انبلاجُ سرّ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

انبلاجُ سرّ

قصةٌ عابرَة

  نشر في 24 فبراير 2021 .

يُحكى أنَّ طفلةً طفِقَتْ تعملُ كل يومٍ تحتَ الشمس الحارقة، وإذا بلغَ منها الإجهاد أيّما بلوغ تلجأُ من فورها إلى ظلِ شجرة البلوط التي تستكينُ لها نفسها، لم تتحلى ببُنيةٍ جسديةٍ تعينُها على هذا العمل الصعب لمَن هُم في مثلِ عُمرها، وكانَ عودُها لم يشتدّ بعد، أو لم يجد وقتاً لكي يُشعرَ فؤاد هذه الطفلة بأنَّ عليها استشعار أيامها وتذوقِ حلاوتها، ورغمَ ذلك كانت الابتسامة تستقرُ استقرارً دائماً على ثغرها، وعيناها تتوهّجان ببريقٍ عجيب وكأنها حازَتْ الدُنيا كالمُلوك، كان ذلكَ مشهداً مألوفاً لكلِ سكان القرية الذينَ لم يتكبدوا عناء التوغلِ في أعماقِ قلبها للكشفِ عن أسرارها المخفيّة، وذاتَ يوم مرَّ بها رجلٌ مسنٌ يخطو خطواته بوقارٍ مُلفت، بدا كعابر سبيلٍ يفتّشُ عمّا يُرضي فضولهُ بأجوبةٍ شافية، وعندما استظلَّ تحتَ الشجرة بقربها قالَ بودٍ غير متكلفٍ :

- يلبثَ إلا وسيهزهُ في محطات حياتهِ، تلك المحطات التي افتُرضَ بها أن تكون ذكرى ذات مكانة في قلبهِ حتى الممات، معرفة الإنسان لنفسه يعني أن يزيلَ أي حائلٍ يمنعه من تقبلِ عيوبه أولاً.

- ما يسردهُ لسانكِ يعني أنكِ قد تشُبينَ عن الطوّق قبل أن يحينَ وقت ذلك، لن اخجلَ من الإقرار بأني لم أعد شخصاً بمقدورهِ أن يغدقَ على الآخرين بالمعرفة الضرورية، لذلك أتمنى أن تحدثيني عن ماهيتكِ، وعن الدافع الذي جرَّكِ لهذه الأرض؟

- لا تقل ذلك، أيها العمّ الطيّب. المعرفة ليس مخصوصة وإنما تستهدفُ الجميع بلا تمييزٍ لطبقاتٍ أو أعراقٍ عن أخرى، وتحتويهم جميعاً تحت ظلها كما تظلُني هذه الشجرة كل يوم بلا كللٍ أو ملل، إذا عرفَ الإنسان مدى أهمية المعرفة في هذا العالم سيكون حينئذٍ قد قطع شوطاً كبيراً نحو الإلمام بأبعادِ نفسه.

- جميعُنا ندّعي المعرفة، ونتوقُ لأن نُعامل كما نستحق، وهذا الشعور الزائف ماهو إلا مصيدةً لاختبار المعادن البشرية، فأحياناً لا تكون المعرفة إلا نقمةً على صاحبها.

- من العسير أن تقترنَ السعادة بالمعرفة، عمَّاه. دروب المعرفة تختزنُ أصنافاً من الإدراك التي قد تكسبُ الإنسان قدرة عالية على التمعنّ في الواقع والعالم على حد سواء، وهي مفاتيحٌ ذهنية تفكُ العُقد وكل ما تعسّر على العقل فهمه، لكن في سبيلها لابد من دفع أثمانٍ باهظة، وأبرز هذه الأثمان السعادة.

- الجهل يولدُ البهجة لدى صاحبه لأنه لا يخشى خسارة شيء، ولا يتربصُ به ما قد يهددُ صرحَ سعادته المزيّفة، وفي حالٍ كهذا أليس العيش بمعرفةٍ وإدراكٍ واسعيّن بمرارتهما اللاذعة أفضل من ارتياحٍ ستبعثرهُ رياح الحياة عندما تسنح الفرصة؟

- الأمر أحياناً يبدو بهذه البساطة لكنهُ في باطنهِ معقدٌ أيما تعقيد، الجهل داءٌ لابد من استئصالهِ لكي يتاح للمجتمع أن يقارعَ المجتمعات الأخرى بنديّة، ولكي يتم ذلك لابد من اعتناق المعرفة مذهباً أبدياً يسمو للحرية الفكرية والعدالة الأخلاقية، وفي ثنايا رحلةٍ كهذه توجدُ محطاتٌ سيسأمُ فيها المرء من كونه متفرداً مختلفاً عن نظرائهِ الذين يتسكعونَ بلا هدف يُشعرهم بقيمة وجودهم على هذه الأرض، وقد يشعر بأن ما يقوم به هو أمرٌ لا يفترض به أن يقع على عاتقه، فهو ليس منقذاً للبشرية.. أتعرف ماهية هذه الهواجس؟ هي تنبع من الوعيّ القويّ بمُتغيرات الحياة المتأرجحة، وحِمل المسؤولية الثقيل تجاه المجتمع وتجاه ضمائرنا، قد يكون الضمير أحيانا أثقل من أي حملٍ آخر، هذه أثمان ستُدفع لكنها أثمانٌ سيظل صاحبها ممتناً لعيشِ تبعاتها بدلاً من الغرق في الجهل.

- ماذا عنكِ يا ابنتي؟ ما الذي حثّكِ على العمل طوال الوقت بهذهِ المُثابرة الذي لا يمكن أن توصفَ بالعادية؟ ما تسردينهُ من أقاويل كان حرياً بهِ أن يخلقَ لكِ واقعاً وزمناً مختلفيّن عن هذا الذي تُعايشينه، أيمكنُ لزهرةٍ واحدة أن تقاومَ تيار رياحٍ عاتية بمفردها؟.

- يمكنني أن أسرَّ إليك بأني أعيشُ من أجلِ تعويض أبي عما فقدهُ من قدرة جسدية كانت تجعلهُ محط أنظار الجميع، لم يقصرّ قط في توفير كل مقومات الحياة لأجلنا رغم أننا عائلة ميسورة الحال، كان جبلاً لا تهزهُ براكين الحياة، ونهراً غير آسنٍ لا يتأثرُ بما يدور حوله من نفاقٍ وغدرٍ ما إلى ذلك، وكان شمساً يفرقُ غيوم المصائب كلما حلّت بنا، لكن رجلٌ كهذا لابد أن يتجرعَ كأساً من الامتحانات تعلمهُ دروساً كثيرة رغم قسوتها، سقط ذات يومٍ من على المُنحدر عندما كانَ منهمكاً بجمع الأعشاب الطبيعية، زلت قدمه وسقط في النهر، عندما انتشلهُ بعض الفلاحين اكتشفوا أنهم أصبح عاجزاً عن الحركة، لم يتطلب الأمر تشخيصاً ليفهموا هذا، في ذاك اليوم قررتُ أن أكون واعيةً بما يدور حولي، درستُ الأمر بمنطقٍ يفوق عواطفي الطفولية، أيقنتُ بأن أبي يستحق أن يرتاح بعد سنواتٍ عانى فيها بصمت مجابهاً معاناته بابتسامةٍ دافئة تذيب جليد العالم، تخليّت عن طفولتي لأبذلَ كل شيء من شأنه أن يفي والدي حقه، وحتى اليوم لازلت متشبثةً بوعدي.

- يحقُ لوالدكِ أن يعيشَ ويموتَ ناصع الجبين مرفوع الرأس، لو أنّ أزمة كهذه لم تصب عائلتكم لما أدركَ والدك الكنز الذي يحوزه، ولما قدّرتِ بدوركِ جهود والدكِ كما يليق به، يقولون أن الامتحانات يختصُ بها أولئكَ الذين يحتضنونَ معدناً أصيلاً في أعماقهم، ووُجدت لكي تجعل هذا المعدن أكثر صلابة وأصالةً على المدى البعيد، بالطبع إذا عاش صاحب الامتحان وفقاً لذلك، لستُ استغربُ ما يتمتعُ به ذهنك من حذاقةٍ مُلفتة، فالأطفال مهما تحلوّا بأكثر القيم نبلاً سيظلونَ أطفالاً على قدرٍ ثابتٍ من الانسجام مع طبيعتهم، ولن يرهقَ طفلٌ تفكيره بما يصارعهُ البالغ فهو موقنٌ بأنه سيد قرارته، ألذلكَ تطرقتِ إلى الحديث عن المعرفة والوعي؟

- هو كذلك عمَّاه. لولاهما لما تجرأتُ على هذا.

- سلمتِ يا ابنتي الجميلة. 


  • 2

  • Hana Muhammad
    " قصةُ قلبٍ تشبّعَ من خيباتٍ مريرَة يسمُو للانعتاق ".
   نشر في 24 فبراير 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا