حـــــــي الصـــــعاليـــــك (1) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حـــــــي الصـــــعاليـــــك (1)

الجزء الأول

  نشر في 06 فبراير 2023 .

أشرقت شمس يوم جديد على حي الصعاليك المتهالك. فتحت أم سلمة شبّاكها لتلقي بسُمّها اليومي على سكان الحي الآيلين للسقوط كجدران مساكنهم:

- الناس يحمدون الله على كل يوم جديد، ونحن في هذا الحي المشؤوم نلعن كل يوم يطيل عذابنا على هذه الأرض. وكأننا في جحيم أبدي.

لا أحد عاد يكترث لأنين المرأة العجوز فقد تعودوا تذمرها، كما أن لكل هواجسه وأوجاعه من أهل الحي. فاقد الشيء لا يعطيه، والتذمر لا يقدم ولا يأخر. أم سلمة تعلم ذلك جيدا، إلا أنها تتذمر فقط لإثارة الانتباه حولها، فمنذ رحل عنها ابنها الوحيد منذ خمس سنوات دون أدنى خبر منه أضحت وحيدة تحدث نفسها أكثر مما تحدث الناس.

أشعلت هالة سيجارتها وهي تطل من شرفة بيتها على خيباتها الماضية، تقف كل صباح متأملة على ناصية أحلامها التي تخلت عنها منذ رزقت بأسامة بعد قصة حب قصيرة مع شاب من الحي المجاور. أصبح أسامة شابا في الثانوية وهي لازالت واقفة على نفس الناصية لا تبرحها إلا قليلا، شاردة في أفكارها بين ما لم يكن وما كان يمكن أن يكون... قطع أسامة حبل أفكار أمه ليطلب منها قدرا من المال. أجابته بإشارة من يدها دون أن تستدير، تتتبع بعينيها الذابلتين كل نفس دخان يخرج من فمها لتراه يختفي كسعادتها يوم أتى الطفل إلى الوجود.

ليس لأسامة أصدقاء بالحي سوى نزار، كلاهما بالسنة الأخيرة من التعليم الثانوي ولكل حلمه. يحلم أسامة بأن يصبح قاضيا، أما نزار فيحلم بالجاه والسلطة والثراء. تعَوَّد الفَتَيان أن يلتقيا في الممر الخلفي للزقاق خفية عن أعين أم أسامة لأنها لا تحبذ هذه الصداقة، فنزار معروف بطيشه وعبثيته. لكن أسامة وجد في رفيق دربه ما لم يجده في أحد. في ذلك اليوم، ومع اقتراب فترة الاختبارات النهائية، توجه الولدان نحو البحر لمشاهدة غروب الشمس:

- هل تعلم يا صديقي أين تذهب الشمس عندما تغرب؟

- الشمس باقية مكانها يا صديقي. نحن من نفقد من عمرنا مع كل غروب.

- أراك أصبحت فيلسوفا!

- لا، بل واقعيا.

- ما خطبك؟

- ليتني كنت مثل الشمس، أذهب حيث لا يعلم أحد ثم أعود مشرقا من جديد. كم هي ظالمة هذه الدنيا، وكم أود أن أستفيق من هذا الكابوس الذي اسمه حياتي. أتعلم كم تتطلب الدراسة بكلية الحقوق؟ لا أعلم إن كنت يوما سأحقق مبتغاي بأن أصبح قاضيا!

- ستحقق هدفك. أراهنك.

اجتاز أسامة ونزار امتحان البكالوريا بتفوق، واختار كل منهما طريقه. حصل أسامة على منحة جامعية لينتقل لمدينة أخرى، تاركا ورائه أول وآخر شخصين أحبهما فؤاده بصدق. لم تظهِر أم أسامة حزنها على فراق ابنها، لقد عودته منذ صغره على وجه شاحب خال من التعابير، لا تظهَر عليه أي مشاعر. وكأنها ما فتأت تلومه على قدومه لهذه الدنيا. لكنه يحبها رغم قسوتها وصلابتها. أما نزار، فقد اختار ألا يكمل دراسته، مفضلا الهروب من حيه دون عودة.

********************************************************************

طوال سنوات دراسته، احتمل أسامة شراسة المدن الكبرى ومشاكستها له. كانت تمر عليه أيام دون أن يعرف للطعام طريقا ولا للنوم سبيلا. لكنه رغم فقره وحاجته، ظل متشبثا بحلمه مصرّا على تقرير مصيره. أما نزار فقد وجد في التمرد غايته. بعد رحيله عن حي الصعاليك وجد في العمل ضالته. بدأ يعمل كساع ثم كسائق لدى أغنى أغنياء المدينة. كان محسن الشرقاوي رجلا طاعنا في العمر، ورث عن أجداده تجارة المجوهرات وطورها إلى أن كون ثروتا عُرف بها في البلاد كلها. كان سكان المدينة يلقبونه بأبِ الغيث من شدة كرمه وعطفه على الناس.

لم يكن نزار راضيا عن حاله وظل يبحث بشتى السبل عن تجارة تحقق له الربح السريع، وفي يوم وهو يوصل بعض الطلبات إلى البيت، وقعت عيناه على وجه جديد لم يألفه من قبل. كان وجهها ورديا وعيناها خضراوان كالماس، عندما ابتسمت له أحس بأن القمر يتربع على جسم حورية من بحر أحلامه. ظل ينظر إليها لوهلة قبل أن يستفيق من دهشته على صوت الدادة خديجة، مدبرة المنزل وكبيرة خدمه:

- إنها نرجس ابنتي، أتت لتوها من الحي الجامعي لتقضي معي عطلة الصيف. بعد ذلك ستعود لدراستها بكلية الهندسة.

- ستصبحين مهندسة إذن، قال نزار مخاطبا الفتاة.

- أتمنى ذلك، أجابت نرجس.

مرت أيام على نزار وهو يراقب نرجس ويتتبع كل تحركاتها. إحساسه تجاهها جميل ولا يفسر، كلما رآها تملكه شيء غريب وكأنه يعانق صدره دون أن يلمسه، ويبدو له أنها تبادله الإعجاب. بدأ الاثنان يتواعدان خفية خارج البيت الكبير، كلاهما لا يعلم كيف بدأت القصة ولا كيف ستنتهي.

استمر نزار ونرجس في المواعدة حتى بعد انقضاء العطلة، كانا يلتقيان نهاية كل أسبوع. احتضنت المدينة حبهما لسنوات، حتى انتهت نرجس من دراستها، وانتقل هو للعيش وحده. بدأ يشتغل لدى يعقوب الصائغ بالنهار وكسائق على سيارة أجة بالليل. لم يكن ينم إلا بضع ساعات. كان يحاول تجميع مصاريف زواجه من نرجس التي بدأت تشتغل في مكتب للهندسة.

بالرغم من كل جهوده لم كن يقوى نزار على طموح نرجس، فهي تحلم بحياة لن يستطيع توفيرها لها. ثم بدأت الغيرة تستحوذ على حبه لها. وقرر عبر خطة محكمة أن يسرق من محل يعقوب بضع ماسات ليبيعها بالسوق السوداء ويختفي بعدها لأسابيع. وفي يوم اتصل بنرجس ليلتقي الاثنان مع ما تبقي من عشقهما على ساحل المدينة. أخبرها أنه حصل على مبلغ كبير من المال وأنه سيغادر البلاد، طلب منها مرافقته:

- من أين حصلت على هذا المال؟

- وما شأنك أنت؟ المهم أنه بحوزتنا وسنستطيع أن نبني حياة جديدة أينما شئنا. رافقيني.

- أرافقك إلى المجهول؟ أرافقك وأنا أعلم جيدا أنك لم تحصل على هذا المال بطريقة مشروعة.

- طريقة مشروعة! أردف نزار قائلا وهو يقهقه. وماذا استفدت أنت من التشبث بالطرق المشروعة؟ هل اغتنيتِ؟ هل حققت كل ما تتمنين؟

- ليس هدفي الاغتناء. بل عيشة كريمة وألا أمدّ يدي للغير. ليس بيننا قواسم مشتركة يا نزار.

- معك حق. سأرحل لوحدي...

********************************************************************

بدأ أسامة في ممارسة القضاء وقد اختص بقضايا غسل الأموال. كان أمله كبيرا في انصاف المظلومين وإحقاق الحق في مجتمع ما عاد فيه للقيم صوت يُسمع. وكلما عاد لحي الصعاليك لزيارة أمه يُحتفى به وكأنه بطل قومي، فقليل هم من استطاعوا الانتصار على الفقر وانتشال أنفسهم من ذلك البئر العميق.

لم يكن يعلم في ذلك اليوم، أن زيارته للحي ستكون مميزة...

********************************************************************************



   نشر في 06 فبراير 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا