفة نظرت نحو الكتاب الذي يحمله روبرت.

مرّت ثلاثين ثانية، كانت على وشك أن تُبادره بالحديث لولا أن عجوزًا تجلس هي وخادمتها على الجهة الأُخرى نادتها وقالت لها بِخُبثٍ شديد: هُنالك مكان فارغ قرب المُقدمة مع تلك الفتاة وأشارت لها بأصابعها المُقرفة والمُغبرة على مكان المقعد.

لم تستغرق الحادثة خمس ثوانٍ.. كان روبرت ينظر للفتاة وهي تبتسم للعجوز وتّتجهُ للمقعد الأمامي وكأنها ابنته التي يخطفونها منه.. وكأنها قطعةٌ من جسده.

في هذه اللحظة.. عندما رجع مرةً أُخرى وحيد.. وسّع جلسته وكأنه يُريد أن يملأ الحافلة كلّها بجسده، بل المدينة.. بل الكون كلّه، كي لا يشعر بما حدث.

كأنّه يقول: إنظروا أيها الحيوانات المُثيرة للشفقة.. هاك أيها البغل الذي تجلس في المُقدمة.. لا أحتاج أحدًا..

صار يضحك سِرًا.. وبينما كان يقترب من مكان نزوله قال في نفسه: ”آه.. يا شمطاء.. أيتها الحِمار الوحشي.. أتغارين من كونك عجوزًا أم ماذا، يا لمدى وقاحة العجزة في تِلك الأمور.. يحسبون أنَّ الدنيا يجب أن تتوقف.. ما أقبح الأنفس حين تغتالها الخطيئة“

تُرى ما كان موضوع تِلك اللوحة التي تَحملها.. لا يهم ذلك، فإنَّ نسبة احتمال رؤيتها من جديد قليلٌ جدًا..

إنَّ أجمل ما يمكن أن تفعله تلك الفتاة في هذه اللوحة.. إنَّ أعظم ما يمكن أن تفعله، أن تتركها فارغة.. بيضاء، فإنَّ نزيف قلب روبرت رسمَ المكان بأكمله.. وهذا البياض الذي يحتلّ اللوحة قد أعطى روبرت حقه.. نعم.. إنهُ محض فراغ..

فراغ!!.. أتُرى كيف يملء الأنسان نفسه!.. لقد كان ذنب روبرت الوحيد أنّه ملءَ الفراغات تِلك.. بِفراغاتٍ هائلة.. بأصوات الراحلين.. بآمال سخيفة.. بِتطلعاتٍ مستحيلة.. ولكن كيف نتجَ كل هذا الحنين من اللاشيء.. وعن عدم وجود أحدهم؟.

أيها الحنين.. يا لعنة روبرت الكُبرى.

ينزل من الحافلة.. تهبُّ الفتاة للنافذة، تُخرج اللوحة وتَرميها أمام أقدامه..

اللّوحة ما زالت مُغطّاة..

يتجاوزها روبرت ويُكمل المسير.


  • 1

  • أحمد محمد يحيى
    21 عامًا.. طالب قسم الحقوق في الجامعة اللبنانية \ كاتب وقاص لدى عدّة مدونات.
   نشر في 22 نونبر 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا