أعترف أن الطبيعة تُلهمني ..
تلهيني عن سخافات المنطق ..
تفتح لي آفاقاً لم أشهدها من قبل ! ..
تُزيد حيوية قلبي وتُشعل النبض الخامد به ..
تمنحني الفكرة التي لطالما بحثت عنها بدروب الحياة وكان الوصول إليها ضرباً من الجنون ! ..
تحققت المعاني على أيديها وتلاشى العدم بوجودها , وأنت أيضاً تلاشيت بها , بفضلها تمكنت من الخروج عن حيز زمنك الفاني , تخطيت حدود العالم من حولك وتآلفت مع عالمك الخاص , عالماً لم تجد فيه سواك , أنت فيه الأرض والسماء والبشر , وللمرة الأولى التقيت بك , رأيتك بوضوح دون تجميل , دون تزييف , أنت بكامل هيئتك الإنسانية , عارياً من كل مظاهر الدنيا البالية ! , تدب خطواتك على أرض الحقيقة بعد أن أدمى الوهم وأشواكه قدميك ! , شُفيت فيك جروحاً تفنن البشر حفرها في روحك , آمناً .. لا شئ يسود على ملامحك سوى إبتسامة الوجود .. وجودك ..
أعترف أن الطبيعة تأسرني بجمالها , بنسماتها النقية التي تُلامس روحي قبل أن تنزلق إلى رئتي , أنني أذوب عشقاً للسُحب التي تضفي للسماء جمالاً فوق جمالها , أسميتُها وسائد الطاهرين , فإن عفن الأرض لا يليق بهم , أعترف أن للطبيعة سحر آخاذ يُعرقل جمودنا , وسحرها يكمن في هدوئها الذي يفيض على عقلي بصخب الأفكار التي كان لولادتها إحتفالية شهدت عليها شمس الحياة المتألقة بأشعتها الذهبية ورحبت بها أمواج نُسجت بخيوط من حرير وأوراقاً تشع خضاراً حجبت عنها حرارة الجهل المُلهكة ..
والعجيب أنه في خِضم مراسم إحتفال الكون بك وعلى حين فجأة تجد أن أفكارك تجمدت ! , لقد انتفضت أفكارك دفعة واحدة دون ترتيب , وكأنها هلوسة وضعتك بها الحالة التي تحياها بكل كيانك ! , وحتى ألمك الذي كابدته منذ الأزل اليوم تطاير ! , حزنك العميق المدفون بين ثنايا قلبك إنسحق ! , التئم فيك ذبحاً غائراً تركته ينزف طويلاً حتى نسيت أمره وأصبح جزءاً منك ! , عادت الأمور إلى طبيعتها وعدت أنت إلى الحياة بعد موتك الذي قيدك والحق أنه لم يحن بعد .. أنت الآن تنسلخ من بين ضلوعك وحسب .. وهي أعظم عطايا الطبيعة لك أيها المسكين ! ..
تسرقك عظمة المشهد الذي تلعب فيه الطبيعة دور البطولة وأنت المتفرج والشاهد على إبداع سيناريو الكون , فتشعر بأنك لا تشعر ! , وأن أرض عقلك جفت بعد سيل من مُنغصات الغفلة ! , لا تقوى على الخروج بفكرة واحدة تسحق هذا الهدوء العتيق , وأنك تُراقص نفحاتها بخفة وإن كنت لم تتجاوز مكانك بخطوة واحدة ! ..
ورغم الصمت الذي يُكبل لسانك , والسكون الذي يُسيطر على روحك , ورغم أنك تحيا تلك اللحظة مسلوب الإرادة , وأنك لا تستطيع أن تلفظ بحرف يدل على أنك لازلت حياً تُرزق ! , لم تعد لديك المقدرة على تشكيل جملة مفيدة لتوثق بها ما تراه من حياة استحقت أن تكون حياة وبحق , إلا أنك تسلك سُبلاً من السلام .. أخيراً ! , وتجد أن ما أنت به منطقياً بعض الشئ , فقد عجزت عن الشعور بمشاعر دنيوية مُضللة , ولن تعثر على كلمة يمكنها أن تُعبر بصدق عما أنت فيه , نعم .. لقد غرقت بمشاعر حقيقية , لقد تحطمت اللغة فوق رأسك ! ..
عدت لعهد الطفولة من جديد ! , أصبح شغلك الشاغل هو أن تجد من يُلقنك الحروف , يضع أمامك مبادئ العيش ! ..
- كيف تنطق ؟
- كيف تخطو لتُساير سرعة الحياة ؟
- كيف تقبض على فكرتك قبل أن تتبخر ؟
عدت إلى نقطة البداية , انصهرت بالبراءة التي افتقدتها لدهور وحل محلها توحشك البشري ! , لم تجد أمامك إلا أن تستسلم , انتكست أمام إعصار السكينة و الإطمئنان الذي جرفك معه , وكنت أنت في ذلك تحيا معاني السعادة التي حسبتها طويلاً عبثاً ! ..
أعترف أني كنت أحاول مراراً وتكراراً أن أرتب فوضوية العالم , أن أمحو همجية البشر , أن أساند الحق كي يعبر بحور الظلم ويصل إلى البر سالماً , أن يكون تغيير الأكوان بيدي ممكناً , ولكن الواقع صفعني بقسوته حتى اختبأت خلف ستار القبول به , خلف قناع الموافقة على هذيانه ! , كما هو , أفر من أن تُراودني رغبة في العدول عن قراري , مجرد الرغبة ! , فكيف إن إتخذت خطوة التنفيذ ؟! , قراري الذي لم يكن قراري ولكنه قرار الدنيا التي أرغمتني عليه ! ..
ولكنني لم أكن أدرك أن بنظرة واحدة إلى هذا العالم تكفيني حتى أشعر بأنني على صواب , وأن فوضوية العالم رُتبت من أجلي , همجية البشر تبدلت إلى رحمة وصفاء , الحق أصبح هو سيد الموقف وأصبحت أرى الكون كما أردت أن يكون , أصبح الكون قيد رؤيتي وتصرفي , وكانت هي هدية الطبيعة لي , وكأنه ترحاب من نوع خاص ..
الآن أدركت أن الطبيعة تمنح أضعاف ما يُمنح لها , فأن تمنح لها القليل من زمنك كفيلاً بأن ترده إليك بدهور من الحياة التي لم تتذوقها من قبل ..
فهل تبخل عليها بوقتك ؟ .. و هل تبخل عليك بوجودك ؟! ..
لك القرار , كما أصبح اليوم لي ..
التعليقات
دمتِ متألقة.