دموع الحديد وأحزان روميو.. فطرية اللا مألوف - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

دموع الحديد وأحزان روميو.. فطرية اللا مألوف

  نشر في 20 يناير 2020 .

     أمـــــل ممـــدوح


      في عالم الحداثة يستعيد الجسد دوره البطولي، ذاك الذي كان في البدء قبل عصور التطور الذهني الإنساني، خاصة في المسرح، فيما يعرف بالمسرح الحركي أو الفيزيائي، حيث صار قائدا للتعبير الحركي عن أفكار تمثل ذروة التطور الفكري الإنساني، من خلال قدرة متطورة على التجريد، والخروج من حالة التواجد الواقعي إلى الوجود الحقيقي، ومن واقع الأشياء إلى ما ورائها أو داخلها، ومن الظاهر الوصفي إلى الباطن الضمني، إنه ولوج لعالم نفسي وذهني معقد تلخصه لغة الجسد، كنوع من التحرر من أطر التعبيرات التقريرية المألوفة، والتمرد على المنطق الصارم، وإعادة الوعي لبراءته بتواصله من جديد مع فطرية اللاوعي، كإبحار يحرر الذهن من كلاشيهية المألوف نحو أصوله الطبيعية البريئة، كما السير إلى الوراء في عالم من السيولة الحرة، وقد تضمنت الدورة 26 من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، عروضا ضمن هذه الحالة الحركية الحداثية، التي تتناسب مع مسمى المعاصرة والتجريب، سنتوقف مع نموذجين منها اتسما بعودة لحالة فطرية برية، وخروج حتى في المضمون عن المألوف ، بتعبير حركي جسدي كان فيهما اللغة الأولى.


دموع حديد ... صوفية التشكيل في الفراغ


     " لست من الشرق ولست من الغرب .. لست من الأرض و لا من الماء و لا من الهواء و لا من النار .. مكاني هو اللامكان و أثري هو اللا أثر"، هذا ما يقوله جلال الدين الرومي شيخ الصوفية، كحالة من الحضور بفناء الخواص المحددة، والوجود بالفرار من الانتماء لمنطق الأشياء ومن أسر واقعيتها الصورية، إلى جوهر غير مطروق وآفاق أبعد أكثر صدقا، يتجاوز الأرضي المحدد إلى اللانهائي الأزلي، هذه السمات الصوفية نجدها أيضا في حالة الفن الخالص الذي تجنح إليه فنون ما بعد الحداثة، بتحريرها للشكل من أسر الموضوع، لتصبح ذاتيته فيه نفسه لا في موضوعه وفيما يقول، وهو ما يتفق مع رأي الشاعر والناقد الأمريكي "تي إس إليوت"؛ "إن القصيدة لا تقول شيئا.. وإنما هي الشيء نفسه"، حيث يتم نوع من التنقية بعملية محو متزايدة، للتخلص من التفاصيل والخصائص الجزئية إلى المطلق، مع نزوع "للا أنسنة الفن" كما يسميها الفيلسوف الأسباني "جاسيت"، برفض الواقعية والمحاكاة تحريرا للفنان من التراث الفني الإنساني، هذا الربط بين الصوفية وسمات الفن الحداثي؛ كان البناء الفلسفي والدرامي للعرض الراقص"دموع حديد" للمخرج والمصمم الهام وليد عوني مع فرقة الرقص الحديث، الذي قدم في ختام المهرجان التجريبي للمسرح، بسياق سردي حركي حداثي وتجريدي، مبني على عقد ارتباطات ذهنية وفلسفية مجردة، شديدة العمق وغير مألوفة الطرح، كنقلة نوعية في عروضه نحو آفاق مختلفة، حيث يتم التخلي هنا عن الدراما بمعناها المفهوم لدراما علاقاتية مثيرة للتأمل، تحيل المواد والأشكال الأولية لشخصيات رئيسية، يشكل منطق وجودها نفسه وتشكيلها وحركتها مضمون وفلسفة العرض، وذلك من خلال استلهام تجربة المهندسة المعمارية العراقية البريطانية الشهيرة "زها حديد"، صاحبة التصميمات الحداثية المتمردة البارعة، تلك العالقة في الفضاء نحو آفاق حرة فوق محورها كراقص صوفي، الخارقة للمألوف والواقع الجامد، والتي اتهمها البعض بأنها تصميمات غير قابلة للتنفيذ، صاغتها بأسلوب معماري ينتمي للعمارة المستقبلية ولمنهج تفكيكي مبهج غريزيا، هذه العمارة التكسيرية ضد الكلاسيكية، التي تحرر الشكل وتقوض المسوغات المتعارف عليها، كحالة تتملص من الماضي لتتشطى متجددة، يتطرق العرض لروح أعمالها الحرة وخطوطها الانسيابية وأشكالها المتفككة المنسابة، متعرضا لفلسفتها لا حياتها، مع لمحات خافتة شحيحة لمعاناتها..ودموعها الكامنة بزهاء خلف الحديد.. لقبها وخامتها الأهم.


     بداية خافتة تشي بحالة من الغموض بحركة تسريبية خاملة، من خلال مجموعة الراقصين والراقصات بأزياء سوداء متشابهة محايدة، يبدون خاملي الروح يسلمون على بعضهم بعضا، كحركة توحي بالتعاقب والثبات، كمجموعة تورث بعضها بعضا، مع التركيز على كتلة مغطاة بمفرش ذهبي لامع بمنتصف خلفية المسرح، الجميع متشابهو الهيئة والحركة، عليهم بؤر ضوئية بيضاء شاحبة، يوحي بركود، كجزء يعبر عن مرحلة تقليدية كانت سائدة في الإبداع، إلى أن ترفع إحدى الراقصات في المنتصف قدمها لأعلى بوضع يبدو متمردا اعتراضيا، ثم تنهض متقدمة نحو الكتلة اللامعة المغطاة في الخلف يتبعها تدريجيا الباقون، ليرفعوا المفرش الذهبي الذي زادته الإضاءة بقدومها توهجا ودفئا، لتبدو تحته مجموعة من الأشكال الهندسية المفرغة ضمن أطر مصنوعة من الحديد، مكومة فوق بعضها، كما لو كان منجما مكتشفا، ليبدأ ظهور رجل مقنّع يرتدي زيا أسود مجرد محايد، في هيئة غامضة توحي بلا بشريته، يمسك بكُرة حديدية صغيرة مفرغة، بما للكرة من رمزية عالمية وأنثوية أيضا، ليبدأ حركته متسلقا قضبان الأشكال الهندسية المائلة المتكومة، كما جني حارس كنز، في الوقت الذي تدب فيه الروح في حركة الجموع الذين يتحركون بحركات حيوية على الفرش الذهبي الملقى أرضا، بينما يزامن ذلك ظهور أشكال كالأجرام السماوية على شاشة في الخلفية، أشكال دائرية كحضور أنثوي وكوني معا، مع تصاعد الإيقاع الموسيقي كحالة من التيقظ ودبيب الروح، في مرحلة جديدة تقدم لمجيء زها، يدق الرجل المبهم بالكرة على الأشكال كمن يوقظها ويرقص الجموع رقصات ثنائية لكنها فاترة، كحالة ما زالت انتقالية من السبات، حتى يتغير كل شيء وتتحول الإضاءة التقليدية وإن كانت جميلة لإضاءة تحمل لمسة متمردة و أنثوية بلون بنفسجي فوسفوري زاه، وتدب الحياة بشكل بارز في الجميع، مع تسرب صوت عود شرقي، فينتشر الراقصون يحملون الأشكال المكومة ليرصوها مستقلة لتبدو أغلبها مائلة حرة، مفرغة قائمة بما تعطيه من انطباع خيالي سائب ووجود بين الكتلة والفراغ، يدخلون داخلها ويتسلقون قضبانها، ليعلتلي أحدهم واحدا ويصيح صيحة برية يرددها الجميع، كإعلان عودة لأصول حرة غير منتهكة، مع بؤر ضوئية بنفسجية زاهية تعطي تأثيرا حيويا، ليبدأ في الخلفية رسم خطوط انسيابية بلون فسفوري يتغير لآخر، لتحدد الألوان المضيئة أطر الكتل المفرغة كذلك، لنصبح أمام عالم فراغي من الخطوط الحرة المضيئة، كعالم جديد خفيف، شفاف سحري، مع صوت طبول حماسية تنتمي لحالة برية بكر، لندخل في تدرج جديد يخص عملية الصناعة ذاتها وما يميزها، فيبدو الراقصون في مظهر جديد كعمال المناجم، يرتدون الأقنعة الواقية من الغازات السامة، ونسمع أصوات دق حديد ولحامه أو برده وقطعه، أصوات عمليات متنوعة تتعلق بالحديد، ونبدأ في سماع مقاطع صوتية بالإنجليزية لزها حديد لبعض أقوالها، تعطي ظلالا لأفكارها، تظل معنا بقية العرض، فقد بدأت بالفعل الآن مرحلة"زها حديد" بعد مقدمة تدريجية لمجيئها وتأثيرها، تزامن ذلك رقصات حيوية من الجموع لا مجرد حركات راقصة فاترة كالبداية، لنرى بعدها عددا من الرجال داخل أطر الأشكال القائمة كمن حبسوا بحلول المرحلة الجديدة، في الوقت الذي نرى فيه أيضا رجل الحديد غير البشري، يرتدي تنورة مفرغة تتكون من حلقات حديدية دائرية متتالية، يدور كراقص صوفي، في ربط مباشر بين سمة هذه المرحلة والصوفية، كحالتين كونيتين تحليقيتين ترنوان إلى عالم أكثر حرية وتخل، بينما تظهر في الشاشة الخلفية أشكال تمثل روح تصميمات زها حديد، غير مجسدة، بحالة خلوية مجهرية، ويظهر الرجال مربوطون بأشرطة، في حين تدخل من الخلف امرأة بزي يبدو تراثيا بريا بهيئة ملكية تسير ببطء واثق في الخلفية، في رمزية لزها حديد، التي نشعر بحالة خاشعة مع دخولها وسيرها حتى تتقدم الجميع وتسير ثابتة في المقدمة، ليبدأ بذلك تقديم مرحلة تصور الصراع بينها كأنثى وبين الرجال، بعدة تعبيرات حركية، فيحبس الرجال داخل الأشكال مع دخول مجموعة من النساء بنفس هيئة المرأة السابقة، بما يعكس صراعا نوعيا يخرج خلاله الرجال مصطفين في صف وراء بعضهم في هيئة مستسلمة، لتبدأ حركة إحدى النساء وحدها داخل الأشكال بحركات راقصة حرة تمثل زها، لتتطور هيئات الراقصين كدلالة مرحلة أخرى العمل، بارتدائهم خوذات صفراء كمهندسي البناء، مع إشارة لعملية صب الخرسانة من خلال اسطوانة مخروطية، كترميز لمراحل متنوعة، ليعود الصراع مجددا، فنرى امرأة مكبلة ملفوفة بأشرطة تمثل محاولات العرقلة والاضطهاد التي واجهت زها للتخلص نها، لينعكس الأمر بعد قليل ويصبح الرجال ملفوفين تماما بأقمشة سوداء كما لو كانت أكفان، كدلالة مزدوجة؛ لتسليم الرجال من جهة، أو كخاتمة تمهد لرحيل زها، بعد رحلة مزجت بين شجنها وصلابتها، وبين دموعها والحديد، يصاحبها خفوت في الموسيقى يتحول لصمت، وكذلك في الحركة والإضاءة، مع تشكيل هادىء احتفائي ورثائي لصورة زها حديد في الخلفية، ضمن نهاية شاحبة خافتة كذبول بعد زهاء وحضور جامح.

     يصبح هذا التضاد بين ما سبق من حيوية وصراع ثم خفوت مرثية بذاتها، عبر فيها وليد عوني عن روح هذه الفنانة المعمارية بأسلوب يوازي نفس أسلوبها، حداثي تجريدي، ذو سياق سردي غير مألوف؛ خال من المحاكاة والشخيص وهادم للتقليد، صوفي مثل جوهر أعمالها، مع زئبقية سردية تنسف بعضه فجأة ليبنى بشكل جديد، فيه الأفكار والأشكال وما يكمن خلفها من رؤى، هي أدوات العرض الرئيسية، كحالة ثورية محتوى وأسلوبا، الأمر الذي يعد مهمة صعبة في مجرد التطرق لها، وهو ما أجيدت صياغته عموما وفي الكثير من الأجزاء خاصة مع إبداع في التشكيلات الحركية للمجسمات مع إضاءة تبرزها وتبرز حالة التجريد، لكن أيضا في ضوء الأفكار العميقة التجريدية وحالة ذهنية غير محاكية مقتصدة الدلالات؛ كان هناك بعض ثبات لنفس المحتوى الفكري والرمزي أو في تعبيرهما البصري لفترات طويلة، دون جديد حقيقي، الأمر الذي أضر نوعا بالإيقاع، وأحدث شيئا من الإرباك في التلقي، لكننا نظل في النهاية أمام عرض جاد مجدد نحتاج لمثله ويستحق التحية، خارج السياق المألوف للمشاهد سواء في منطقته من الرقص الحديث أو الطبيعة التجريبية، ذهب بنا بعيدا في نقلة طليعية لآفاق مستحدثة، صوفية التحليق، تمزج بين المادة والفراغ وأيضا بين الدموع والحديد.


روميو روميو روميو .. طقوس الغواية لذوات مرتعبة


   يضع فرويد في تحليله النفسي الإلهين الإغريقيين "إيروس" إله الرغبة والجنس و"ثاناتوس" إله الموت الهادىء ، كعلاقتين متضادتين، لكن قد ينطلق أحدهما من الآخر، فقد تعمل الرغبة انطلاقا من قلق الموت، هذه الفكرة كانت منطلق هذا العرض، بهيئة مهجنة تجمع بين الإنسان المعاصر ووضعيات الحيوان الغابي، يطل عليك الأبطال الأربعة لهذا العرض السويسري من إخراج وكريوجرافيا جوشوا مونتين، الذي قدم في مسرح الغد، ثلاثة رجال وفتاة تضع شاربا في دور رجولي، كرجل رابع افتراضي، لكنهم يتماثلون في الملابس التي لا تتغير فيها سوى بعض ألوان قمصانهم، وتبدو على كل منها ملامح لوجه حيوان ما، مع حركات راقصة بأوضاع تحاكي الحيوانات، أبرزها القردة، يتشابهون في أدائها معا وإن تفرقوا في أرجاء مختلفة ضمن نفس الحيز الضيق لمسرح غرفة، يتوجه كل منهم منفردا إلى مجموعة من الجمهور المحيط بهم من كل الجهات، وبنفس وضعياتهم الحيوانية الجماعية يبدأون حركات راقصة بشكل مرح كوميدي في تواصل حيوي مع الجمهور، بأداء مغازل للنساء خاصة، سواء بالنظرات أو بالكلمات والتعليقات المباشرة، بشكل يثير الضحك، مقصود تماما، حيث يتورط المشاهد في حالة ترويجية وتسويقية من الشخصيات لنفسها، عرض ينشد الطلب إزاء لهاث العرض بمعناهما التجاري، تتنوع الرقصات بنفس الطبيعة الجسدية المهجنة ، هيئة إنسانية مع أوضاع مشوهة حيوانية، ظهر مقوس، وركبتان مثنيتان وذراعان متدليان للأسفل من الأمام ، بأقدام حافية، بتنويعات ضمن نفس الإطار الجسدي المشوه إنسانيا، بأداء حيوي بارع التوافق حثيث السعي للاستمالة، يظل هذا الفعل وإن تنوع في إطاره الواحد كل ما يصدر عنهم لوقت طويل من العرض ، بتنويعات لا تتعدى الشكل في نفس مكانه إلى المحتوى الدرامي، ليصبح هذا الزمن الثابت مؤكدا على حالة ملحة هاجسية للاستمالة بذاتها تمثل مضمون العرض، تثير ضحكا ظاهريا ورثاء في مضمونها، خاصة مع حركات جادة الجهد لا تبدو شبقية ولكنها تحاول أن تبدو كذلك، ليبدو السؤال الملح .. ما الذي دفع هذه الكائنات البشرية لهذا السيرك؟


     نحن أمام حالة نسميها لدى الحيوان بطقوس التزاوج ، حيث تنشط في موسم ما رغبة التزاوج فيقوم الذكر بغواية الأنثى واستعراض جماليات جسده وقوته، الأمر الذي يتشابه مع طقوس الزواج أيضا عند الإنسان البدائي، من كان يحاكي الحيوان كمنبع أساسي لمفردات عالمه، الأمر يبدو صادما ومثيرا للضحك بشكل يتزايد مع التصرفات والتعليقات المفاجئة، حيث وجود الجمهور ركن أساسي هنا في هذا العرض الحداثي، الكاسر للجدار الرابع، يستخدمه كجمهور يطالع عرضا استعراضا تسويقيا، بأسلوب مسرح الشارع الكرنفالي التفاعلي الحي والودود بحيوية صاخبة، كل ذلك ضمن حالة حثيثة من التسليع وعرض الذات تسعى إليها الشخصيات لاهثة، ربما يتضاد مع ما آلت إيه الأمور مع الزمن حيث صارت الأنثى محور هذا التسليع والمتطوعة به مسمة كما لو كانت الفطرة، فمن ناحية يعيد هذا العرض الأوضاع لفطريتها كما في العالم البري الفطري من حيث التودد الذكوري، ومن جهة أخرى يبدو صادما بهذا التعاكس مع السائد الآن ، حيث يعرض الرجل نفسه، أو تسترجل امرأة لتعرض نفسها، أو من حيث الحالة التشويهية المحيونة، التي يحرص العرض على دمجها بالحالة الإنسانية إمعانا في التشويه المثير للألم، كتسمية الجميع " روميو" نسبة لشخصية "روميو" المعروفة، عاشق جولييت في مسرحية شكسبير الشهيرة "روميو وجولييت"، فروميو هو الرجل العاشق المتودد أسفل شرفة جولييت، التي يمثلها هنا الجمهور، مع ملابس غير إيحائية أو تشخيصية تنتمي لعالم حيواني مثلا، بل ملابس مجردة تعلن عصريتها، ليتصاعد الأمر ويزداد وضوحا بسماع تعليقات صوتية عن دواخلهم، وأوقاتهم البائسة المهدرة ، والأماكن التي يذهبون لها وما يستمعون إليه، وعن الحب والعلاقات المحبطة، ضمن مفردات تنتمي للعالم الحديث، نشعر ببؤسهم الداخلي دون أن تتغير طبيعة تصرفاتهم أمامنا، بل تتجدد رقصاتهم بهيئاتها البدائية الحيوانية، حتى تتصاعد في حالة تبدو احتفالية مرحة يتزايد معها إيقاع رقصهم الذي يملأون به أرجاء حيزهم، بلحن احتفالي مبهج.

   يتوقف كل ذلك فجأة ليبدو الأمر كصاعقة أصابتهم، فتنفرد ظهورهم بهيئة إنسانية ووقفة طبيعية، يعلنون الضجر، ندرك وقتها كم كان الأمر قناعا لبؤس عميق ووحدة هائلة، ربما تعكس بهذا المزج البدائي مع المفردات الحضارية المتناثرة في العرض، حالة من القلق الحضاري الذي تحدث عنه فرويد، وهذه المنطقة الصفرية من الخواء إثر حضارة لا تهب سعادة، كما لو كانوا يستعينون بهذه الحالة الترويجية، التي لا تخلو من براءة في حقيقتها، ضمن طقس استعراضي إيروسي يسعى للحصول على قبول لذواتهم المحبطة وإشباع نفسي لها، كفعل مقاوم من أجل الحياة في مقابل حالة الثاناتوس أو الموت الهادىء والخفوت الروحي، فهذا النداء الملح للغواية ما هو إلا جوع وجودي يائس ووحدة ناهشة، يتوقفون ضجرا كنوع من التمرد المتسامي والحنين للاتساق، لكن بيأس أشد ضجرا، فالنهاية رغم قطعيتها وفجائيتها وما تنبىء عنه أجسادهم المتخاذلة المنقادة للأسفل تنبىء باللا حل وباحتمالية استمرار الدائرة .. دائرة الوحدة والقلق الوجودي واستجداء الشعور بالذات وبالسعادة، في عرض جيد أداء وتفاعلا ، نجح في تحقيق تفاعل حيوي مع الجمهور ، بفكرة جيدة إجمالا، لكنها تبدو غير مكتملة دراميا ، خاصة في جانبها الداخلي المبرر للجانب الشكلي، حيث بدت الدوافع النفسية التي عبر عنها كلاميا في الأجزاء الأخيرة من العرض، سطحية التعبير ، غير كافية لتحريك الجانب الشكلي وما رأيناه على السطح ، الذي يمثل طبقة خارجية تعكس رد الفعل إزاء صراع تقدمه الطبقة الداخلية الحاملة للدوافع والكاشفة والمبررة لتصرفات الجانب الشكلي والطبقة الخارجية، التي لا تكتسب قيمتها مهما أبدعت إلا بثقل الطبقة التحتية الدافعة لها ، وهو الأمر الذي لم يكن متحققا بشكل جيد، كما لم تقدم الطبقة الشكلية تنوعا في الدلالات الدرامية المشيرة للنص التحتي ، بل بقي العرض على وتيرة في محتواه لا ينوع إلا من خلال حركات مختلفة ضمن نفس الحدث والإطار الدرامي، ربما ساهم هذا الإمعان في الحركة المهدرة في بناء الحالة التشويهية الاستنزافية، لكن الأمر يظل بحاجة للمزيد من الدلالات المشيرة لما وراء البنية الشكلية، كي لا تظل وحدها تمثل مفهوم وحالة العرض كما وصل للكثيرين، والأمر الذي إن حدث لأعطى مزيدا من الثقل للعرض ووضعه في مكانة مختلفة، خاصة مع الجهد الحركي الفائق للممثلين وحيويتهم المثرية لحالة العرض.


مقال تم نشره بمجلة "المسرح" المصرية 


  • 1

   نشر في 20 يناير 2020 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا