انتحار فني 4 - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

انتحار فني 4

  نشر في 11 غشت 2021 .

كان فاليريو يحظى بعائلة ، لم أحظى بها طوال حياتي ،عائلة تمده بالرعاية و الحب و العطف.

عكسي تماما .

كلها أشياء رحلت مع رحيلهم المبكر 

كنت في العاشرة حين فقدت عائلتي .

لقد كان حادثا مأساويا بكل ما تحمله الكلمة من معنى .

لا اذكر الكثير من التفاصيل عن ذلك المشهد القاسي و تلك الذكرى المؤلمة ،و لا اريد ان اتذكر.

كانت عائلتي المتكونة من جد و أب و أم و أخت و اخ اكبر و كنت انا الاصغر بينهم

بعد وفاة جدي ورث أبي كل شيء عنه ،فقد كان إبنه الوحيد ، و كان جدي يملك الكثير من الأراضي و المزارع و الاصطبلات التي كان يستثمر فيها بتربية الأبقار .

تغيرت حياة أبي إلى الأفضل بعد ان كان يعيش حياة روتينية بسيطة يتخللها الإخفاق و الفشل .

كان مثله مثل كل سائق أجرة ، يمضي النهار كله خارج المنزل ،لا أراه إلا قليلا ..

يغادر المنزل باكرا و يعود متأخرا

تخلى عن مهنة السائق بعدما أصبح بين ليلة و ضحاها يملك ثروة طائلة لم يكن يحلم بها، كنت سعيدا جدا قلت اني أخيرا سأستطيع رؤيته طوال اليوم ،سيلعب معي ،سياخذني خارج المنزل و سنتجول و نلعب في الحديقة كثيرا .

ربما سنزور مدينة الألعاب أيضا ، او سيأخذني إلى الشاطيء كما وعدني ذات يوم.

لم يحدث شيء من هذا، تغير و الدي كثيرا

ولم يعد يحدثني الا قليلا ، صار يغضب لأبسط الامور و يفتح شجارا مع امي على اتفه الأشياء .

لم تعد تعجبه هته المدينة ، و صار المنزل بالنسبة له غير ملائم لثري مثله

خاب ظني به ، و تبخرت تلك الأمنيات .

و لكني لم آبه لذلك ،فقد استطاعت امي تعويضي عن ذلك النقص و الفراغ الذي كان يخلفه أبي .

ذلك الذي غيرت النقود من طبعه كثيرا

هي كذلك الأموال تغير الكثيرين ، و تفسد أكثر مما تصلح .

أما عن أخي الأكبر جمال ،فقد كان يدرس الطب بإحدى أفضل الجامعات الوطنية بتونس ، و واصل دراسة التخصص في طب العيون ، كان يتجاوني بخمسة عشرة سنة

يعيش لوحده بمنزل خاص رفقة زوجته و إبنه ،لم تكن فكرة زواجه من فتاة جزائرية تعرف عليها في إحدى جولاته رفقة أصدقائه بمدينة الحمامات الشاطئية متقبلة من طرف أمي التي كانت رافضة كل الرفض لفكرة الزواج بغير التونسية .

احتدم الوضع و تازم إلى أن وصل بأخي إلى مغادرة المنزل نهائيا .

بالرغم من كل ماحدث كنا عائلة ..

كل هذا كان قبل ان يتغير كل شيء

قبل ان تسحب الحياة بساطها الحريري من تحت أقدامنا الناعمة ..

أذكر أنه كان يوما من أيام الشتاء الباردة ، هادئ جدا ، يشبه كثيرا ذلك الهدوء الذي يسبق كل عاصفة .

كنت بالمنزل رفقة أختي ياسمين بعد أن ذهب أبي و أمي في جولة بالسيارة لشراء بعض اللوازم المنزلية.

كانت الغيوم السوداء تتجمع بالسماء معلنة عن الهطول ، كنت أخاف كثيرا من الصوت الذي تصدره الرعود ، اتمسك بأختي ياسمين و اعانقها بقوة كلما تعانقت غيمتان بالسماء و صرختا بصوت عال معبرتان عن سعادتهما باللقاء

كنت انا أصرخ صرخة خوف و اتمسك بياسمين أكثر

كانت سرعة الرياح تزداد شيئا فشيئا ، ازدحمت الغيوم و تصادمت في السماء ، مشيرة إلى بداية حفلتها المسائية

بدات الامطار تتساقط بغزارة و تجلد النوافذ و الأبواب في حركات عشوائية بفعل الرياح

إنتظرنا طويلا عودة أبي و أمي ، ولكن طال انتظارنا .

كان الطقس يزداد سوءا ،انقطعت الكهرباء فجاة،و راحت اياد الخوف تشد علي ببطء ا

كانت اختي تطمئنني من حين لآخر ، سوف يعودان قريبا..

اتصلت بهما و لكن لا أحد كان يجيب .

إنتظرنا طويلا ..

حنى سمعنا فجأة صوت سيارة أمام المنزل

لم يكن الصوت واضحا وسط العواء الذي كانت تصدره الرياح .

ركن سيارته و وقف أمام الباب مبللا ، فتحت أختي الباب ، وقف ظل كمال الطويل أمامنا

لم يكن قادرا على التفوه بكلمة .

عانقني و أختي و ضمنا بقوة إليه ،و لم يتوقف عن البكاء .

لقد رحلا ، لقد رحلا ..

ازدحمت الدموع بيننا ، ولم أكن افهم حينها الداعي لذلك ، و لكني كنت أبكي .

راحت اختي ياسمين تصرخ و تحاول فهم ماجرى ، عن ماذا تتحدث ...

لا تقل هذا ..لا تقل هذا ..

ازداد صراخها ،وراحت تنادي مثل المجنونة أبي أمي ... لا

مازال صراخ ياسمين يتردد في أذني .

لا اذكر كثيرا كيف حدث معهم ذلك الحادث

لقد قالت أختي بعد مرور اشهر على الحادثة ان الأمطار كانت تهطل بغزارة و هذا ما جعل السيارة تنحرف عن مسارها بسهولة ، و تفقد السيطرة .

لم اكن أفهم حينها في الإحتكاك و الانحراف ، لم اكن املك اي فكرة عن مادة الفيزياء

هذا لم يعد مهما ، فلا جدوى من التفاصيل بعدما نفقد من كانوا بالنسبة لنا الحياة بكل تفاصيلها .

مرت تلك العاصفة علينا و لم يكن من السهل تجاوزها ببساطة ..

لم تكن كلمات الصبر و المواساة من الاقارب كافية لنسيان الامر ..

و من منا يستطيع ان ينسى والديه .

لا احد .

لم تكن مضلات الصمود كافية أمام وابل الحزن الذي كان يغمر قلوبنا و يبلل أجسادنا العارية و يجلد ارواحنا الهشة بسياطه العنيف .

مرت العاصفة بالخارج اما بالداخل فلم تمر

استمرت رياحها العنيفة تهزنا بقوة أمام كل ذكرى .

ظل كل شيء على حاله ، بقيت الكدمات و الجراح باراضينا مفتوحة في وجه الشمس و البرد و الناس و كل شيء .

أخذت أختي ياسمين التي كانت تتجاوزني بعشر سنوات دور الأم على عاتقها .

كانت تحاول ان تنسق بين دراستها و القيام بامور المنزل من تنظيف و طبخ ...

إهتمت بي و حاولت جاهدة تعويضي عن ذلك النقص ، حاولت ان لا تحسسني بذلك الإحساس العين الذي يولده الفقدان فينا

استطاعت ياسمين ان تنجح في القيام بكل شيء بالمنزل ،إلا في أن تحب الورود ، و تعتني بها مثلما كانت تفعل أمي .

كانت أسيل أما ثانية،اهتمت بي و رافقتني طوال تلك السنوات العجاف .

لقد كانت سببا في حبي للرسم و ولعي به

بعدما قدمت لي في أحد أعياد ميلادي كتابا لتعلم الرسم مع حقيبة كبيرة تحمل كل معدات الرسم من أقلام و الوان و ادوات متنوعة لم أكن أعرف طريقة العمل بها بتلك الفترة .

كانت تلك أولى خطواتي نحو هذا الفن الذي استطعت اتخاذه كصديق و عائلة و أخ

أبوح له بكل حزني ، بسعادتي و ألمي عبر فرشاة و بضعة ألوان.

حين بلغت سن العشرين ،تزوجت أختي أسيل و كان ضمن شروطها ان تعيش بمنزل والدها لفترة ما ، و كل ذلك لاجل الاعتناء بي و مواصلة مهمتها التي كنت اراها شاقة جدا ...

إن كانت هي تعتني بي فمن سيعتني بها

كان اخي جمال نادرا ما يزورنا ،لم يتقمص يوما دور الكبير بالعائلة .

بتلك الفترة ، كان الرسم الشيء الوحيد الذي ساعدني على تجاوز الأزمة .

مررت باوقات عصيبة قلت أني لن استطيع الخروج منها سالما .

و لكنني تجاوزت كل شيء اليوم ، و ها انا ذا مازلت واقفا .

رغم أني لم أحقق أي إنجاز يذكر ، سوى مجموعة معارض فاشلة و لوحات فنية ذابلة لم يكن لها قيمة .

يبقى الصراع مع الحياة و عدم الاستسلام في حد ذاته نجاح و لو ان الكثيرين يغفلون عنه.

كنت انا واحدا منهم .

لحد الآن لا أدري لماذا حاولت الإنتحار ؟

هذا لم يعد مهما ، و حتى الحديث عن عائلتي لم يعد كذلك ، فقد مرت سنوات عديدة على ذلك اليوم المشؤوم .

ياترى ما الشيء الذي أعادني إلى ذلك الماضي التعيس من حياتي ؟

غرقت في افكاري ،و نسيت ان أضغط على زر الرد ..

انتهت المكالمة ،تبا .

أعاد فاليريو الاتصال مجددا .

اتجهت نحو الشرفة كي آخذ نفسا جديدا بعدما ضاقت انفاسي بتلك الذكرى الحزينة ..

قال مرحبا كيف حالك ؟

أجبته قائلا:مرحبا ،أنا بخير

بخير ، تلك الكلمة التي لم أقصدها يوما ، اعتدت قولها مثل جملة او تحية تعودت تبادلها مع المارة و الاصدقاء ..

إطلاقا لم أكن بخير .

كان دائما مزاجي يغلب على كل شيء

و يفسد جمال كل لحظة .

أنت بالمنزل ؟

نعم أنا بالمنزل ؟

إنزل أنا بالأسفل أنتظرك، أردت أن نتناول الفطور سوية بمطعمنا المعتاد .

حاولت أن اختلق اعذارا و لكني لم أستطع

ربما كنت بحاجة الى من أتحدث له عن كل ما حصل معي، من أشاركه جزءا من مأساتي الصباحية

رغم أن الكآبة مازالت تسيطر علي ،إلا أني رأيت أن الحديث مع فاليريو قد يساعد على تحسين مزاجي بعض الشيء .

ربما هناك ما يريد ان يتحدث عنه أيضا

فليس من عادته أن يطلبني لموعد دون ان نحدده مسبقا .

دخلت الى غرفتي نظرت إلى المرآة الكبيرة بخزانة الملابس كنت جاهزا قبل أن يتصل فاليريو ، وكاني حددت موعدا معه و ليس مع سيارة الفيراري

كنت بحاجة إلى تعديل بسيط لتسريحة شعري .

وضعت قليلا من العطر ، حملت نظاراتي الشمسية ، اطفأت الأضواء و غادرت الشقة

كنت في غنا عن استعمال المصعد ، أحب التدرج في كل شيء ، كانت شقتي المكان الذي أحلم فيه و أبني به من القلم و الريشة مستقبلا جميلا مشرقا

كان النزول من الادراج بالنسبة لي نزولا من الحلم ،لهذا كنت أتمهل وأنزلها ببطء .

تماما مثلما كانت تفعل أمي و هي تحملني إلى سريري و تضمني إليها دون ان تفسد حلمي

وجدت فاليريو داخل سيارته الفيات السوداء ينتظرني .

ركبت السيارة مرحبا .

القى التحية بدوره و أدار المقود دون أن يضيف شيئا ، كانت ملامحه خالية من السعادة ، كان متجهم الوجه يبدو عليه التعب ..

أظن أني لست الوحيد الذي مر بليلة عصيبة ركن السيارة بجانب إحدى الحدائق المجاورة للمطعم الذي اعتدنا ارتياده

دخلنا المطعم ، استقبلنا الخادم بالمدخل مرحبا بنا ،كان يرتدي بدلته البيضاء الناصعة و يحمل بذراعه المثنية منديلا احمرا، رافقنا نحو طاولة فارغة بالزاوية ..

حتى الخادم اصبح يعرفنا جيدا ،و صار يحجز لنا طاولة الزاوية مسبقا

ما هي إلا دقائق حتى انتبهت فالنتينا لوجودنا .

ما إن رأتنا حتى سارعت الخطى نحونا ،تحمل بيدها مزهرية شفافة دائرية الشكل برقبة طويلة .

وقفت أمام طاولتنا مرحبة ، بعبارات جميلة تجيد انتقاءها ، وضعت المزهرية وسط الطاولة ، وراحت تمازحنا بعباراتها المنتقاة

لقد كانت تهتم بكل التفاصيل ،وتحاول ان تحيط بكل ما يخص زيائنها ،تغريهم بطاولاتها المرتبة و أطباقها الشهية ،توقع كل زائر بشباكها من الزيارة الاولى .

من لا يعرف مطاعم السنيورة فالنتينا ؟

مطاعن الفن و الجمال .

لقد أمضت فالنتينا حياتها كلها بهذا المجال ، بعد ان كانت تملك مطعما ، أصبحت تملك سلسلة مطاعم مشهورة بأنحاء إيطاليا .

و أصبحت مطاعمها الوجهة المفضلة لدى فئة كبيرة من الفنانين و أثرياء إيطاليا

كنا من الزبائن المفضلين ، الذين يملكون مكانتهم الخاصة بالمطعم ، تستقبلنا بحرارة و تعمل على تقديم أفضل الخدمات لنا .

كانت فالنتينا مثالا للمرأة الايطالية الناجحة التي استطاعت أن تتغلب على كل الأزمات التي واجهتها ببداية مسيرتها ، و تزيح كل العقبات، وتقلب حياتها التعيسة الفاشلة ، إلى حياة عنوانها النجاح و التألق

استطاعت بأفكار بسيطة أن تصنع لها نجاح شاهقا ينافسها عليه الرجال .

حين تدخل المطعم سيجذبك صوت البيانو بأخر الرواق ، ستغرق في حركات الرسام وسط المطعم يرسم فتاة او شابا أمام عينيك

بلطخات و ألوان ، وانت تتناول وجبتك ستقف فرقة من عازفي الكمان بالقرب من طاولتك ،يعزفون لك يمتعونك بأروع الألحان ،ستتناول وجبة ممزوجة بنوتات الكمان .

كل شيء كان لافتا بتلك المطاعم ..

جلست في المقعد المقابل لفاليريو

ساد الصمت بيننا و اختفت تلك الابتسامات الزائفة بعد انسحاب فالنتينا ، نظرت إليه ، كان مطأطيء الرأس ينظر إلى الطاولة و كأن كارثة ما حلت به .

بقيت صامتا لبرهة أصغي إلى صوت الكمان الحزين ، حتى أنا لم أكن قادرا على فتح أي موضوع ، لم يكن هناك من داع لخلق مواضيع لا تستحق الحديث عنها كالطقس و السياسة و الأكل .

نظرت اليه مجددا ،ثم قلت مكسرا صمت الطاولة :ما الذي يحدث معك ؟

بقي فاليريو صامتا دون ان ينطق بكلمة

أضفت قائلا :إن جئت بي إلى هنا لنمارس الصمت ، فأنا آسف ربما لو بقيت بشقتي لكان أفضل .

بقي صامتا أيضا ..

لم ينظر إلي حتى .

حملت هاتفي من فوق الطاولة و وقفت من مكاني مغادرا .

وقف فاليريو بدوره و أمسكني من مرفقي ، و اعتذر مترجيا مني البقاء

جلست ، أنظر إليه قائلا :هذا ليس فاليريو الذي أعرف .

ما الذي يحدث معك .

أهي والدتك ؟

أشار بحركة من رأسه نافيا ..

بالكاد استطاع أن يتحدث ، كان يسحب الكلمات من بين شفتيه كمن يسحب الماء من بئر عميقة .

قال بكلمات مقتضبة:لقد تركتها .

ابتسمت بوجهه و الدهشة بادية علي :كاميليا ، هذا غير ممكن .


يتبع ...

#موساوي عبد الغني ♤


  • 2

  • Abdelghani moussaoui
    أنا الذي لم يتعلم بعد الوقوف مجددا، واقع في خيبتي
   نشر في 11 غشت 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا