البعث! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

البعث!

مكابدة وخوض في الذات

  نشر في 15 يوليوز 2019 .

"أما كيف ستنتهي هذه المرحلة الجديدة من حياته، فسوف يكشف المستقبل عن ذلك"

كانت آخر عبارات الرواية، التي ألقى بها على الأريكة بجانبه، وسرعان ما أسند رأسه على الحائط عن يمينه. كانت تعابير وجهه تبرز شقاء وحزنا دفينين، وانفعالا أصاب أطراف جسده برعشة. يبدو أن لما قرأه حملا ثقيلا عليه، ولطالما كان يجد صعوبة في إتمام واتباع أطوار الحكاية، والتي لطالما استشعر ارتباطا لها خفيا بواقعه. ربما هي صدفة لا تحيد عن الغرابة، أو أنه بكل بساطة قد صار سجينا لمشاهدها العديدة. فكان عصيا عليه أن يخرج باستنتاجات، وأن يفكر بغير صخب، فهو أمام صورتين مختلفتين تماما، تربطهما تفاصيل دقيقة وتصورات هشة البناء.

عينان دكناوان يسطع منهما بريق خفيف، وتحومهما هالة رمادية تنذر بقلة النوم أو اضطرابه، مسمرتان وشاردتان، يبدو أنه كان داخل استرسال عميق في التفكير، أو لربما هو في حالة انحدار إلى نوع من الغيبوبة. في غمرة احساسه، صارت أحداث متفرقة تعود إلى ذاكرته، احداها عبارات قد تلقاها سلفا في ذلك اليوم، كانت صريحة بقدر كاف لاستشعار النفور من ذاته، وإقرارا صريحا بحقارته، لكن من الغرابة أن هذا الإقرار قد ترك فيه أثرا مهدئا ومعزيا.

كان الصمت يخيم على المكان، غارقا في الظلمة، إلا من خيوط ضوء انبعثت من القمر المتلألئ وسط السماء، مخترقة شبابيك النوافذ إلى وسط المنزل، كانت ليلة صيفية مقمرة، مختلطة بنسيم هواء بليل ومنعش، متشبع بريح العنبر والحبق وروائح مميزة للفصل، كانت تضفي على النفس حنينا، وكانت كفيلة لتزيح التشويش والغموض عن ذهنه، لكن العواطف والأفكار المنبعثة أمامه لم تفقد سلطانها عليه، فكان يخامره إحساس قوي بالحزن، قد تعاظم بعد أن حدث نفسه: "ترى كيف للمرء أن يكون سببا في سعادة الآخرين؟"، هذه الفكرة لوحدها كانت كفيلة لتشعره بالاختناق.

في خضم هذا الضيق الذي لا يطاق، تنهيدة واحدة رغم صعوب خروجها كانت كفيلة لتزيل قليلا من التخدير الذي طال جسده، انتفض من مكانه ببطء، ثم أخذ يجر قدميه بسلاسة دون أن يحدث صخبا للأدراج المؤدية للسطح. كان المكان مضاء بالكامل، وكانت السماء متلألئة بالنجوم، مكث طويلا في تأملها مشدوها، قبل أن يختار له ركنا، يسمح له في استبصار الحقل بكامله، فكان ينتقل ببصره بين حقل الذرة الحديث، وبين أشجار الصفصاف الطويلة، كانت تثير انتباهه كل مرة، وكانت ظلالها السوداء والطويلة تضفي على الجو رهبة وقداسة.

أراد الاستسلام إلى لذة هذا الجو، فكان يحاول أن يستفرد بلحظة صفاء دون أن ترتمي عليه ذكرى تشق عليه، وأن يزيل وابل الأحكام المتناقضة من ذهنه، غالبا ما كانت تنتهي بالحسرة والندامة، وخذلان مصحوب بخيالات وجوه مألوفة لديه، مكسورة الخاطر، أراد فقط أن يرى الأمور بوضوح وببساطة، وكان يحس بخجل لاستباحه حرمة الجو الهادئ من حوله، وصعوبة الوصول لأحاسيسه القديمة، التي كانت خالية من كل تعقيد ومطبوعة براحة البال، كان يرجو، رغم رضوخه لواقعه، أن تكون الحياة التي عاشها، في فترات سابقة متفرقة، محض حلم أفاق منه بغتة، لكن لا طائل من الأمر، لطالما كان يتخيل نفسه في وضع مختلف، وكانت أمانيه مرصوصة في خياله ومرتبة بعناية، غير ذلك، فقذ كان ضعفه، لعنة التفكير، تمنع تحقيق ذلك، وتغرقه في حسابات وخيبات أمل متواصلة، فكان هذا الأمر يملأه خجلا، ويلح عليه سؤال يعذبه كل مرة، عن غائية مكابداته، وعن كيفية تغيير الوضع.

لقد كان واعيا بما كان يعيشه، أراد أن يخطو خطوة للأمام، دون ضرورة للالتفات للوراء، هذه الرغبة الصادقة فسحت مجالا لموجة حماسة عارمة، اجتاحت روحه، يبدو أنه لم يشعر بمثلها منذ زمن، وحملت إلى شعوره أشياء يعرفها منذ أمد بعيد، اختلطت عليه مشاعره، بين الألم والحزن والفرح، لكنه كان مرتاحا، وتغشته سكينة أقرب إلى السكر، ارتسم توهج جميل وسط عينيه، وظل طويلا ينظر إلى ظلال الشجر، التي كانت تتراقص بفعل النسيم، وإلى الوجه المرسوم على القمر، كانت تعابيره غير مفهومة.



   نشر في 15 يوليوز 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا