أستعد لمغادرة المقهى، أدس الموبايل والمفاتيح في جيوبي، وأرتدي سماعاتي الكبيرة على رأسي كخوذة سائق موتوسيكل مبتدئ. أستمع لأغنية أعيدها مراراً وتكراراً، تحارب فيها sia نفسها وماضيها، أرسل الأغنية لصديقة ذكرتني الاغنية بها، وأقرأ نصّا جميلاً كتبته صديقة أخرى، وأشعر اليوم بأن في داخلي أسطوانة أكسجين إضافية، أستطيع التبرع بها للأصدقاء، أستطيع سماع تلك المأساة، وإضحاك هذا الصديق المحبط، واللعب مع القطة التي تلعب الآن مع قدمي في المقهى.
أتحسس الأسطوانة وأتأكد من امتلائها، وامتلاء أسطوانتي أنا أيضاً، وأندهش من فراغهم التام في أحيان عديدة، فراغاً يكوّن ضغطاً بالسالب. في حالة الضغط السلبي تنسحق الأسطوانة على قلبي وصدري، تضغط صفائح المعدن البارد عليهم، أجاهد كي أتنفس، أقاوم، ولا أدري لم! ولكن في ذلك الوضع أشعر بأني ارى الحقيقة وبأن بصري حديد. أتأكد تماما أني أقاوم فقط، ليس رغبة في الحياة نفسها، ولكن لمجرد فضول طفولي لمعرفة ما سيحدث غداً، وتدوينه.
أحاسب القهوجي، أضع زيادة في الحساب كي يبتسم في وجهي غداً، أستثمر في أبتسامة. وأتحرك عائداً لبيتي مستمعاً لأغنية لبهاء سلطان، أقابل في الطريق أحدهم يأتي في اتجاهي، حين تتلاقى عيناي مع أحدهم تتلعثم قدماي دوماً، أذهب يمينا وهو يريد أن يفاديني فيتجه يسارا فأتجه يساراً، تلعثم تام، لا أدري سببه. الحل الوحيد أن أنظر في الارض. وهو مافعلته، وبهاء يقول "الآه تطلع من قلبي يسمعها كل الناس جنبي" وأنا أقول ناظراً للأرض، مفادياً الرجل، كفى كذباً يا بهاء، من يسمع؟!
أدخل حجرتي، أجلس أمام الكمبيوتر، في مركز (الكمفورت زون) الخاص بي، وأسترجع حكاية زميلي في الصباح، عن الفتاة الصعيدية التي اتصلت به بالخطأ ثم توالت المكالمات. هربت من عمها، الطامع في الورث، بعد وفاة أبيها الى الغردقة، وهناك عملت في فندق ردئ. أتخيل الفنادق الرديئة هناك كيف هي، نظرا لعملي في تلك المدينة لفترة، وكيف تتعامل مع أراذل البشر. كانت تحدث زميلي ليلاً، تقول أنا خائفة، والرد كان "لا أستطيع المساعدة فأنا اعيش في مدينة أخرى" فكانت تقول له "على الأقل إعلم هذا" .سمعت الحكاية في أولها غير مبال إلّا بلف سيجارتي، وفي نهايتها كانت السيجارة معلقة بإهمال بين شفتي من فرط الانتباه، والزميل يحكي ضاحكا. كيف تضحك يا صديق بالله عليك!
أسترجع الحكاية، أستحضر وادٍ أمام عيوني، أملأه وحدة وخوف ،كماء أسود في حوض كبير قارب أن يفيض على أرضية حجرتي، وأحدق بوجل في الوادي السحيق، أشعر بخوف الفتاة. قسوة العالم تفوق التصور أحيانًا. أفكر في أن تلك القسوة لم تخفف من وطأتها على صدري أسطوانات الأكسجين، ولا تمريناتي الصباحية قبل العمل. أن تكوني بالجوار، وأن أسرد لك الحكايات وأنت تمطين شفتيك في شفقة وتسبين العالم بطريقتك ونبرة صوتك التي تشبه نبرة صبي في التاسعة من عمره. ونضحك. سيكون حلّاً أفضل.
أسترجع الحكاية، وأتحسس أسطوانتي، وأتذكر عيناكي، أعلن أني أستطيع أن إنقاذ غريق، وإسعاد قط وكلب يلعب، فرصة، فلتستغلوها، وأستمع لأغنية sia مجدداً، وأشعر بجوع مفاجئ.
-
لؤي أحمدرفيق السُكْر ماكان متخيّل!