لم تمنعها تجاعيد وجهها الكثيفة المترهلة، ولا انغماسها في شيخوخة عميقة، من أن تتفقد بانتظام ثابت متكرر نضرة أحمر الشفاه .. اللون أحمر يصرخ على فمها الرفيع المنغمس بين أنف طويل .. وذقن هلالية تلتحم بكيس لحم منتفخ على عنقها القصير.
تتبسم لمرآتها الصغيرة، لا ترى فيها إلا ذلك الفم المشدود المترقب، متغاضية عن شعيرات بيضاء، نبتت من فوقه، كأقواس حرب فضية خلَّفها محاربون رحلوا بعد سجالٍ عنيد مع سنين عاتية.
لا أحمر الشفاه يفارق أصابعها ولا لفافة التبغ المشتعلة من سابقتها، تشد إلى رئتيها أنفاسَ الدخان بشوق، لتعيد بثها في الهواء بمتعة ومرح. على مقعدها أغطية من الصوف، وعلى ركبتيها شالٌ خمري مهلهل متسخ، لا يغيب عن منظره قلة خبرة مَن نَسَجَهُ بحبٍ وإلحاح.
من أمامها، على مقعد معدني بارد، جلس يتأملها دون أن يغيب بصره عن كل تفاصيلها وإيماءاتها القليلة. قدماه الملفوفتان في جواربٍ زرقاء ساذجة، المختبئتان في حذاء من الصوف البرتقالي، قابعتان دون حراك تحت المقعد، قائمتان على أطراف الاصابع، كقدميْ راقصٍ جلس ولم ينتهِ بعد من دورٍ أزلي لا يتبدل.
لملم أطراف جأشِه وشجاعته ليبادرها بحديث ودَّ لو أسعفه من شهور، فهمس بضعف وخوف:
- صنعتُ لكِ عِقدا من خرز العقيق .. أود .. أود .. أود لو تقبليه.
رفعت عينيها عن مرآتها لتلتقيا، صدفة، مع شعاع شمس شارد، فيغوص جليسها في بريقهما، ويزيده ذلك اضطرابا وخجلا. مدت كفها ببطء لتتلقى هدية الغريب.
أخرج عِقده من جيبه، وقد غلَّفه بورق جريدة قديمة، ووضعه بكلتا يديه في منتصف كفها، بحرصِ جراحٍ ينقل قلبا من جسد إلى بدن. عادت بكفها لتتأمل هديتها، تنفض عنها غلافها بنفسِ حِرصِه وعنايته، وقد اكْتسىَ وجهها بفضولٍ طفولي يانع يزيد من اتساع بسمتها، ومع ظهور حبَّات العقيق، بدأت تتمتم بوَلَهٍ وشغف:
- آهِ ما أجمله، لم يهدني مثله زوجي، ولا رجال أحببتهم وظننتُ بهم خيراً، حتى ذلك القس الافريقي الذي وهبته شِعراً وأغانيَ كثيرة، لم يعطني مسبحة كنت أعبد من خلالها أصابعه النحيفة النظيفة الساكنة على الدوام.
حاقت به الرعشة، وانتابَهُ حماسٌ لم يعهده من قبل، فنهض عن مِقعده، يأمل أن تترك له العقد فيلف به عنقها، ولم يكن كل ذلك ليغيب عن فطنتها، فأعادته اليه، تشرئب لتتيح له مجدًا عانقَ أحلامِه دهرا. وحين رفعت مرآتها، لترى ما في جيدها، وضع هو كفيه على كتفيها، بحرص وحنان مكتوم، يأمل أن تغيب عنهما الأعين وأن يموت الزمن.
همس في اذنها، وعيناه تسترقان النظر يمنة ويسارا:
- هل ألقاكِ عصرا؟
فأجابت، دون أن ترفع عينيها:
- سأكون عند البوابة الحديدية الصدئة، هناك ككل عصر، أنتظر زوجي حتى مغرب الشمس، بالرغم من أنه لم يزرني قط، وربما لن يفعل ذلك أبدا، إلا أنني قد أدمنت انتظاره فقط ولا أقدر بعد على الإقلاع عن ذلك.
ربتت يد ممرض شاب على كتف الرجل، ثم احتضنه من تحت إبطيه، يَجُرُّه بعيدا، فتنزلق قدماه على البلاط الرخامي الرمادي، محاولا الثبات، معاندا في الطاعة، ينظر إليها من فوق كتفه الأيسر متوسلا برعب ويبتعد رويدا عن مرمى بصرها.
لم تفتر بسمتها، ولم تتوقف عن التحديق في مرآتها، على حين بدأ مقعدها في السير على عجلتيه، تدفعه من الخلف ممرضة شابة، ذات وجه قاسٍ وأصابع ذكورية تقبض بإصرار على مسنده المعدني، فتهتف للفتاة من خلف المرآة:
- أرجوكِ لا تجزعي مني إن بدأت في الصراخ والعويل، ولا تعتدي عليَ بغلظَةٍ وقسوة، أنا لست مجنونة .. وأنت لا تعرفين معنى الخوف.
-
كريم السعيديكاتب عربي
التعليقات
ما أصعب الخوف... ما أفظعه من شعور... خاصة عندما نكون بلا حول ولا قوة.
مشوق سردك.. ومبدع في وصف الشخصيات.. لكأني كنت هناك أراهم بعيني.... ..
موفق في قصتك القادمة ، سأكون بإنتظارها ،