كانت السماء تمطر بشدة في الخارج، والناس يهرعون تحت مظلاتهم دون أن ينظروا إلى ما يمر أمامهم. كانت معاطف المطر الملونة تتحرك بعشوائية بين أزقة الطرقات. وجدتُ نفسي أهرع مع أطيفاهم بينما كنتُ أراقبهم من خلال زجاج نافذة مكتبي.
قرعٌ خفيفٌ على الباب، أيقظني من شرودي المؤقت ..
"تفضل!" قلتُ بصوتٍ مترددٍ كمن استيقظ لتوه من غفوة الظهيرة.
دخلت سكرتيرتي "حنان" المكتب وهي تحملُ بعض المغلفات وضعتها على المكتب أمامي ثم طلبت مني الإذن بالمغادرة إذ أن الساعة تجاوزت الرابعة عصراً وقد انتهى وقت الدوام الرسمي.
وهكذا بقيتُ وحيدةً في مكتبي بعد أن غادر الجميعُ إلى منازلهم ليتحصنوا بالدفء قبل أن تبدأ درجات الحرارة بالانخفاض مساءً. إنه تشرين حيثُ يتبدلُ الطقس فجأة وتدرُ السماء بغزارة أمطارها أحياناً دون سابق إنذار أو حتى تبشير بسماءٍ ملبدة بالغيوم!
رن جرسُ الهاتف، رفعتُ السماعة بتثاقل ..
"مجلة هوامش ريتا الماضي رئيسة التحرير من يتكلم؟!"
جاء صوته من الطرف الثاني بعيداُ، غريباً .. بدأ بتنهيدة ثم قال وهو يحاول حجب الضجيج من حوله بأن يطوق سماعة الهاتف بيديه ..
"إنه أنا!".
وضعتُ سماعة الهاتف على الطاولة. أخذتُ نفساً عميقاً قبل أن أعاود رفع السماعة ..
" ريتا .. أرجوكِ لا تغلقي الخط، هناك موضوع ضروري يجب أن أتحدث فيه معكِ!".
"لا وقت لدي للاستماع إلى ترهاتك الآن يا فيصل، أعتقد أننا تحدثنا كثيراً بل أكثر مما يجب .. مع السلامة!."
"لقد مات!".
كانت الكلمة الأخيرة التي وصلت مسامعي قبل أن أسقط سماعة الهاتف من يدي وأقطع الاتصال.
لطالما انتظرتُ هذه اللحظة لكن لم يسبق أن فكرتُ أنها ستؤثر بي على الإطلاق. لكنني فجأة وجدتُ نفسي أنهار أمام الواقعة، بدأت الدموع تسيلُ من عيوني كالمطر المنهمر في الخارج. أدركتُ أنني فقدتهُ للأبد .. أنني لن أتشاجر معه بعد هذا، لن يعاتبني على تقصيري معه ولن أتعامل معه بقسوة!
في الثامنة مساءً غادرتُ مبنى العمل، صعدتُ إلى سيارتي وقمتُ بوضع هاتفي المحمول بالحقيبة، أدرتُ المحرك وانطلقتُ بوجهةً لم أكن قد حددتها بعد!
في العاشرة مساءً وجدتُ نفسي أمام باب منزله أطرق الباب. كانت عيناي قد تورمتا بعد موجات البكاء الحادة، ووجهي شاحباً من كثرة الألم. لم يكد يفتحُ الباب حتى ارتميتُ بأحضانه وأنا أبكي بحرقة .. أخذني بين ذراعيه وضمني بكل قوة إلى صدره ..
جلسنا في المطبخ حيثُ كان يعدُ طعام العشاء. لكنه أجل مشروع الطهي احتراماً لمشاعري. بقينا جالسين بصمت لأكثر من نصف ساعة، كنا نجلسُ على الأريكة رأسي عند قلبه استمعُ لنبضاته المتصاعدة، بينما راح يصففُ شعري دون أن ينطق بكلمة.
ثم أخيراً استطعتُ أن استجمع قواي وقلتُ له :"لقد مات!". شعرتُ بجسده القوي يرتجفُ. لم ينطق بشيء، بل عاد يمسحُ دموعي بأصابعه ..
" عندما كنتُ في المدرسة الإعدادية كان هناك طالب يحتقره الجميع ويكرهونه بسبب جفاصته وطريقة تعامله مع الآخرين. كنتُ أحد الذين عانا من بطشه ووحشيته وكان أحد الأسباب الكثيرة التي كنتُ أكره المدرسة بسببها. في أحد الأيام اختفى الشاب لمدة أسبوع تقريباً أو أكثر .. وبالطبع مثل هذه الشخصية كان غيابها ليلفت إليه الأنظار بحيثُ عم هدوء نسبي بين الطلاب وشعرنا ببعض الراحة بغيابه، لكننا رغم هذا افقتدناه .. سألنا عنه وكلنا اعتقاد بأن الله سمع دعواتنا وانتقل إلى مدرسة ثانية .. لكن عندما علمنا أنه توقف عن القدوم إلى المدرسة بسبب إصابته بمرض السرطان وسوء حالته الصحية .. شعرنا بالألم. ربما قلائل من شعروا بالانتصار أو بالشماتة .. لكنني كنتُ أحد الذين بكوا بحرقة عندما سمعتُ خبر وفاته! الفراق مؤلم .. الموت فاجعة تستحقُ كل هذا وأكثر!".قال لي ثم قبل جبهتي برقة، ثم غفوتُ بين يديه بعد صراعٍ طويلٍ مع الألم.
- يتبع -