إن كانت قيمة الفرد بما يحويه عقله من أفكار ، فإن الحياة بأسرها تقوم على فكرة ، فإن ذبلت تلك الفكرة فى أذهان الأحياء ، صاروا أشباحاً ، مجوفين من الداخل ، ضلوا فى قفار أنفسهم ، وقد ضاع زادهم ، وأصبح مصيرهم مجهولاً .
فبموت الفكرة ، تضيع المركزية ، وتصبح الدوائر فارغة المحتوى والمضمون ، وتصير الحياة كما وصفها القرآن :
( وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) ؛ مما يشعر الإنسان بحالة من الضياع لن تشفيه الشهوات وإن غرق فيها ، ولن تنقذه الملذات وإن اتخذ إليها كل سبيل ، لأن روحه تسقط حبيسة فى غياهب الظلام مقيدة بقيود غليظة من المادة ، لا تستطيع الإفلات منها للنور ، فتذبل ثم تموت ، فيموت صاحبها وإن كان على قيد الحياة ، وربما يلجأ فى النهاية لإنهاء حياته وسط هذه الأجواء المعتمة .
وقد كانت الفكرة واضحة منذ البداية ، ولم يتركنا الله لأهوائنا ، حيث قال فى كتابه العزيز { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية} ، وفكرة الحق على النقيض من فكرة العبث التى ينتهجها أولئك الذين ظلموا أنفسهم ، وأقروها متوهمين أن الله خلق الخلق ثم تركهم ، وكأنه-حاشاه- يتسلى ، وأن الحياة بلا ضوابط وأنه لا رجوع ، وأن الحياة مفتوحة على مصراعيها لمن أراد أن يعبث أو يفسد دونما عقاب فى حياة أخرى .
وفكرة الحق تتضمن العدل ، فلا جور ولا ظلم للعباد فقد أوضح سبحانه وتعالى لهم المنهج وتواصل معهم عن طريق رسله ، وتقتضى الحساب على الأعمال التى يقترفها البشر ، وتشير إلى
البعث من الأجساد للوقوف بين يدى الله ، فلا مجال للعبث ، وقد أشارت الآيات فى مواضع أخرى لنفس المسألة ، فنجد قول الله تعالى { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } ، وقوله تعالى { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } .
ولما كانت لكل فكرة متعلقات ، فقد تطرقت الآيات لما يتعلق بهذه الفكرة فى قوله تعالى { وإلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب} ، فالإقرار بوحدانية الخالق ، وأنه تعالى وحده الذى يستحق العبادة ، وعمارة الأرض عن طريق إستغلال الثروات المودعة فيها وسبل الرزق التى وضعها الله لعباده حتى تستقيم حياتهم ، وتجنب الإفساد فيها ، وإرساء قواعد العدل وتجنب الظلم والجور فى الأرض التى خلقنا منها ، وإليها مآلنا ، والحرص على الإتصال بالخالق فهو الملاذ والملجأ -لهى لوازم للفكرة التى قامت عليها هذه الحياة .
وحيث أن فكرة الحق على النقيض من العبثية ، فقد اقتضت أيضا التكليف ، والإختبار والإبتلاء ، والثواب والعقاب ، ولنتأمل بعض الآيات التى تطرقت لهذه المسائل :
- { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }
- { ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين }
وإذا كان هناك ألما فى التكليف ، وكانت الحياة مليئة بالآلام والشرور ، فهذا لجزيل الثواب فى الآخرة ، ولتعلم أنه مهما بلغت تلك الآلام فإنها لن تساوى من نعيم الآخرة شيئاً ، على أن مصدر هذه الآلام هى البشر أنفسهم كونهم يمتلكون الإختيار ، فهى غير منسوبة لله ، وكونه سمح بها ، فهذا ليختبر الخبيث من الطيب ، ويفصل بين من يستحق الثواب ومن يستحق العقاب فى الآخرة .
ولو أن الله تدخل لينهى تلك الآلام أو الشرور ، فما فائدة الإختبار ، وما الحكمة من السنن الكونية التى وضعها فى خلقه ، ونقض هذه السنن يخلق نوعاً من العبث ، وكل الإعتراضات وتوجيه اللوم ضد الاله فهى مردودة على أصحابها ، فالتكليف والعبادة جعلهما الله لمصلحة البشر ، وهو غنى عنها ، فالروح لن تصفى إلا بالإتصال بخالقها ، ولن تهنأ إلا بالقرب منه ، وهو القائل { ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } .
والله جل فى علاه يعلم ما يشفى الروح ، وما يكون سبباً فى علتها ، فالتواصل معه رحمة وشفاء لما فى الصدور ، ويعلم ما تضمر النفوس حيث يقول { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } .