لا تحجب عنا الشمس! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

لا تحجب عنا الشمس!

  نشر في 20 أبريل 2022 .

رأى الإسكندر الأكبر رجلا ممددا في الشمس، فاقترب منه وسأله: من أنت؟ قال: إنسان. ثم سأله مجددا: أتريد شيئا؟ قال: نعم، ألا تحجب عني الشمس!

قيل أن الرجل هو الفيلسوف ديوجين، وأن الإسكندر تمنى لو كان في مثل قوته.

يُذكرنا هذا الموقف بالتحدي الذي رفعه النبي إبراهيم عليه السلام في وجه النمرود حين ادعى الألوهية. قال إبراهيم: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب! طبعا بُهت الذي كفر لأنه يستحيل عليه أن يتحكم في مخلوق كوني كالشمس، أقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يحجب نورها عن المستضعفين، فيلقي بهم في ظلمات العبودية!

إن الطغيان هو أحد أهم الدروس التي تلقتها الإنسانية منذ فجر التاريخ، لكن يبدو أنها لم تستوعب منطلقات الدرس ومخرجاته؛ فلازلنا حتى اليوم نعاين صور الطغيان في ثلاثيته المعروفة: فرد يستولي على السلطة، وطبقة عازلة تدعم حضوره، وتُمد في عمر بقائه على الكرسي، ثم مستضعفون يدفعون ثمن الانحناء من دمائهم وأموالهم، حتى إذا استولى عليهم اليأس، وصار الموت أهون من المذلة، تفجرت في العروق نخوة الحرية، وصرخت الحناجر: لا تحجبوا عنا الشمس!

تزخر المكتبة الإنسانية بعطاء متدفق عن الحرية. لقد كتب عنها الحكماء والأدباء، وأضفى الرسامون على معانيها آلاف الصور من الطبيعة وفيوضات الحس والوجدان. أما الرسالات السماوية فكانت الحرية جوهر دعوتها ليستعيد الإنسان بُنيانه الإلهي. تحرّر ثم اعتقد ما تشاء! هكذا خاطب الأنبياء البشرية، وحرّضوها على السؤال والتساؤل، وتشكيل القناعات بعيدا عن الإكراه والتخويف. لكن ما إن تمض سنوات قلائل بعد انصرام عهد النبوة، حتى تمتد يد آثمة إلى الوصايا والتعاليم، تارة بالتحريف وتارة أخرى بالتأويل.

ألم يخالف رهبان الكنيسة وصايا المسيح عليه السلام بقولهم: أطفئ سراج عقلك واتبعني؟

ألم يزعم فقهاء السلطان منذ زمن الأمويين أن الخليفة ظل الله على الأرض؟

تولد الحرية وفي رحمها بذرة الشر والطغيان، كأن قدر الإنسان أن يتحرر أولا من نفسه، قبل أن يسعى للتحرر مما يعيق حركته في الخارج. صرّح ريكاردو أوريزيو في مقدمة كتابه (حديث الشيطان) قائلا: عندما ندرس الطغاة فإن ذلك يساعدنا على فهم أكبر لأنفسنا.

إن الطاغية إنساني جدا كما يكشف الدارسون لأخبارهم. فهو مستعد للبكاء أمام مشهد محزن، ويعطف على أسرته كما يفعل جل الآباء. كل ما في الأمر أنه يرى قبضته الحديدية هي الأنسب ليخلق دولة قوية، ويمنح شعبه مكانة لائقة بين الأمم. وحين تنهار ألواح الجليد لا يخفي إحساسه بالظلم.

بعد الحكم عليه بست سنوات سجنا، تساءل إيغون كرينتز، آخر رئيس لألمانيا الشرقية: يقولون بأني قاتل لكني كنت سياسيا، وكانت لي مُثلي؛ فإن كنت مخطئا فإن الجيل برمته مخطئ". وكما يقول المثل فإن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة، لذا فالطاغية لايرى ضررا حين يحجب عنك الشمس، أو يجعل من مصيرك قطعة حجر لبناء هرمه الخالد.

هل نمنح الطاغية شرعية ما؟ ليس هذا هو القصد، وإنما الغرض أن نقترب من العبارة التي صاغها الشيخ ابن تيمية للتأكيد على أن الطغيان يندرج ضمن المشترك الإنساني بقوله: ما من نفس إلا وفيها شيء من نفس فرعون.

يظل الطغيان مجرد نزوة تبدأ بتولي الطاغية زمام الحكم، وتنتهي عادة حين يصل مشروعه إلى الباب المسدود. يسقط كورقة ذابلة بهتاف حار في الميدان، فيظهر للناس حجم الكذبة التي تجرعوها، وأن الأمر كان أبسط من خروج الأرانب من قبعة ساحر! لكن خطره الحقيقي يكمن في سعيه لتشكيل الجيل اللاحق، وإعادة ترتيب الأولويات لتصير الحرية أهون من رغيف العيش.

لمّا سئل الكاتب الأرجنتيني "إرنستو ساباتو" عن الاستبداد المتخفي في العقائد الدينية أجاب بأنه أمر يمكن التخلص منه بمجرد أن نصبح أهلا للتفكير بشكل مستقل، ونصل بمفردنا إلى قبول وجود الله أو نفيه. أما في الأنظمة السياسية فإن الطغيان يزداد قوة حين يتعين على المعلمين أن يحقنوا عقيدة النظام بدلا من البحث عن الحقيقة. 



   نشر في 20 أبريل 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا