ريتا رحلت ولن تعود
أنت "الثورة" أنت "الحياة" .. أنت "الحرية" يا "ريتا" .. أنت لست جثة هادمة كما رآك العالم ذلك اليوم. أنا كنت أراك وما زلت "الحياة" .. الشغف .. اصرخي يا "ريتا" اصرخي تحت المطر، بين الضباب .. بين يدي، اصرخي .. لأنقذك وأنت ما تزالين حية، لتنظري إلى عيني، لتغمريني بين يديك، لتداعبي شفتي، لتقبليني .. لتهربي مني .. لتربكيني .. لنجن سوية .. أبقي قليلاً لأجلي يا "ريتا" ..
نشر في 09 أكتوبر 2018 .
كان في كل يوم يخرج في حوالي الساعة الرابعة عصراً، يمشي وعلى وجهه تلك النظرة البائسة التي لم تفارق ملامحه منذ عام. يقف عند منزل "ريتا" يتلمس بأصابعه جدران المنزل المطلية بالرماد الأسود.
ثم يعود إلى منزله ويجلس في زاويته المعتادة يعيد قراءة رسائلها مرات ومرات، يحتسي قهوته بصمت، يدخن سجائره وهو يتنهد، يشارك العالم أفراحهم وأتراحهم بذات الملامح .. أتألم يا أمي، وألمي تعجز عنه حتى الدموع ..
أكفر أحياناً بالموت، ثم أصلي لله أن يغفر لي هذا الذنب العظيم. الموت رحمة يا بني تقول لي أمي .. و"ريتا" تلك الفتاة الشابة الشقية التي كان الجميع يحبها رغم مقالبها المشاكسة، رغم مغامرتها الطفولية التي كانت تشب وتكبر معها، رغم كل شيء .. لكن لا أحد منهم أحبها مثلي، لا أحد ..
لا أحد أخلص لهذا الحب، فجميعهم عادوا إلى حيواتهم السابقة متجاوزين فكرة أن "ريتا" رحلت ولن تعود. "ريتا" التي سرقها الموت منا على غفلة، لكنه لم يستطع أن يشوه ملامحها، حتى تلك النار التي كانت تشبه الجحيم لم تستطع أن تنال من جسدها الغض البريء، ماتت والبسمة التي كانت ترافقها في أحلامها ما تزال معلقة على شفاهها . . لكنني لا أستطيع يا أمي أن أغفر لنفسي كيف أنني بقيت حياً بعدها، الوجع قتل بي كل شيء .. لكنه لم يقتلني .. وهي ما تزال ترافقني في أحلامي تختبأ خلف ظلي، تداعب شعري بيديها، تضحك والدمعة في عينيها .. سامحيني يا "ريتا"، لقد وعدتك بالكثير ولم أف بوعدي يوماً.
كثيرون وعدوك يا "ريتا" وقدموا أنفسهم قرباناً لك، لكن لم يكن أحد منهم صادق .. حتى أنا، عندما رأينا النار وهي تشب في منزلك .. الروح غالية، أم أنك لم تكوني تستحقين .. لا .. لقد استحققت حبي وشغفي .. لقد ارتميت بين ألسنة النار الملتهبة، ورحت أحارب بين ضباب الدخان لكني .. لكني لم استطع إنقاذك ..
الجميع كانوا في الخارج يتظاهرون، يصرخون، يطلبون النجدة وحسب .. وحدي من كان صادقاً معك، وحدي من أقسمت على روحي قرباناً لك، ووحدي من دخلت. لكنني عندما خرجت وأنا أحملك جثة هامدة بين يدي لم يعتبرني أحد بطل، لم يثني أحد علي .. رغم أنني انقذت جثتك من الاحتراق. لكن كيف .. وأنا حلمت بأن أحملك أمام العالم كله هكذا في ليلة زفافنا، وأنت تصرخين وتحاولين التملص من بين يدي .. لكنك كنت هادئة، كان شعرك ينسدل على يدي كشال حريري أحمر متوهج، وعيناك لم تكونا تنظران إلى عيني .. لما كل هذه القسوة، لماذا استسلمت للموت يا صغيرتي .. لماذا تكبرت على روحي .. والله لو أنني مت وعشت بعدي لكنت أسعد الناس، لرافقت ظلك حتى آخر لحظة من حياتك ..
وأنت لم تعودي حتى تأتين لزيارتي في الأحلام. ربما تأخرت حتى وصلت إليك في تلك الليلة .. لكنني على الأقل لم أكن مثلهم. لم أصلي الفجر رياءً خلف الإمام، لقد كنت تعيساً، كافراً .. كنت ميتاً يا "ريتا". كنت أنا الذي أحترق في كل لحظة .. أنت "الثورة" أنت "الحياة" .. أنت "الحرية" يا "ريتا" .. أنت لست جثة هادمة كما رآك العالم ذلك اليوم. أنا كنت أراك وما زلت "الحياة" .. الشغف .. اصرخي يا "ريتا" اصرخي تحت المطر، بين الضباب .. بين يدي، اصرخي .. لأنقذك وأنت ما تزالين حية، لتنظري إلى عيني، لتغمريني بين يديك، لتداعبي شفتي، لتقبليني .. لتهربي مني .. لتربكيني .. لنجن سوية .. أبقي قليلاً لأجلي يا "ريتا" ..
كفاك ما تفعله في نفسك يا بني " ريتا رحلت ولن تعود". .
ريتا ماتت .. ريتا خانها الجميع، ماتت بصمت، لم تودع أحداً .. ليس لأن الفراق كان صعباً عليها، بل لأنها أرادت أن تخبر الجميع بأن الموت لا يعرف العنواين، هو سهم لا يخطئ المصاب .. ريتا رحلت وأخذت معها بسمة أهل القرية، أخذت معها شروق الشمس، وسمر الليالي .. ريتا رحلت ولن تعود!!