لا يختلف اثنان حول قيمة أبي الطيب المتنبي (هـ303_354هـ)وشاعريته ,فشهرته قديما وحديثا عبرت الآفاق وانتشرت انتشارا واسعا .الرجل الذي تنفس عبق العروبة متمسكا بمواقفه مشيدا بنفسه ومفاخرا بفروسيته وقوافيه وهذا يبدو جليا في شعره.
عرفت حياة المتنبي مجموعة من الانتقالات مر من خلالها عبر محطات متنوعة جعلته شاعرا يفوح فاه حكمة صارت تجري مجرى المثل إلى يومنا هذا,وأبرز هذه المحطات وأهمها :
المرحلة الأولى: التي قضاها المتنبي معية سيف الدولة الحمداني أمير حلب ,أما المرحلة الثانية :فأمضاها رفقة كافور الإخشيدي ملك مصر,ونشير إلى أننا لا نقصي المحطات الأخرى مثل مرحلة اتصال شاعرنا بأبي العشائر والي أنطاكية وأيضا مع ابن العميد ,لكن المرحلتين اللتين قضاهما مع كل من سيف الدولة وكافور هما ما سنستثمرهما في معرفة مدى تأثيرهما عليه وعلى شعره أثناء ذكره العيد.
إنه من البديهي كل البداهة أن يكون للمتنبي وقصائده حظ وافر من الدراسة والبحث الدقيقين ,ونذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض الكتب التي تناولت جوانب من تراث هذا الشاعر ,"يتيمة الدهر " للثعالبي ثم "معجز أحمد"للمعري...إضافة إلى كتب أخرى يكفي للذي أراد التوسع أن يعود إليها لأن هذا المقام لا يسع لتتبع كل التفاصيل.
جاء في ديوان أبي الطيب الذي شرحه البرقوقي قصيدة مشهورة يهجو فيها كافورا الإخشيدي بعدما فر هاربا منه لأنه لم يكرمه مكرمة تليق به,واستهل قصيدته بقوله:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
وجاء في موضع آخر قوله يهنئ سيف الدولة الحمداني بحلول العيد :
هَنيئاً لكَ العيدُ الذي أنتَ عيدُهُ وَعِيدٌ لمَنْ سَمّى وَضَحّى وَعَيّدَا
وَلا زَالَتِ الأعْيادُ لُبْسَكَ بَعْدَهُ تُسَلِّمُ مَخرُوقاً وَتُعْطَى مُجدَّدَا
فَذا اليَوْمُ في الأيّامِ مثلُكَ في الوَرَى كمَا كنتَ فيهِمْ أوْحداً كانَ أوْحَدَا
من خلال هذه الأبيات التي ذكرناها نلاحظ أنها تطرح موضوعا واحدا ألا وهو العيد ,هنا يمكن طرح سؤالين أساسيين هما:
كيف نظر المتنبي إلى العيد في كل موضِع من الموضعين؟
هل المتنبي مجد العيد باعتباره شعيرة دينية إسلامية ؟أم العكس؟
يقتضي تحليل الأبيات السابقة ربطها بالسياق الذي قيلت فيه حتى نستطيع إصدار حكم يتسم بالموضوعية والدقة من خلال الإجابة على السؤالين المطروحين سابقا
إذا عدنا إلى ديوان المتنبي سيتبن أن البيت الأول قاله وهو فار من كافور ليجد نفسه في بيداء قاحلة بعيدا عن الأهل والأحبة وهذا واضح ظاهر لمن سبق له أن اطلع على القصيدة كاملة ,هنا يمكن القول أن ظرفية قول الشاعر ذلك الشاهد الشعري هي ظرفية مضطربة قلقة لأن العيد مناسبة للسرور والفرح ,لكن المتنبي حصل له العكس بل أكثر من ذلك تمنى لو لم يأت العيد .
أما في الأبيات الثلاثة الأخرى التي هنأ فيهم المتنبي الأمير الحمداني وهما راكبان على فرسيهما ,فهي مختلفة تماما مع البيت الأول لمجموعة من الاعتبارات :
أولا:الشاعر وهو راكب على فرسه دليل على الشموخ و الإحساس بقيمة ذاته.
ثانيا:ركوبه على الفرس مع الأمير دليل على قرابته منه,أي كان ينبغي أن يكون المتنبي واقفا بينما سيف الدولة فوق صهوة حصانه مراعاة للمكانة و الشرف.
هذه الإشارات والعوامل دفعت المتنبي إلى أن يدلي بما أجادت به قريحته ,فهنأ سيف الدولة بالعيد مبالغا حين قال :الذي أنت عيده ,ويعني أن العيد هو من ابتهج وسر بوجود سيف الدولة ,أي أنه أعطى قيمة للأمير على حساب العيد الذي يعتبر شعيرة دينية إسلامية ,مضيفا في البيت الثالث إذا كان العيد يأتي مرة واحدة كل سنة فسيف الدولة أيضا واحد يصعب أن يُعثر على مثيله, وذا كله عبّر عنه شاعرنا بأسلوب حكيم بليغ يرهف النفس ويبين قيمة الأمير الحمداني ,إلا انه بالغ في المدح كثيرا, ولا يمكن الجزم في إن كان المتنبي صادقا في حبه هذا أم مجرد تملق وتوسل من أجل أن يجود عليه بمكرمة.
من خلال وقوفنا على الأبيات السابقة والمقارنة بين البيت الأول الذي قاله الشاعر في هجاء كافور وبين الأبيات الأخرى التي قالها في مدح سيف الدولة يمكننا أن نخلص إلى فكرة مفادها أن المتنبي ما كان ذكره للعيد في شعره تعظيما لهذه الشعيرة الدينية ,إنما جاء ذلك جراء مقتضى حال نفسيته وإحساسه المختلف في الموقفين فعندما كان محبطا أخذ يعاتب العيد ولما سر وفرح وهو على ظهر الفرس ذكر العيد لكن انبساطه الزائد جعله يضع العيد في مرتبة ثانية بعد الأمير ,وإذا حاولنا تأكيد هذا الطرح نقول: إن ديوان أبي الطيب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لا نجد فيه ولا قصيدة واحدة تصب في مجال العبادة والدين الإسلامي ,وإذا قارناه بديوان الماجن أبي نواس نجد هذا الأخير رغم مجونه وافتنانه للملذات إلا أنه قال:
يـا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد عـلمت بأن عفوك أعظم
إن كـان لا يرجوك إلا مـحسن فبمن يـلوذ ويستجير المجرم
مــالي إليك وسيلــة إلا الرضا وجميل عــفوك ثم أني مسلم
التعليقات
المتنبي شاعر لا يختلف على إجادته ومدى بلاغة كلماته إثنان، ولكن يختلف الكثيير في معرفة نيّته، ,وبالأخير لا يطّلع على ما في الصدور إلا الله، وإن كان تناولك للموضوع منطقي، بارك الله فيك، وعلى اهتمامك بهذه النقطة المهمة .
لعل أكثر صفة ينبغي وجودها في المحلل (الإنصاف)، وهذا ما التمسناه في مقالك
فلقد اتضح بأنك تحبه وتعرف مكانته جيّدًا، ولكن إعجابك به لم يقودك إلى العمى، كثر الله من أمثالك .