حروب الكلمات - الحرب على الكلمات - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حروب الكلمات - الحرب على الكلمات

سطوة اللغة

  نشر في 06 أبريل 2020 .

التاريخ سجل كبير لحروب الأفكار والكلمات. وإن لهيب الكلمات ليسبق لهيب المعارك، فالحروب تندلع في العقول والأفكار والكلمات قبل أن تندلع في ساحة المعركة. وما قامت الحضارات والثقافات البشرية ولا فنيت، ولا تقدمت العلوم أو تخلفت، ولا انتشرت الأديان والمذاهب الفكرية ولا حُصرت... إلا على لهيب من صراع الكلمات والأفكار، وسيل من الدماء.

الأنبياء، والمصلحون، والفلاسفة، والعلماء، والعباقرة المبدعون... كُذِّبوا، وعُذبوا، وقُتلوا، وسجنوا، وصُلبوا، وتعرضوا لأنواع مرعبة من الأذى والسخرية والاستهزاء ...لأنهم يتحدثون لغة وكلمات لم يألفها أقوامهم، لغة تهدد قيمهم ومعتقداتهم، وتعرِّض مصالح بعضهم أو سلطانهم للخطر، وتؤسس لمصالح وسلطات جديدة، وذلك ما لا تشتهيه أنفسهم. "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون". 87 سورة البقرة.

الكتب والمؤلفات تعرضت بدورها للحرب والاضطهاد، بما هي خزان الأفكار، ومستودع المعارف والعلوم، الحافظة لثقافات الأمم وإبداعاتهم، فحُرِّقت، ومُنعت من النشر والتداول، وأعتُبر مؤلفوها زنادقة ومارقين ومخربين وخونة وفاسدين أخلاقيا وخارجين عن القانون، ومعظم الكتب التي اعتبرت خطرة، هي التي استُخدم فيها العقل أو الإبداع أو المختلفة عن المألوف. وإن التاريخ ليرصد لنا عشرات النماذج من الحروب التي شنها الإنسان على الكتب والمكتبات، ومصادرة الأفكار، ووأد الكلمات. فعلى سبيل المثال، أمر إمبراطور الصين (تشين 259ق.م) بإحراق جميع الكتب التاريخية والعلمية الصينية، ولما احتج 400 من العلماء، دفنهم أحياء، وأحرق يوليوس قيصر الإمبراطور الروماني مكتبة الإسكندرية عام 48 ق.م، ودمر المغول أثناء اجتياحهم بغداد مكتبة بيت الحكمة التي كانت تضم أكثر من 300 ألف كتاب، كما دمروا 36 مكتبة في بغداد تضم مئات الآلاف من الكتب، وتم إلقاء جميع تلك الكتب في نهر دجلة، وغداة انهيار الأندلس أمر (الكاردينال سيسنيروس عام 1501م) بحرق مكتبة الزهراء التي كان بها أكثر من 600 ألف مخطوط، وأحرق الصليبيون مكتبة "دار العلم" في القاهرة، والتي تقدر مقتنياتها بمليونين ومئتي ألف من المجلدات، وفي أبريل 1933 شهدت مدينة برلين الألمانية واحدة من أكبر عمليات حرق الكتب خلال حقبة النازية، تجمع حوالي 70 ألف شخص في أحد ميادين برلين، وقامت مجموعة من الطلبة بنقل عشرات الآلاف من الكتب لتحرق أمام عيون الجميع.

إحراق الكتب ومنعها من النشر والتداول وإهدار دماء مؤلفيها جزء واحد من منظومة ضخمة لتكميم الأفواه وقمع الكلمات وقطع اللسان. وإن سجون العالم اليوم لتمتلئ بالكتَّاب والصحفيين والمدونين والمغردين وأصحاب الأقلام، كما كانت تمتلئ بالفلاسفة والمفكرين والشعراء والخطباء عبر التاريخ. في عام 2017 قتل 65 صحفيا حول العالم، وهو العام الذي شهد أقل عدد من القتلى في صفوف الصحفيين منذ 14 عاما. وتُبيِّن نسخة 2018 من التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي أنجزته «منظمة مراسلون بلا حدود» تصاعد الكراهية ضدّ الصحافيين. ولم يعد عداء المسؤولين السياسيين للإعلام خاصا بالدول المستبدة التي سقطت في «رُهاب الإعلام» فالرئيس الأمريكي «ترامب» يعتمد خطابا بغيضا بشكل صريح حيث يصف الصحفيين بأنهم "أعداء الشعب" كما كان يصفهم جوزيف ستالين. وفي عدد من البلدان فإن الحاجز بين الاعتداءات اللفظية والعنف الجسدي يتضاءل يوما بعد يوم، ففي الفلبين اعتاد الرئيس رودريغو ديتورتي على شتم وسائل الإعلام الإخبارية وتهديدها، وحذّر بالقول: أن تكون صحافيا أمر "لا يحميك من الاغتيال". وتزايد خطاب الكراهية ضدّ الصحافيين في الهند على شبكات التواصل الاجتماعي. وتضاعف العنف اللفظي ضدّ الصحافة في أوروبا، رغم أنها الأكثر ضمانا لحرية الصحافة. ففي شهر أكتوبر 2018 ظهر موريس زيمان رئيس تشيكيا خلال ندوة صحفية، مُشهرا بندقية كلاشنكوف مزيفة كُتبت عليها عبارة "هذه للصحافيين ". وفي حادثة من أشنع حوادث تكميم الأفواه في العصر الحديث قُطع لسان الشاعر اليمني "وليد الرميشي" يوم الأربعاء 4 مايو 2011، ذلك اللسان الذي ما فتئ يفضح جرائم "أحزاب اللقاء المشترك" ويشهِّر بعدوانيتهم وأعمالهم التخريبية. وفي يوم السبت 2 فبراير 2019 أطلق مجهولون 13 رصاصة على الروائي العراقي "علاء مشذوب" فأردوه قتيلا، إثر تدوينة له على "فيسبوك" يهاجم فيها الرئيس الإيراني "الخميني" وينتقد ثورته الإسلامية. ومن قبل ما اُغتيل المفكر والسياسي اللبناني "حسين مروة 1987" على خلفية كتابه " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، وفي عام 1992 اُغتيل المفكر العلماني المصري "فرج فودة" على خلفية مناداته بفصل الدين عن الدولة، وفي 21 يونيو 2005 اُغتيل الزعيم الشيوعي (جورج حاوي) في بيروت، بلغم نسفه وسيارته فمُزق شر ممزق، وهو الثاني من زعماء الحزب الشيوعي، فقد سبقه إلى مصير أبشع (سليم الحلو) مذابا في الأسيد، وقبل مصرع الحاوي بـ19 يوما في 2 يونيو قتل الكاتب المرموق والناقد السياسي (سمير القصير) غيلة، بنفس طريقة النسف فجمعت جثته مزعا إلى القبر...ومن قبل هؤلاء ومن بعدهم العشرات بل المئات الذين أُسكتوا عنوة بالقتل أو التهديد أو السجن...

كانت تلك عينة يسيرة من الحرب على الكلمات. حرب وأد الكلمات وقمعها وإسكاتها، أما حروب الكلمات وصراع الأفكار وفتنة البيان، حرب الهيمنة على العقول والمشاعر فأكبر من ذلك وأعظم، "والفتنة أشد من القتل ". صراع "الخير والشر"، "الحق والباطل"، "الكفر والإيمان"، "التحرير والاستعباد"، "الظلم والعدل"، "الفتح والاستعمار"، "الديكتاتورية والديموقراطية"، "الشيوعية والرأسمالية"... نماذج دامية لحروب شرسة مدمرة أشعلتها الأفكار والكلمات، فلم يقتتل فريقان عبر التاريخ إلا وكل طرف منهما متمترس خلف ترسانة ضخمة من الكلمات والخطب والعبارات الدعائية الرنانة، سيطرت على العقول والأفكار والمشاعر، وصورت لكل فريق نفسه في صورة البطل المقاتل في سبيل الحق والعدل والخير، وصورت الآخر في صورة الشيطان المقاتل في سبيل الشر والظلم والعدوان. ولم يكن لطرف منهما أن يقاتل في ساحة المعركة لو بدأ بقتال كلماته، وتخلص من سيطرة اللغة وسلطة الكلمة. فالدعاية للحرب كما يعرفها "تايلور": "نشاط كلامي يرغم الناس –بشكل ما-على أن يفعلوا شيئا كان يمكن ألا يفعلوه لولا وجوده، فالكلمات تهاجم جزءا من الجسد لا تستطيع الأسلحة الأخرى الوصول إليه، إنها تحاول رفع معنويات أحد الطرفين وأن تنسف إرادة القتال لدى الآخر...ومن المؤكد أن أسلحة العقل ومتفجراته هذه مثلها مثل الأسلحة التقليدية قد أصبحت معقدة بشكل متزايد مع ما تحقق من أنواع التقدم في التكنولوجيا وعلم النفس. غير أن الملحمة الشعرية أو الرسم في الماضي لا يزيدان في الحقيقة شيئا عن الفيلم أو المذيع التلفزيوني الدعائيين الآن "، وكما يؤكد "كلود يونان" فإن "الصراع يركن إلى المقارعات الكلامية للوصول إلى النصر، فلا يمكن القضاء على عقيدة إلا بعقيدة أقوى منها، ولا يمكن مواجهة أيديولوجيا إلا بواسطة أيديولوجيا أمضى منها، وما العقائد والأيديولوجيات إلا نتاج فكري يتمظهر بواسطة الكلام ".

تتحول: الحاجات، والمصالح، والسلطة، والمعتقدات -وهي المحركات الأربعة الأكثر جرًا للحروب عبر التاريخ – بواسطة الكلمات إلى أفكار، وتتحول الأفكار بواسطة الدعاية وسحر الكلمات إلى عقيدة تسيطر على العقول والمشاعر، حتى إذا بلغت العواطف أوج اندفاعها وقوتها قرعت الحرب أجراسها. وإن التاريخ ليثبت أن أكثر الحروب شراسة، وأجرأها على سفك دماء المدنيين الأبرياء، هي تلك الحروب التي تنشب لسبب ديني، أو مذهب فكري، أو عقيدة أيديولوجية. حيث يتحول القتال إلى حرب إبادة جماعية، حرب تطهير وتنظيف واستئصال، فكل طرف يرى الآخر جرثومة مخلة بالكون، وآفة مضرة بالأرض يجب استئصالها وتطهير الأرض من دنسها.




   نشر في 06 أبريل 2020 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا