الجيل التائه بين مطرقة الإعلام وسندان التربية
نشر في 30 يناير 2017 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
ضرب بيده السمراء الفتية على الطاولة، ضربة خفيفة مترافقة مع تنهيده عميقة ومتأففة في الوقت عينه.
- سألته: ما الأمر، هل أنت مريض؟.
- قال: لا.
- حاولت تشجيعه فسألته: هل أشرح هذه النقطة من جديد ؟.
- قال: لقد أصبت بالحيرة، أنت تقولين هناك يوم آخر يحاسب فيه كل إنسان على ما عمله في هذه الدنيا، فيكون الجزاء إما جنة أو نار؛ وأبي وأمي يقولان أنه لا جنة ولا نار. فأيكم يقول الحقيقة؟!!!
هذا الفتى احتار في أمر كان من المفترض أن يكون بديهياً في مجتمع مسلم، فكيف به في الأمور الأخرى؟
أطلقت لنفسي العنان، وحاولت استبطان حالة هذا الفتى وأمثاله من أبناء جيله، فوجدت العجب العجاب.
جيل لا يفتر عنه الإعلام لحظة واحدة، لجعله مستهلكاً لجميع منتجاته المادية والفكرية، وفي كل المناسبات، وهو لا يجد بالمقابل من التربية معيناً له للتصدي لهذا الضخ الإعلامي.
فالإعلام، ومن قبل أن يولد هذا الفتى، وحتى من قبل أن يختار الشاب والفتاة كل منهما للآخر، يقدم صورة نمطية لما يجب أن يكون عليه كل شريك من الشريكين، إن من حيث المظهر الخارجي أو من حيث المستوى الاقتصادي والثقافي، وفي آخر اللائحة ربما وُضعت الحالة الإيمانية للشريك وربما لا، على اعتبار أنه -الإعلام- من رعاة حرية الاعتقاد.
ففي سنوات الطفل الأولى يقوم الإعلام بخداعه لأنه لا يستطيع التمييز بين الحقيقة والخيال، فمن منا لم ير أو يسمع عن طفل ربط قطعة من القماش حول عنقه وحاول أن يطير كما يطير"سوبرمان"، وبعض الأهل يزيدون الطين بَلَّةً عندما يقدمون ثياب هذا الرجل "السوبر" هدية لأطفالهم.
وأخطر ما يقدمه الإعلام بعد ذلك هو الكم الكبير من المفاهيم الدخيلة الغريبة على عقيدتنا وديننا. فالأبناء عند بحثهم عن معلومة معينة لا يقدرون على التمييز بين مصادر المعلومات، ويكسبون المعلومة سواء كان مصدرها موثوق به أم لا، ولقلة زادهم في الموضوع يعتبرون أن كل ما يكتب على "النت" هو الصواب، وهنا يصدق فيهم قول الشاعر:
عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبـــــــــــاً فارغـــــــــــــاً فتمكن
أما التربية عندنا، فهي بجميع وسائلها – الأسرة، والمؤسسات التربوية، والمسجد – قاصرة حتى الآن عن إخراج جيل مسلم واع مفكر مبدع.
فمن الأهل من همه الأول تأمين الحاجات المادية للأسرة، وإن كان بعضها يوضع في خانة غير الضروري للعيش، على حساب الضرورات الروحية والنفسية والاجتماعية.
ناهيك عن الأساليب التربوية الخاطئة التي تعتمدها بعض الأسر مثل التدليل الزائد أو الإهمال الزائد، إضافة إلى عمل الأم خارج المنزل، والاستعانة بالخادمات الأجنبيات، ليس للقيام بأعمال المنزل فحسب، وإنما للاهتمام بأمور الطفل المعيشية والعاطفية، وربما أُضيف إلى مهامهن - وبشكل غير مباشر- الاهتمام بأمور الزوج أيضاً، إلا من رحم ربي!!
أما المؤسسات التربوية فهمها تعليم المواد الأكاديمية التي تؤهل التلميذ والطالب لاختيار تخصص جامعي يجني من خلاله الأموال والجاه. كما تبغي في سعيها لتفوق طلابها، المحافظة على سمعتها والمستوى اللائق بها في التقييم العام بين المؤسسات التربوية، وذلك كله على حساب تربية الأبناء بدلاً من تدريسهم فقط.
والمسجد، وهو الأمل المتبقي في ظل الوضع القائم، وإن كان في حالات كثيرة يزيد من بلبلة المريد لدينه؛ يذهب إليه رغبة ورهبة، فيُدخله بعضهم في خلافات الماضي واختلافات المذاهب الفقهية، قبل أن يعرِّفه نفسه وربه أولا.
فلنسارع ونرحم هذا الجيل ونعيد إصلاح خطابنا الإعلامي والتربوي والديني.
وإذا ما بقي الوضع على ما هو عليه، فلا يلومنَّ أحد هذا الجيل ولا يصفه بأنه جيل مستهتر، وإنما هو جيل تائه يبحث عن القدوة الحسنة التي يراها أحياناً في لاعب كرة، وأحياناً أخرى في رجل السياسة، ومرة ثالثة في مطرب أو ممثل، ورابعة في قائد متطرف.
-
د.فاطمة أحمد عميصلبنانية حاصلة على اجازة جامعية في علم النفس وماجستير ودكتوراه في الدراسات الاسلامية ، قسم التأصيل الاسلامي للدراسات النفسية