لست ضد النقاب، ولكن...
ياسين الكولالي
نشر في 27 شتنبر 2020 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
من المؤسف أننا لا زلنا نلاحظ في مجتمعاتنا العربية بشكل عام، وفي المغرب بشكل خاص، أنه لا زالت تغلب عليه النزعة الذكورية، حيث أن المرأة إلى اليوم لم تتخلص بعد من سيطرة وهيمنة الرجل عليها، لعدة اعتبارات منها الدينية والعرفية والثقافية والفكرية...الخ، نظرة نظَّرت لها العقلية الذكورية، مستعينة بالدين والسياسة وغيرهما، فكان من نتائج ذلك إعلانه لامتلاكه القوامة عليها وامتلاكه عقلا كاملا وليس ناقصا مثلها كما روج لذلك ... كل هذه الاعتبارات قد منحت المجتمع الذكوري الشرعية في توجيهها لما يلائم مراده وميوله وذوقه في كل الأمور الحياتية. بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أضحت المرأة تتصرف وفقا لرغبة هذا الذكر المهيمن، و هذا الأخير أنواع، يختلف باختلاف الأيديولوجيا التي ينتمي إليها، أي أن المرأة لا تعيش في مجتمع ذكوري موحد الفكر والمنهج، إنما مجتمعات تختلف باختلاف المرجعية و الأيديولوجيا، لكنهم يتفقون جميعهم على سلب إرادة المرأة في التفكير واستقلاليتها في اتخاذ قراراتها بنفسها، فنجد مجموعة من النساء يناضلن لأجل حريتهن وهو شيء جميل، لكن أي حرية هذه التي يناضلن من أجلها؟ من الواضح أن كل باحث عن حقيقة هذا النضال سيفهم أنه ما هو إلا استجابة للشق الذكوري من المجتمع العلماني الرافع لشعار "الحرية للمرأة" سنوات طوال حتى استطاعوا إخراجها من منزلها بالزي شبه العاري الذي يرضي شهوتهم ويسهل عليهم الحصول عليها، وقد كان لهم ذلك. ومن جانب آخر نجد الشق الثاني من المجتمع الذكوري، (التيار الديني السلفي الوهابي ومن لف لفه) حيث أنهم نهجوا نهجا معاكسا للعلمانيين أو أصحاب الفكر التحرري، فرفعوا شعار"جسد المرأة عورة" ليطالبوا من خلاله أن تلبس المرأة الحجاب باعتباره لباسا شرعه الإسلام، لتستر نفسها به، مستدلين بذلك بآيات من القرآن وأحاديث من السنة، بتأويلهم الخاص لما يلائم منظورهم ويخدم أيديولوجيتهم، فجعلوا المرأة من ممتلكاتهم الخاصة، وأقنعوها أنه بطاعتهم طاعة الله، وبمعصيتهم تعصي الله، و خشية أن يطمع لهم أحد فيها، لجؤوا إلى تطويع التراث وتأويل نصوصه خدمة لتصوراتهم وأفكارهم. و قد نتج عن ذلك، ليس فقط فرض الحجاب على المرأة لداعي الستر- و هو أمر مقبول لدي مع أن فيه نقاش- بل قاموا بلفها بأمتار من الثوب الأسود كالغراب من رأسها إلى أخمص قدميها، ومنهم من سمح لها بأن تترك فتحة لتنظر منها، ومنهم من سمح لها بوضع فتحتين، ومنهم من منع كل ذلك ولف جسدها كاملا "كقالب من السكر"، وألفوا لأجل ذلك الأطنان من الكتب؛ أذكر من بينها: "رسالة الحجاب واللباس لشيخ الإسلام ابن تيمية، ورسالة الحجاب للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ورسالة الصارم المشهور على المفتونين بالسفور للشيخ محمود بن عبد الله التجويري، ورسالة الحجاب للشيخ محمد بن صالح العثيمين...الخ".
كل من هذين الفريقين الذين ذكرناهما آنفا –أي العلمانيون والسلفيون- ينظر للمرأة بشهوة جنسية مجردة من أية مشاعر أخرى. يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة" «أن المرأة قد سقطت ضحية فكرين متطرفين نابعين كلاهما من غريزة جنسية واحدة، فأصحاب الرأي الأول يدعون إلى تحرير المرأة وخروجها في زينة فاتنة، إذ في ذلك مايوقض غرائزهم ويرضي شهواتهم، أما أصحاب الفكر الثاني، فهم متمسكين بإبعاد المرأة عن المجتمع، ومؤمنين بضرورة إبقائها في سجنها التقليدي، قد يكون في منعهم لها من الخروج مسوغ خفي مما يستقر في نفس الرجل، من دافع الغريزة الجنسية خوفا على أنثاه، أن يشاركه فيها غيره، وهنا يظهر جليا الاعتبار الجنسي في تفكيره. وإذا تأملنا هذين الفكرين نرى أنهما غير مختلفين ما دام أن الدافع لكليهما واحد وهو الغريزة الجنسية». وبسبب هذا الفكر الرجعي المتحجر أصاب أغلب الناس ذكورا وإناثا، بالإيمان بمنطق الثوب، أي أنهم باتوا يتحرون اللباس أكثر ممن يلبسه، يصدقون الثوب أكثر من تلك التي ترتديه، وكما هو معروف لدى الغالبية من الناس مع عدم التعميم طبعا، أن الكثير من الشباب يلهون مع الفتيات (المتبرجات) خارج حدود الشرع، وعندما ينوون الزواج فأغلبهم يبحث عن تلك التي تلف جسدها بمترين من الثوب الأسود (النقاب)، على أساس أنها أنظف من الفتاة ذات اللباس العادي، فبات الثوب الأسود الذي يغطي المرأة شهادة كافية لذوي العقول السطحية البسيطة على عفافها وتقواها وطهارتها، وهذا ما كان يروج له التيار السلفي الوهابي، فأضحى أغلب الناس يأمنون بمنطق الثوب، الشيء الذي يدفع الكثير من الفتيات إلى ارتدائه لغرض الزواج، والنقاب هو قليل من كثير من الأشياء التي روج لها هذا التيار (المتشدد)، لكنني في هذا المقام لن أتطرق إلا لموضوع لباس المرأة وبالضبط النقاب، لعلي أوفيه حقه، وقبل الخوض في غمار هذه التجربة، لابد من طرح جملة من الأسئلة خدمة للموضوع:
ـــــ ماهو النقاب لغة واصطلاحا ؟
ـــــــ هل النقاب حاجة دينية أم إكراه ذكوري ؟
ـــــــ كيف يجب أن تكون نظرتنا للمرأة المتنقبة ؟
قبل أن نخطو خطوتنا الأولى في موضوع النقاب، لا بد أن نقف على مدلوله لغة واصطلاحا لما تفرضه علينا منهجية العمل السليمة. إن «النقاب هو القناع الذي تضعه المرأة على أنفها فتستر به وجهها. » حسب ما جاء في كتاب المتقن الوسيط.
وقد عرفه كتاب معجم الطلاب بـــ: «النِّقاب - بكسر النون - : ما تنقبت به المرأة، يقال: انتقبت المرأة، وتنقبت: غطت وجهها بالنقاب .»
والاستعمال اللغوي للنقاب لا يختلف عن الاستعمال الاصطلاحي أو (الشرعي). و يعرف الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله- اللباس الشرعي بأنه هو: «حجب المرأة ما يحرم عليها إظهاره، أي : سترها ما يجب عليها ستره، و أولى ذلك و أوله : ستر الوجه؛ لأنه محل الفتنة ومحل الرغبة.»
من خلال تعريف الشيخ العثيمين للباس الشرعي يبدو أن النقاب بالنسبة له هو اللباس شرعي للمرأة، و جُعِلَ لها من أجل درء الفتنة التي يسببها وجهها حيث أن إظهاره سيوقض الرغبة عند الرجل ليشتهيها ويقع في المعصية، وتعريف الشيخ يجعلنا نتساءل، هل هذا الرجل الذي يشتهي المرأة انطلاقا من النظر إلى وجهها فقط، هل منطقه جنسي التفكير؟ ألا يرى في المرأة سوى جسدا يقضي شهوته فيه؟ ولنفترض جدلا أنه كذلك، هل من المعقول أن نخنق المرأة بثوب من رأسها إلى قدميها فقط لأن الرجل لا يستطيع أن يسيطر على نفسه؟ كلها أسئلة مهداة إلى أولئك الذين يؤمنون بهذا الفكر الرجعي.
من الصعب مواجهة مجموعة من الجماعات والمؤسسات وموروثات لأفهام دينية، بدءا من بنية السلطة الذكورية إلى سلطة الفقه وتخلف بعض رجال الدين، وتخلف فهم الدين والشرائع، وعطالة العقل عن العمل، والاستسلام أمام سلطان العادة أن نصرح بكل بساطة. إن اللباس بشكل عام هو مسألة ثقافية لا علاقة له بالدين، والنقاب إكراه ذكوري وليس مطلب ديني، سيكون خللا في منهجيتنا إن قلنا أن هذه هي الخلاصة للحكم حول النقاب، من دون إعادة وضع المسألة موضع نقاش لكي نوضح بعض ما غمض عن هذا الموضوع، ونتعمق في بعض ما ظل عن السطح، ببرودة دم، وهدفنا الوحيد هو التفكير والإقناع وليس فرض موقفنا على أحد.
في مستهل حديثنا سنقف على نصوص قرآنية قد عالجت موضوع اللباس بشكل عام. إن الآيات التي تحدثت عن اللباس نزلت في سياق معين لابد من ذكره، و قد «كانت المنازل في عهد النبوة لا تشتمل على مراحيض، والنساء كن يخرجن لقضاء الحاجة في الخلاء، وكن يصطحبن معهن إماءهن كمرافقات في الطريق، وحسب جملة من المفسرين إن بعض نساء النبي والصحابة قد تعرضن للتحرشات من طرف الرجال، فشكون ذلك إلى النبي فنزلت الأية 59 من سورة الأحزاب، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(59﴾)كما ورد في مقدمة كتاب "الحجاب والنقاب دراسة فقهية واجتماعية" للذكتور سامر أبو القاسم.(
فالهدف من "إدناء جلابيبهن عليهن" واضح من منطوق هذه الآية، ويتمثل في "أن يعرفن"، أي أن يميز الرجال المتحرشون بين النساء الحرائر وبين الإماء المرافقات لهن، فلا يتعرضوا للحرائر بسوء.
وهو الشيء الذي واكب روح العصر الذي عاش فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ومن جاء بعدهم من الفقهاء والمفسرين، الشيء الذي يجعلنا نتساءل حول ما إذا كان التشريع في الإسلام يبتغي الإحصان والعفاف للمرأة الحرة وحدها دون الإماء؟ وموضوع الإماء هذا موضوع آخر لا يسعنا الخوض فيه لما يحتاجه من دراسة مكثفة وبحث معمق.
وبعد الآية أعلاه جاءت الآيتان 30 و31 من سورة النور: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)﴾
ويبدو أن القرآن، من خلال هاتين الآيتين، توجه إلى الرجال بخطاب عام، بينما توجه إلى النساء بخطاب خاص ودقيق مرتبط بأحوال عصر النبوة فقط. رأى المفسرون بشأن "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" أن الخمار هو ثوب تضعه المرأة على على رأسها كله أو بعضه وتتركه، وقد اختلفوا هل المطلوب من المرأة أن ترخي الخمار على وجهها وصدرها، أم تلفه من وراء ظهرها وتحت إبطها، ليتغطى به الجيب على الصدر. كما اختلفوا في تحديد الفرق بين "الزينة الظاهرة" و "الزينة الباطنة" ، فمنهم من حصر الزينة الظاهرة في الثوب فقط تلقيه المرأة على جسمها كله، ومنهم من جعل الزينة الظاهرة تشمل الوجه والكفين، ومنهم من أضاف الذراع، ومنهم من أباح للمرأة أن تبدي من أعضائها حسب الحاجة. وبذلك يتضح أن تحديد طبيعة الفروق الحاصلة بين مختلف التفاسير للنص القرآني، خاصة في اللباس، راجع بالأساس إلى الفهم البشري لا إلى النص الذي يعتبر حمالا لأوجه. وفي ظل هذا الإختلاف المتباين بين المفسرين، وتشبث بعض الذكور بنظرة أحادية غالبا ما يكون النص الغائب الذي زرعته في ذهنهم أبواق إديولوجية، والتي تدفعهم إلى فرض شكل لباس معين على النساء، يمكننا أن نقول أن النقاب ليس شكلا لحضور المرأة في الفضاء العمومي باعتباره أمرا دينيا، إنما هو تجسيد لوعي ذكوري لهذا الحظور، فأصبحت المتنقبة مقدسة في نظرة البعض، وهذا أمر غير سوي، يقول أحد كبار علماء القرويين محمد بلعربي العلوي : «الأفضل اليوم أن تخرج المرأة بدون حجاب حتى تعرف في الشارع: زوجة من هي؟ وابنة من هي؟ وأم من هي؟ فلا يقرب أحد منها بأذى ولا تستطيع هي نفسها أن تتستر عن أي شيء يشين أخلاقها ويمس دينها...فالسفور اليوم هو أقرب من الحكمة، التي من أجلها كان الحجاب، من الحجاب نفسه». ويقول الذكتور والمفكر المغربي محمد عابد الجابري في هذا الصدد: «إن السفور هو الذي يحمي المرأة اليوم من نفسها ومن الرجال، وليس الحجاب...ليس اللباس ذاته هو الذي يحمي من "مقدمات المحظور"، لأن المحظور نفسه يمكن أن يحصل في عصرنا بالحجاب الذي يلف سائر جسم المرأة..».
بالفعل، المحضور في عصرنا الحالي، عصر اليوتوب والواتساب والفيسبوك...الخ، بتنا نرى الفضائح والخيانات الزوجية غالبا ما تكون الخائنة فيها منقبة، ويحكي أحدهم أنه في بلد كان يعتنق فكرة النقاب للنساء، وأنه كانت له علاقة غير شريفة بإحداهن، وحدث أن زاره زوجها على غير موعد، وكانت تلك المرأة عندهم في البيت، وتحير صاحبنا ماذا يفعل، ولكن الزوجة المحترفة طمأنته، ولبست النقاب ودخلت عليهما تقدم لهما الشاي، ولم يعرفها زوجها، ونجا صاحبنا بفضل النقاب، وفي هذه القصة كان النقاب هو البطل الذي يتظاهر بالفضيلة والعفاف، ويخفي داخله الرذيلة والنفاق، ومثل هذه القصة تحدث كثيرا في عصرنا الحالي، والمواقع الفاضحة لهذا النوع من النساء لخير دليل.
الإشكال اليوم ليس في النقاب، بل في ذلك الذي يقيم أخلاق المرأة إستنادا إلى قطعة الثوب الذي ترتديه، فغايتي من هذا المقال ليس دحض قيمة المرأة المتنقبة أو التقليل من قيمتها، إنما غايتي ألا يمنطق الثوب في أذهان الناس ويلصق بالعفة والطهارة، فالعفة ما كانت لتكون قطعة قماش إلا عند أصحاب الفكر السطحي القشوري، والعاقل هو من يتحرى عقل المرأة إن كان مكسيا بلباس العفة والفضيلة، ولا شأن له بلباسها...المرأة يجب أن تحترم بأي لباس ارتدته، نقابا كان أو غيره، ولا نعلي قدر إنسانة على إنسانة فقط لأنها ترتدي لباسا معينا، وأختم بقول الشاعر:
لعمرك ليس الطهر في برقع وفي
حجاب بأسياف محاط وأسهم
ولكنه في كل نفس شريفة
لها لطف عصفور وهيبة ضيغم
-
ياسين الكولالي YASSINE EL KOULALIطالب باحث في العلوم الإنسانية