سلسلة مقالات تحت عنوان (تمهّلْ .. تأمّلْ)
مقالة اليوم ( هجرة الأدمغة أو رحيل الذات الفاعلة ) .
نشر في 20 فبراير 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
إنّ هجرة الأدمغة من حيث التشخيص و التمحيص، ومن خلال عواقبها الخطيرة و حلولها المستعصية ، هي في عمومها هجرة ٌللذات الفاعلة من هذه المجتمعات ، وهذا يمكن شرحه موضوعيّاً واستيعابه ضمنيّاً من حيث أنّ هجرتها و رحيلها يعتبر من بين الأسباب الحقيقية و المباشرة في تعثر جانبين مهمّين للمجتمع المهجور عنه ،
الجانب الأول: تعثر مستوى تطور قوى الإنتاج للمجتمع .
الجانب الثاني: تعثر التفاعل المعرفي بغياب الذات الفاعلة .
فمن منظور الجانب الأول ، أي تعثر مستوى تطور قوى الإنتاج، و الذي يعتبر بحق المفتاح السحري الواقعي لمسايرة و مواكبة أي مجتمع للتقدم والتطور عموماً ، إلا أنّ غياب الذات الفاعلة ،أي تلك الكفاءة العالية، لمن شأنها أن تبطئ إلى حد بعيد ، بموضوعية ذلك المستوى لتطور قوى الإنتاج وبالتالي يتعثر التطور المرحلي كسياقٍ تاريخي لأي مجتمع غير مبالٍ بعنصر الوقت،إذ أنّ من أدبيات هذا التطور المرحلي أنه لا يفهم و لا يعرف على الإطلاق معنى للتوقف أو النوم أو الانتظار .
فميادين العلم والتعلم، وحقول التحصيل و المعرفة ، قد دشنتها معظم مجتمعاتنا ، إبّان استقلالها ، بكفاءات أجنبية مكلفة جدّا، و التي و إنْ ساهمت نسبياً في تطوير بعض المجالات إلا أن، البنية التحتية ، تعرضت للحيف و التسويف ذلك أن مثل هذا البناء ،لا يحتاج في أساسه ،إلا إلى سواعد أبنائه ، و كفاءة رجاله ونسائه .
ولعلّ اليابان خير مثال في هذا السياق ،عندما صمّم و عزم الإمبراطور( مايجي ) في القرن التاسع عشر على احتضان بل و احتواء الأدمغة الفاعلة آلاتية من أوروبا على اعتبار أنها نتاج محلي، يحمل بوادر النهوض الفعلي، في تحريك ورفع من مستوى تطور قوى الإنتاج ، ممّا كان له الأثر المباشر والمرجع الموضوعي في اللحاق المنطقي لتطور مراحل التاريخ .
أما الجانب الثاني أي تعثر التفاعل المعرفي والقيمي بسبب غياب الذات الفاعلة - فهذا يعتبر كذلك من العقبات و العقد في مجتمعاتنا ، وذلك لما تختزله تلك الأدمغة والكفاءات المهاجرة ، من إمكانيات عقلية وقدرات علمية وملكات معرفية، يمكن الاستفادة منها عن طريق تعميمها و نشرها بالتواصل والاحتكاك بباقي شرائح المجتمع ، مما سيفرز لاحقاً أنماطا فاعلة أخرى ستكون لديها أيضا حق المبادرة والجرأة في الدفع بعملية ذلك التطور الى الأمام ، وخصوصا إذا وظفنا عقلانيّاً هذا الاكتساح العارم للعنصر المعلوماتي والإلكتروني في حرق المراحل وتقليص البون الشاسع والفارق المهول بين جيلنا الواعد وبين تلك الأجيال التي هي الآن في طور البحث عن منظومة جديدة لدخول الألفية الجديدة تحت عنوان ( السرعة الضوئيّة ومجال استكشاف الفضاء الخارجي) ،
نعم أرجع وأقول ، إنّ من شأن هذا التواصل وذلك الاحتكاك أنْ يخلق تعاقبا طبيعيا بين الأجيال يوازي تعاقب منطق التطور المرحلي .من هنا ، كان يجب بالضرورة ، عند وقوفنا على هذه المسلمات و استقراء تلك التداعيات ، البحث جديّاً والتفكير مليّاً ، في كيفية إيقاف هذا النزيف لذاتنا الفاعلة وذلك بإيجاد أرضية صلبة، تقوم على شروط موضوعية أولها بسط الحوافز المرضية ، لاحتضان واحتواء هذه الكفاءات نظراً لما تمثله من مرجعية معرفية في اللحاق بقطار التاريخ الذي لا يجب أن يختفي عن الأنظار ، وإلاّ فانّ التواكل و التبعية مصيران خطيران على البنية الأساسية لمجتمعاتنا ككل .
مقتطف من كتاب : من يكون هذا الحكيم ؟ بقلم ذ : تاجموعتي نورالدين .
-
تاج .. نورالدين .محام سابق- دراسات في الفلسفة والأدب - متفرغ الآن في التأليف والكتابة .- محنك في التحليل النفسي- متمرس في التحليل السياسي- عصامي حتى النخاع- من مؤلفاته :( ترى من هذا الحكيم ؟ )- ( من وحي القوافي ) في ستة أبواب وهو تحت الطبع .- ( علم ...