الوصيّـــة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الوصيّـــة

  نشر في 10 يوليوز 2020  وآخر تعديل بتاريخ 02 ماي 2023 .

كان يمكن لاختلافهم بشأن الوصيّة أن يصل إلى نقطة اللاعودة. قالت أخته اليامنة وهي ترفع رأسها إلى السماء كأنّها تطلب له الشفاعة "الله يسامحك يا برهان متعبنا حي وميت"... والحقيقة أنّ سعيد قرّر التظاهر بعدم الإصرار على تنفيذ الوصيّــة ما إن فرغ من قراءتها ولاحظ ردود الفعل. لا أحد كان يفكّر بوجود وصية أصلا، لولا أنّ سعيد وأخته منجية اللذين يعيشان مع المرحوم أعلما بقية أفراد العائلة بذلك. فما الذي يملكه الرايس برهان حتى يوصي به غير قاربه الذي يعلم الكلّ أنّه كتبه لسعيد منذ حياته. وكان ذلك أمرا منطقيا لم يعترض عليه أحد لأنّ سعيد هو الوحيد الذي ظلّ يسرح مع والده على ظهر القارب. أمّا بقية إخوته فقد وزّعتهم صروف الحياة ما بين العاصمة والهجرة. لمّا أعلمهم المرحوم بالأمر باركوه جميعا، حتى أخته منجية لم تر في ذلك حيفا، خصوصا أنّ سعيد طيّب خاطرها لمّا وعدها بأنّ شكّ السمك سيظل يصلها كما عودّها الوالد. وحتى لمّا أصرّ سعيد على فتح الوصية وقرأها على مسامعهم، كاد أغلبهم أن يضحكوا ممّا جاء فيها، واعتبروه من باب الطرافة التي عوّدهم بها المرحوم في حياته.

كان الرايس برهان على بساطته، رجلا متفرّدا، كأنّه شخصية روائية أو سينمائية. فلسفته عن البحر مزيج من أساطير الجدود ونتف من أدب البحر عرفها بالسماع مع قدر كبير من الحكمة الشخصية التي أفرزتها تجاربه في الحياة... كلّما ركب قاربه ويمّم صوب الماء ودّع اليابسة بنظرة خاطفة لا مكان فيها للأسف أو الحسرة. يعيش ليومه فقط لا يدّخر فلسا واحدا للغد. فهو يؤمن بكرم البحر الذي سيعوّض له غدا ما يصرفه اليوم... هكذا كان كريما ومحبا للحياة يعيش كل لحظة بامتلاء أقصى. لا وقت له للحساب والحذر والتأسف على ما فات... لا تهمّه إلاّ اللحظة الرّاهنة... أمّا القادم فمرحبا به مهما كان... يحبّ الشرب والغناء والمضاجعة وتسكره رائحة البحر وإفرازاته. مقتصد في الكلام، لأنّه كما قال لسعيد ذات مرّة وكانا يشربان نخبا على ظهر القارب في ليلة مقمرة يؤمن أنّ كثرة الكلام تجعل منه تعويضا عن الحياة الفعلية، فيعيش الإنسان في الكلمات بدل أن يعيش في الواقع. يكاد لا يطأ الأرض وهو يمشي، يتنقل كسمكة تسبح في الماء.

"ألقوا بي في البحر. أكره ظلمة حفرة القبر وضيقها. أمّا البحر فقبر فسيح ومفتوح... أريد أن أظلّ سابحا في الماء والملح حتى أتحلّل... وإذا أكلتني الأسماك التي كم أكلت منها، فذلك أفضل من أن تقرضني الديدان."

ساد صمت ثقيل سمع خلاله سعيد تمتمات عمّته اليامنة وهي تطلب الشفاعة للرايس، فأشفق على بساطة عقلها. وعلّق ذلك الأحمق زوجها دون أن يوجه كلامه إلى سعيد مباشرة "إكرام الميّت دفنه"... وردّدها بعده أغلب الحاضرين. أيقن سعيد أنّه لا فائدة ترجــى من مجادلتهم. وتذكّر حكمة الرايس برهان عن الاقتصاد في الكلام.

"على أيّة حال، لا دفن قبل وصول ابن المرحوم من إيطاليا يوم غد."

كانت تلك الجملة التي ألقتها عمّته اليامنة حبل نجاة لسعيد الذي لمعت في ذهنه الفكرة واضحة مكتملة المعالم والخطوات كما لو كان قد خطّط لها في سعة من الوقت.

"على الأقل، لنتركه يقضي الليلة مسجّى في زاوية سيدي البوهالي بجانب الناظور قبالة البحر."

لما توغّل الليل، وكانت تلك الشمعة ترتعش عند رأس المرحوم مؤذنة بقرب انطفائها، غفت اليامنة قليلا... عندها قدّر سعيد أنّ اللحظة مناسبة وأنّ أي تأخير سيؤدّي بالرايس برهان إلى حفرة الدّود المظلمة...

من أين جاءته تلك الطاقة كي يمشي في الرّمل باتجاه القارب حاملا على ظهره جثة الرايس... شغل المحرّك وغاص بالقارب في ظلمة الماء. ثمّ راح يربط الجثة إلى تلك الصخرة التي فهم عندها لماذا كان الرايس برهان يحتفظ بها على ظهر القارب ويسمّيها المخدّة...

على بعد ميلين أو أكثر من اليابسة، نفّذ الوصية وفق إرادة صاحبها فأحسّ بالارتياح... عبّأ رئتيه بالهواء الطريّ ورأى الشمس تطلّ بقوسها البرتقالي من وراء الماء، ويمّم بالشقف صوب إيطاليا.

كان يمكن لاختلافهم بشأن الوصيّة أن يحتدّ إلى درجة اللاعودة. قالت أخته اليامنة وهي ترفع رأسها إلى السماء كأنّها تطلب له الشفاعة "الله يسامحك يا برهان متعبنا حي وميت"... والحقيقة أنّ سعيد قرّر التظاهر بعدم الإصرار على تنفيذ الوصيّــة ما إن فرغ من قراءتها ولاحظ ردود الفعل. لا أحد كان يفكّر بوجود وصية أصلا، لولا أنّ سعيد وأخته منجية اللذين يعيشان مع المرحوم أعلما بقية أفراد العائلة بذلك. فما الذي يملكه الرايس برهان حتى يوصي به غير قاربه الذي يعلم الكلّ أنّه كتبه لسعيد منذ حياته. وكان ذلك أمرا منطقيا لم يعترض عليه أحد لأنّ سعيد هو الوحيد الذي ظلّ يسرح مع والده على ظهر القارب. أمّا بقية إخوته فقد وزّعتهم صروف الحياة ما بين العاصمة والهجرة. لمّا أعلمهم المرحوم بالأمر باركوه جميعا، حتى أخته منجية لم تر في ذلك حيفا، خصوصا أنّ سعيد طيّب خاطرها لمّا وعدها بأنّ شكّ السمك سيظل يصلها كما عودّها الوالد. وحتى لمّا أصرّ سعيد على فتح الوصية وقرأها على مسامعهم، كاد أغلبهم أن يضحكوا ممّا جاء فيها، واعتبروه من باب الطرافة التي عوّدهم بها المرحوم في حياته.

كان الرايس برهان على بساطته، رجلا متفرّدا، كأنّه شخصية روائية أو سينمائية. فلسفته عن البحر مزيج من أساطير الجدود ونتف من أدب البحر عرفها بالسماع مع قدر كبير من الحكمة الشخصية التي أفرزتها تجاربه في الحياة... كلّما ركب قاربه ويمّم صوب الماء ودّع اليابسة بنظرة خاطفة لا مكان فيها للأسف أو الحسرة. يعيش ليومه فقط لا يدّخر فلسا واحدا للغد. فهو يؤمن بكرم البحر الذي سيعوّض له غدا ما يصرفه اليوم... هكذا كان كريما ومحبا للحياة يعيش كل لحظة بامتلاء أقصى. لا وقت له للحساب والحذر والتأسف على ما فات... لا تهمّه إلاّ اللحظة الرّاهنة... أمّا القادم فمرحبا به مهما كان... يحبّ الشرب والغناء والمضاجعة وتسكره رائحة البحر وإفرازاته. مقتصد في الكلام، لأنّه كما قال لسعيد ذات مرّة وكانا يشربان نخبا على ظهر القارب في ليلة مقمرة يؤمن أنّ كثرة الكلام تجعل منه تعويضا عن الحياة الفعلية، فيعيش الإنسان في الكلمات بدل أن يعيش في الواقع. يكاد لا يطأ الأرض وهو يمشي، يتنقل كسمكة تسبح في الماء.

"ألقوا بي في البحر. أكره ظلمة حفرة القبر وضيقها. أمّا البحر فقبر فسيح ومفتوح... أريد أن أظلّ سابحا في الماء والملح حتى أتحلّل... وإذا أكلتني الأسماك التي كم أكلت منها، فذلك أفضل من أن تقرضني الديدان."

ساد صمت ثقيل سمع خلاله سعيد تمتمات عمّته اليامنة وهي تطلب الشفاعة للرايس، فأشفق على بساطة عقلها. وعلّق ذلك الأحمق زوجها دون أن يوجه كلامه إلى سعيد مباشرة "إكرام الميّت دفنه"... وردّدها بعده أغلب الحاضرين. أيقن سعيد أنّه لا فائدة ترجــى من مجادلتهم. وتذكّر حكمة الرايس برهان عن الاقتصاد في الكلام.

"على أيّة حال، لا دفن قبل وصول ابن المرحوم من إيطاليا يوم غد."

كانت تلك الجملة التي ألقتها عمّته اليامنة حبل نجاة لسعيد الذي لمعت في ذهنه الفكرة واضحة مكتملة المعالم والخطوات كما لو كان قد خطّط لها في سعة من الوقت.

"على الأقل، لنتركه يقضي الليلة مسجّى في زاوية سيدي البوهالي بجانب الناظور قبالة البحر."

لما توغّل الليل، وكانت تلك الشمعة ترتعش عند رأس المرحوم مؤذنة بقرب انطفائها، غفت اليامنة قليلا... عندها قدّر سعيد أنّ اللحظة مناسبة وأنّ أي تأخير سيؤدّي بالرايس برهان إلى حفرة الدّود المظلمة...

من أين جاءته تلك الطاقة كي يمشي في الرّمل باتجاه القارب حاملا على ظهره جثة الرايس... شغل المحرّك وغاص بالقارب في ظلمة الماء. ثمّ راح يربط الجثة إلى تلك الصخرة التي فهم عندها لماذا كان الرايس برهان يحتفظ بها على ظهر القارب ويسمّيها المخدّة...

على بعد ميلين أو أكثر من اليابسة، نفّذ الوصية وفق إرادة صاحبها فأحسّ بالارتياح... عبّأ رئتيه بالهواء الطريّ ورأى الشمس تطلّ بقوسها البرتقالي من وراء الماء، ويمّم بالشقف صوب إيطاليا.


  • 3

   نشر في 10 يوليوز 2020  وآخر تعديل بتاريخ 02 ماي 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !


مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا