تداعيات في زمن الكورونا - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

تداعيات في زمن الكورونا

ورقات من كتاب العمر

  نشر في 30 مارس 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

أتساءل وأنا سجين المحبسين، محبس الغربة ومحبس الكورونا، ما الذي لم أره في حياتي التي انطلقت قبل ستة عقود أو يكاد؟

كنت دائما أحدّث نفسي بأنّني لم أعش أيّام الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، ولا أيّام الاستعمار الفرنسي وصولات الجندرمة في سوق القرية، ولا سنوات الجوع والقمل والتيفوس والكوليرا والجراد.

ولكنّ أوّل لحظة تاريخية رجّت وجداني كانت حرب 1967 وما نتج عنها من هزيمة. ثم فياضانات 1969 التي تزامنت مع صعود ذلك العسكري الشاب العروبي إلى سدّة الحكم في ليبيا ومع إنهاء تجربة التعاضد في تونس وتقديم أحمد بن صالح كبش فداء لها.. عشت كل تلك الأحداث في العشر سنوات الأولى من عمري بكامل الوعي حتى أنّ علاماتها موشومة في الذاكرة لا تمّحي. الشيوخ المتجمّعون تحت جدار منزل في حي العمّال يتابعون الأخبار عبر مذياع صادح في بطحاء الحي "هنا لندن"، "صوت العرب من القاهرة" وأحمد الخليفي ومحمّد الأخضر السائحي في إذاعة الجزائر الاشتراكية التي تخصّص ساعة مسائية من السادسة إلى السابعة لصوت العاصفة (صوت منظمة التحرير الفلسطينية) الذي كان يحفّز الهمم ويسعى إلى ترميم شروخ الهزيمة التي سكنت الوجدان العربي. وحكايات العروي وبلاغاته المحلية بالدارجة، التي تتخلّلها أغاني نعمة وعلية (قالوا زيني عامل حالة، إمّالا لا؟) وعلي الرياحي. لم نكن نأكل جيدا في ذلك الزمن ولم يكن لنا لا كهرباء ولا ماء في البيوت. كان الشتاء يصيبني بالرّعب ويبدو لي دهرا لا ينتهي. ولكنّ شهر رمضان كان يحنو علينا ويلفّنا بدفء التآلف والحب والسمر اللذيذ... كانت التلفزة اكتشافا مذهلا ومن خلاله تابعنا الإنسان يضع قدمه على سطح القمر وتابعنا أيضا اجتياز محمد القمودي لخط الوصول في مكسيكو وطوكيو واستيقظنا فجرا لمشاهدة محمد علي كلاي يرقص على الخشبة ليروّض خصوما أقرب ما يكونون إلى الوحوش... لم نكن كأطفال نكره فرنسا رغم كلّ ما كانت ترويه لنا أمهاتنا عن فضاعات الجندرمة... كنّا مبهورين بما تركه الفرنسيون من فلل وحدائق وإدارات وملاعب وقاعات سينما وسكة حديد تشق بطون الجبال الصخرية .. كنّا كذلك نحب تحرّرهم الواصل إلينا عبر صفحات مجلاّت تباع في سوق القرية. وفجأة مات جمال عبد النّاصر، وفيما خيّم الحزن على الكبار الذين كنّا نراهم واجمين لم نكن نحن الصغار نفهم سبب كلّ ذلك الحزن... كان بالنسبة لي أنا الطفل رمز الهزيمة. وكان خلفه ذلك الشاب الليبي الأرعن يثير اشمئزازنا من فرط حماسته وشكل قبّعته العسكرية غير اللائقة على شعره المحلوق وفمه العريض الضاحك في بلاهة. ربّما كان بورقيبة وراء عدم حماسنا الكبير لعبد الناصر. ولكن من كانوا أكبر منّا كانوا يعرفون أشياء أخرى عن صراع بورقيبة مع عبد الناصر وممثّله في تونس صالح بن يوسف. كنت أسمع كلاما طائشا عن صالح بن يوسف لم يكن يفيد في إلحاق أي خدش بصورة المجاهد الأكبر الذي ارتقى إلى منزلة مقدّسة...

كانت تلك أيام الدراسة الابتدائية وحملات التلقيح ومقاومة القمل وتوزيع الحليب الأمريكي الساخن صباحا وبعض الملابس والأدوات المدرسية على جميع التلاميذ، نعم جميع التلاميذ.

ثم جاءت حرب أكتوبر واجتاز العرب خط برليف فعادت إلينا النخوة وتمّ رتق المعنويات كما ترتق البكارة. صار لأغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وفائزة أحمد مذاق الفرح والرومنسية الحالمة... وصال بليغ حمدي وجال كما يحلو له فكان كالخزّاف يعجن مهجة العرب بماء موسيقى لا يعرف سرّها إلاّ هو، حتى صار الحب قدرا حتميا على كل شاب ومراهق وتحوّل إلى رياضة وطنية في كل الدول العربية.

لم تدم الفرحة كثيرا لأنّ السادات قطعها بمصافحة بيغن في الكنيست الإسرائيلي بالذات. ولأنّ أم كلثوم وعبد الحليم وفريد وفائزة أحمد غادرونا... وفي تونس، فاجأنا 26 جانفي 1978 وسمعت صوت الرصاص يلعلع لأوّل مرّة، رأيت النار تلتهم معهدي في مدينة قفصة. لم أصدّق أنّ بورقيبة يمكنه أن يطلق الرصاص على أبنائه. كانت صدمة القطيعة مع بورقيبة الذي تحوّل من ملاك إلى شيطان. وفي ماعدا فاصلة قصيرة ألهبت حماس التونسيين بمشاركة المنتخب الوطني في كأس العالم بالأرجنتين في صيف 1978، كان يسيطر عليّ الإحساس بأنّ أجمل سنوات العمر (عمري) قد انتهت خصوصا وقد تسارعت وتيرة الحياة وحوّلت الطفولة إلى ذكرى لا أكثر...

عملية قفصة في 26 جانفي 1980، ثم انتفاضة الخبز في 3 جانفي 1084 وبورقيبة يقتل بالرصاص أبناءه من جديد، وما بينهما سنوات الدراسة الجامعية. بماذا خرجت من الجامعة؟ بصداقات حقيقية وبكثير من الزيف. أجمل ما في الجامعة أنّها تجمع أبناء البلد الواحد من الجهات كلّها. هي فضاء نتخلّص فيه من جهوياتنا وعروشياتنا المقيتة ونكتشف الآخر فيتوسع أفقنا... وهي مدرسة حياة في الاعتماد على الذات بعيدا عن حضن الأسرة. للأسف لم تعد تلعب هذا الدّور. ما عدا ذلك، أشياء تكاد لا تذكر... تلا ذلك سنوات من المد الإسلامي، كانت أبرز علاماته تفجير نزل بسوسة وإعدام لمحرز بودقة وإحراق لمقر شعبة الحزب في باب سويقة وموت الحارس الليلي موثوقا بحبالهم حتى التهمته النيران ورش إمام بالكرم بماء الفرق ورشق الفتيات المرتديات للدجينز بآلات حادّة على مؤخراتهن. انتهى الأمر بانقضاض بن علي على السلطة ذات ليلة من شهر نوفمبر 1987 مستبقا الإسلاميين الذين كانوا على وشك الإجهاز على حكم بورقيبة الذي نخرته الدسائس والتجاذبات الخسيسة.

وفيما عبر كثيرون عن موقف واضح من صعود بن علي، باعتباره انقلابا، راح كثيرون من اليمين واليسار يلتحقون أفواجا أفواجا بنظامه... وما هي إلاّ سنتان حتى كشف بن على حقيقة حكمه. ودخلت البلاد في فترة حكم قمعي حقق بعض الرخاء ولكنّه اتّسم بتراجعات فكرية وتضييق على الحرية والإبداع وتجهيل وتخريب لمنظومة التربية والتعليم. وها نحن نعيش مخلّفاتها اليوم.

كيف نسيت غزو بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا إثر تهجير المقاتلين الفلسطينيين وقيادتهم السياسية من بيروت إلى تونس؟؟ كيف نسيت صور الجثث المكدّسة في أزقة المخيمات حتى انتفخت من التعفن؟ وجوه مشوهة وبطون مبقورة ودماء في كل مكان... كيف استطاع الضمير الإنساني تناسي ما حصل وعدم محاكمة القتلة؟ سيظلّ ذلك شرخا عميقا في كياني يجعلني لا أثق في أيّ نظام سياسي أو منظومة حقوقية وطنية كانت أم دولية ما لم تتمّ محاكمة منفّذي تلك المجزرة... أذكر مظاهراتنا في شوارع تونس العاصمة ضدّ تلك البشاعة الرهيبة وكيف كان ذلك الفتى الغرّ الأهوج التّأتاء الذي سيصير بعد سنوات الأمين العام للاتحاد العام لطلبة تونس وبعد ذلك وزيرا غوغائيا ولاعق أحذية لدى بن علي، قلت كيف كان ذلك الأهوج يركب الأحداث ويعطي إشارة انطلاق المظاهرات مستبقا الأطراف السياسية الداعية إليها... كنت أشتمّ في حركاته تلك رائحة الانتهازية والركوب على جهد الآخرين.

طلع علينا محمود درويش بقصيدته "حصار لمدائح البحر" فكانت كحبل نجاة يمدّه إلى غريق في قاع بئر مظلمة، كانت كلمات تلك القصيدة وبصوت درويش الرّائع بصيص الضوء الوحيد الذي يلوح لنا لمّا نرفع رؤوسنا ونحن في قاع البئر الخانقة...

"حاصِـــــــــــرْ حصارَك َ ..... لا مفـر ُّ

سقطت ذراعُك فالتقِطْها

واضــرب عدوكَ .. لا مفر ُّ

وسقطتُ قربك ، فالتقِطْني

واضرب عدوكَ بِي .. فأنت الآن حُــر ُّ

حــــر ٌّ ...... وحــــر ُّ

قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة ٌ

فاضرب بها . اضرب عدوك .. لا مفرُّ

أشـــلاؤنا أسماؤنا

حاصـر حصـارك بالجنون ِ .... وبالجنون ِ ..... وبالجنون ْ

ذهب الذين تحبهم ذهبوا

فإما أن تكون أو لا تكون ،

ســــقط القناع عن القناع عن القناع ،

ســـقط القنـاع

ولا أحد ْ

إلاك في هذا المدى المفتوح للنسيان والأعداء،

فاجعل كل ّ متراس ٍ بلد

لا ......... لا أحـــد ْ"

أدمنت محمود درويش منذ ذلك الوقت...

تشرّدنا أيّام انتفاضة الخبز في جانفي 1984 بعد إغلاق الأحياء الجامعية واضطررنا إلى جمع أعقاب السجائر لتدخينها والأكل من فضلات موظفي البنوك في مطعم مونوبري بالطابق الأوّل بنهج شارل ديغول...

وعندما لا نجد ما نأكل كنا نكتفي بكلمات الصغير أولاد أحمد

"يا ابن خَلدون

المدينةُ أضيقُ من خطاكْ

ولَكَمْ مَرَرْتُ بِبُرْنُسِكَ الحديدْ… فساءني زمني

فاخْرُجْ من الوثن الجَديدْ

واكتُبْ إلى الوثَنِ المُقابِلِ ما يليقُ بحَجْمِهِ

قُلْ ما تُريدْ: هذا حصانك واقف والكفُّ من زمنٍ تُرحِّبُ

بالغريبْ

قُلْ ما تريدْ

فلنا المدى

وله الصديدْ"

بعد الانتفاضة بشهرين حصلت على وظيفة مكتبي مساعد بالمعهد العالي للموسيقى في شارع باريس. يا اللّه، الخير كيف يدز يغرّق مولاه... وظيفة ومنحة جامعية وفي مؤسّسة أكاديمية فنية وفي شارع باريس بجانب دار الثقافة بن رشيق واتحاد الكتاب ولونيفار والروتوندة وشي ليناقر والمسرح الوطني (قاعة الفن الرابع حاليا) وقاعات السينما والمركز الثقافي الفرنسي... اللهم أنعمت فزد... صرت أحتكّ بوجوه فنية وثقافية بارزة محمد العروسي المطوي، رضوان الكوني، محمد سعادة، محمّد التريكي، محي الدين خريف، عبد المجيد الساحلي، أحمد القلعي، صالح المهدي، حمادي اللغبابي، خميس الحنافي، إلخ. وفي المكتبة كنت أفرز الكتب فأقرأ عن فاغنار وباخ وكلود ديبوسي وموزار وفيفالدي وبيتهوفن وشوبان والصادق الرزقي وأحمد الوافي وخميس ترنان والبارون ديرلونجي، وتأسيس الرشيدية والمؤتمر الأوّل للموسيقى العربية سنة 1932، وأقرأ عن القوالب الموسيقية والفرق بين الموسيقى الشرقية المقامية والموسيقى الغربية المودالية، وأسمع نقاشات الطلاّب وأحضر تمارينهم...

كنت في صبيحة ذلك اليوم من خريف 1985 أنشر الغسيل على الحبل في باحة الأستوديو بحي الحبيب من ضاحية الزهراء لمّا سمعت دويا اهتزّ له بلّور النوافذ. خمّنت أنّه الديناميت في مقطع الحجارة بجبل بوقرنين. ولمّا فرغت من نشر الغسيل اتجهت إلى محطة القطار قاصدا عملي بالمعهد العالي للموسيقى... وجدت الناس واجمين فزعين وعلمت أنّ إسرائيل قصفت مقر القيادة الفلسطينية في ضاحية حمام الشط... وفيما عدا صور عرفات وهو واقف يعاين ركام الحجارة، احتفظت ذاكرتي بخطاب لمحمد مزالي ينضح هزيمة واستسلاما قال فيه نحن لا نملك سوى ثلاث أو أربع طائرات أف 5، الحمد لله أنّها لم تطلع لمطاردة قاذفات الأف 16 التي هاجمتنا وإلاّ كنّا ترزينا فيهم.... هكذا يخاطب المسؤول السياسي الأبرز شعبه في لحظة العدوان.

كان مقهى الروتوندة يجمعنا كلّ مساء، سياسة على إيديولوجيا على نقابة على فن على أدب... كان كمال بوعجيلة ينشدنا بصوته السماوي الساحر

"من عزلة الرّوح التي انتصرت قليلاً

ثمّ عادت لارتكاب براءة أخرى

إلى حكمة الجسد المورّط في المسافات الطويلة

حاربتُ في جيشٍ يريد هزيمةً

ليؤنّث الشهداء

مقبرةً جديدهْ

ويؤسّس الأمراء مأدبةً

لتجّار إذا وعدوا وفواْ

ويحمل الشّعراء

نعشا للقصيدة

حاربتُ في جيش من الأعداء

لم أكن أدري

أنّني المطلوب في كلّ الحروب

أنا الذي خدع الجرائد والشوارع

ليكون لي وطن

فخانتني حدودُ القلب

واللّغة اليتيمة" (مقتطف من احتياطي الروح لكمال بوعجيلة)

أبريل 1988، صباح ربيعي مشرق، كنت متّجها من تونس إلى مقرّ عملي بالمكتبة العمومية بالمرسى على متن ميترو الضاحية، لأفاجا في محطّة سيدي بوسعيد بأعداد كبيرة من البوليس المدجّج بالأسلحة وأجهزة الاتصال عن بعد. ومن نافذة الميترو رأيتهم يسدون الطريق إلى منزل أبي جهاد الرجل الثاني في منظمة التحرير وقائد انتفاضة الحجارة. كان الكومندوس الذي نفّذ عملية الاغتيال البارحة قد غادر تونس على متن زوارق مطّاطية انطلقت من شاطئ روّاد...

بعد شهر أو يزيد، انعقد المؤتمر 18 الخارق للعادة للاتحاد العام لطلبة تونس. وبصرف النظر عمّا أشيع من أنّ المؤتمر كان يدار من غرفة في فندق الهيلتون المجاور لكلية الحقوق مكان انعقاد المؤتمر، غرفة كان فيها منصر الرويسي وعبد الرحمان التليلي، بقطع النظر عن ذلك، فالثابت أنّ سمير العبيدي نجح في استمالة المؤتمرين بمسرحية الإغماءة ونقله فورا إلى مصحة التوفيق، ففاز بالأمانة العامّة. بيّنت الأيّام أنّ استدراج الطلبة إلى العمل القانوني أفقد الأوجات نضاليته وأصابه بالعقم فلم يعد مدرسة للنضال وصنع القيادات النوعية...

كانت السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة بما صاحبها من توجّس وإحساس بالعجز وخوف من المجهول، والسنوات الأولى لحكم بن علي وما صاحبها من أمل زائف أغرى الكثيرين وأعاد خلط الأوراق ما سمح لبن علي أن يجثم على صدورنا ويكتم أنفاسنا، كانت هذه الظروف الداخلية سببا في انطواء أغلب أبناء جيلي على همّهم الدّاخلي وعدم اكتراثهم بما يحصل حولهم في العالم من كوارث وحروب أهلية ودولية وأوبئة، إلاّ فيما اتّصل بالقضية الفلسطينية التي كان جزء كبير من مجرياتها يتم على أرض تونس بين حمام الشط والمنزه التاسع حيث اغتيل أبو إياد ولكن هذه المرّة في إطار صراع شقوق داخلية على ما يبدو وهي واقعة أخرى عالجها نظام بن علي بتكتّم كبير...

وفيما كنّا خلال تلك العشرية منغمسين في همومنا الداخلية، كان العالم يغلي: اغتيال أنور السادات، حرب إيرانية عراقية تحصد آلاف الأرواح من بينهم تونسيون تطوّعوا أو جنّدهم صدّام حسين، فيروس السيدا يكتسح العالم وينشر الموت في كل مكان ونحن نقول أنّنا غير معنيين به، استمرار الحرب الطائفية في لبنان، انفجار المفاعل النووي تشرنوبيل، إطلاق غورباتشوف لسياسة الغلاسنوست والبيروسترويكا اللتين مهّدتا الطريق لتفكّك الاتحاد السوفياتي، مجاعة كاسحة في أثيوبيا أودت بالإنسان والحيوان، مجازر بشعة في روندا بين التوتسي والهوتو، انتفاضة في الجزائر عقبتها انتخابات فاز بها الإسلاميون وأوقفها العسكر، سقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيتين... كنّأ في تونس مقطوعين عن العالم، عكس ما كنّا عليه في الستينات والسبعينات. فقد أحكم النظام قبضته علينا وأغرقنا في الهم المحلّي...

حتّى أفقنا ذات فجر من أغسطس 1990 على صدّام حسين يغزو الكويت ويضمّها مهددا بدكّ تل أبيب بالصواريخ المجهزة برؤوس كيمياوية... هجر الناس التلفزيون الوطني وولّوا وجوههم نحو فضائيات أبرزها CNN. لم نبلغ الشتاء إلاّ وقد خرج الموضوع من بيت العرب وصار بيد أمريكا التي هبّت إلى نصرة آل الصباح على رأس تحالف من 26 دولة... شاهد كلّ العرب عبر الفضائيات القذّافي يخاطب الشاذلي القليبي الأمين العام للجامعة العربية آنذاك بصفاقة ثورية واضعا ساقيه على الطاولة، وشاهدوا أيضا حسني مبارك رئيس القمّة الاستثنائية يخاطبه ب "يا روح أمّك"... استدعت تلك المشاهد من داخل كواليس القمّة في وعينا ما وصف به مظفّر نواب الحكّام العرب في قصيدته القدس عروس عروبتكم. أسقطت قناة الجزيرة ورقة التوت وألهبت عواطف الجماهير العاطفية أصلا... كان هناك من صدّق أكذوبة أنّ العراق يملك رابع أقوى جيش في العالم... وكانت جريدة الشروق تنشر رسوما وخرائط عن تحصينات صدام وعن خطّ دفاعي أوّل وثان فثالث تتشكّل من خنادق وحقول ألغام وراجمات صواريخ... كنت في شبه ذهول من حماس زعماء يساريين يفترض فيهم القدرة على قراءة الواقع بموضوعية... لمّا انفجرت الحرب تركنا خلافاتنا جانبا، وتجنّدنا تحت راية الاتحاد العام التونسي للشغل، لجمع التبرّعات وإرسال الأدوية والمتطوّعين إلى الجبهة. كنّا نبيت الليالي في مقر الاتحاد. نفعل ذلك لتبرئة الذمّة والهرب من عذاب الضمير ولمقاومة الإحساس بالهزيمة، نفعله فقط حتى لا تنطفأ جذوة الروح فنستحيل إلى رماد... كان يجب أن نحافظ على تلك الجذوة حية لأنّنا سنحتاجها في المستقبل، ولأنّنا كنّا ندرك أنّنا لا شيء بدونها.

نزل الستار سريعا على الحرب وعدنا إلى شؤون البيت المحلّي نشغل وقتنا بترصّد نتائج انتخابات النقابات الأساسية في مستشفى أو معهد بمدينة قصية أو اتحاد جهوي أو نقابة عامّة... تحوّل الأمر إلى هوس لدى البعض، تجدهم طول الوقت يحسبون عدد المقاعد المربوحة والمخسورة في هذا الموقع أو ذاك، بل ويمتد عندهم الهوس إلى انتخابات الطلبة في المجالس العلمية... تحوّل المرور ببطحاء محمّد علي إلى واجب يومي لاستقاء الأخبار وتسجيل الحضور. وبعد ذلك، لك أن تذهب إلى لونيفار أو الروتوندة وتسكر ما شئت. كانت علاقاتي التي نسجتها في دوائر المعهد العالي للموسيقى واتحاد الكتّاب ونادي السينما بدار الثقافة ابن رشيق تشدّني أكثر من الوسط النقابي الذي وإن كنت قد عرفت فيه مناضلين اشاوس من قطاع البريد والسكك الحديدية والصحّة والتبغ والوقيد والتعليم، إلاّ أنّه كان يبدو لي وسطا هجينا فيه كثير من القطيع والانتهازيين واللصوص، وبعدما جرّبت الوقفة في البطحاء مرّات قليلة وجدتها طاحونة للفراغ، فهربت إلى عالمي الدافئ حيث جنون الشاماكو ورومنسية كمال بوعجيلة وطرب شفيق الحكيمي وصعلكات محمّد عبد اللاوي.

رأى بن علي من الأصلح جمع صعاليك الثقافة في عنابر مغلقة تقدّم لهم الكحول بأسعار مناسبة وتبعدهم عن المقاهي العامّة حيث كانوا يبثّون أفكارهم الهدّامة، ففتح دارا للصحفيين وأخرى للكتّاب، كل منهما عبارة عن شقة من ثلاث أو أربع غرف تفتح على بعضها يتكدّس فيها الروّاد كمجانين البيمارستان...

كانت الجزائر تعيش في أتون الحرب الأهلية التي ألهبتها الجماعات الإسلامية المسلّحة والمخابرات الجزائرية... وكان مثقفوها يذبحون ويغتالون بالرصاص، الطاهر جاووت، بختي بن عودة، وغيرهما كثير... لجأ بعضهم إلى تونس وعرفت عن طريق كمال بوعجيلة عمّار مرياش والحبيب السائح وأمين الزاوي، إلخ.

سنة 1994 وكنت قد تجاوزت الثلاثين بسنتين دون أن أتبيّن في الأفق مشروع حياة اجتماعية تناسب سني الذي بدأ يهرب منّي، فلا بيت ولا مشروع زواج، بل وسنتان من التشرّد والإقامة مراوحة بين منزل رفيقي رفيق الغضاب ومقر عملي في المكتبة العمومية بالمرسى، أتيحت لي فرصة الدراسة بالمرحلة الثالثة في فرنسا... لم أتردّد ثانية واحدة في الهروب من مستنقع تونس...

ليلتي الأولـــى بفرنسا

حطّت بنا الطائرة في مطار ساتولاس (سانت إكزوبيري اليوم) في ضواحي ليون الفرنسية مع الساعة الخامسة مساء من يوم 16 أكتوبر 1994. لم أكن قد سعيت إلى الاتصال بأحد من المهاجرين لمساعدتي في أيامي الأولى بفرنسا. أردت أن لا أحرم نفسي من إثارة اكتشاف البلاد والعباد بنفسي. ختمت الجواز لدى شرطي الحدود وغادرت بهو المطار... أشعلت سيجارة رحت أنفث دخانها في الهواء النديّ وأنا أجيل بصري بتأنّ من أقصى اليمين إى أقصى اليسار مثل حركة الترافلينغ بالكاميرا. سهل شاسع تنزلق فيه السيارات نظيفة لمّاعة دون ضجيج على شبكة متداخلة من الطرق الإسفلتية السوداء تحلّيها خطوط بيضاء وتحفّها تشكيلات من أشجار داكنة الخضرة ومشذّبة بعناية، وتعلوها أضواء المرور ولافتات الإرشاد. في عمق المشهد تلوح الجبال الخضراء سابحة في ضباب خفيف. كانت الألوان كأنّما قد خضعت لفلتر سينمائي يجعلها أقلّ سطوعا ممّا تعوّدته في تونس ولكنّها أكثر رومنسية وحنوّا... لم أنه سيجارتي إلاّ وقد تبيّنت محطّة الحافلات. دفنت عقب السيجارة في رمل مطفأة للعموم، مخاطبا نفسي من هنا يبدأ التحضّر يا هذا... ما بك متردّد هكذا يا فتى؟ ممّ أنت خائف؟ ها هي فرنسا أمامك فاتحة ذراعيها، يلاّ أرنا ما أنت فاعل..

استغرقت الرحلة نصف ساعة أو يزيد، قضيتها مسندا وجهي إلى بلّور النافذة أقرأ كل ما يمرّ أمامي، نظافة الأرصفة، عظمة الجسور والأنفاق، عراقة المباني، زبائن المطاعم والمقاهي، لافتات الدعاية، ألخ. كانت المشاهد تتوالى سريعة وغائمة من وراء البلّور المعتّم بأنفاسي. وكانت المقارنات بين هنا وهناك تشوّش عليّ استكشافي واستمتاعي... كلّما أغرتني محطّة بالنزول، قلت لأستمر حتى نقطة النهاية، طالما لا فرق عندي بين محطة وأخرى. فهمت من حركة ما تبقى من المسافرين أنّنا وصلنا إلى آخر نقطة وكانت محطّة ترابط القطارات والميترو والحافلات ليون بيرّاش. سألت عامل تنظيف إفريقي بالمحطّة عن أقرب مضيف للشباب فنصحني بامتطاء الميترو باتجاه لورون بونفاي. قال لي انزل في آخر محطّات الخط... غمزته شاكرا وأنا أتصنّع دور السائح الأوروبي في بلادنا لأداري بعض الوساوس التي داخلتني من بعض الزوايا والمنعطفات الموحشة في المحطّة: وجوه زرق يبدو عليها إدمان المخدّرات، ومخنّثون، وفتوّات بسواعد يغطيها الوشم ربطوا على رؤوسهم مناديل.

كان الميترو جميلا يشرح الصّدر بعرباته برتقالية اللون. لمّا وصلت لورون بونفاي كان اللّيل قد خيّم على فرنسا. وكانت المحطّة في الخلاء تقريبا... سرت خلف مجموعة من المسافرين المترجّلين، حتى أدركت دكّانا عزمت أن أقتني منه شيئا آكله. كان هناك شاب عربي الملامح يقف خلفي... لمّا غادرت الدكّان وأنا لا أعرف أين أتّجه لحق بي ذلك الشاب على متن دراجة هوائية وأخذ يسير حذوي مسايرا خطوي. ألقى التحية دون أن ينظر إليّ واسترسل

"Cousin il est clair que tu n’es pas du coin. Fais gaffe, fallait pas sortir toute ta tune pour un simple sandwich comme tu l’as fait chez le Djerbien du coin. Où est-ce que tu vas?

(يا ابن العمّ، من الواضح أنّك غريب عن هذه المنطقة. كن حذرا، ما كان عليك أن تظهر كلّ نقودك من أجل شراء مجرّد سندويتش مثلما فعلت قبل قليل في دكّان الجربي. إلى أين تذهب؟)

أحسست كما لو أنّه أعطاني عهدا بالأمان لمّا خاطبني بكوزان (ابن العم). سحبت سيجارة واقترحت عليه واحدة فقبلها شاكرا. بعدما شرحت له من أكون، قرّر أن يرافقني إلى غاية المضيف، قال أنّه بعيد شيئا ما. أخبرني في الأثناء أنّه جزائري من الجيل الثاني يعمل ممرّضا في مصحّة، وأنّه يخرج يوميا في ذلك الوقت ليمارس رياضة الدراجة إثر عودته من العمل. قال لي أنّ الحياة في الأحياء صعبة ولكنّ المغاربة متضامنون...

قدّمت بطاقة المضائف الشبابية الدّولية التي نصحني أصدقائي في تونس باستخرجها قبل السفر، وتسلّمت سريرا في غرفة تسع أربعة أشخاص. اخترت أن أنام في الطابق الأعلى من السرير المزدوج حتى لا أزعج ذلك الشاب الإفريقي الذي كان ينام في الطابق السفلي من السرير المزدوج الثاني. كان يبدو مجهدا من السفر حتى نام بملابسه متكوّرا حول جرابته. ولكن، ما إن أخذت أصعد إلى فوق حتى فتح الشاب الإفريقي عينيه وحيّاني.

Je suis camerounais et je travaille conteur pour enfants, et vous ?

(أنا كامروني وأعمل حكواتي أطفال، وأنت؟)...

Je suis tunisien et je suis arrivé aujourd’hui cet après-midi pour poursuivre mes études de troisième cycle en France

(أنا من تونس، وصلت عشية هذا اليوم. جئت إلى فرنسا لمواصلة دراستي بالمرحلة الثالثة)

تمنّيت لو كان بإمكاني أن أحدّثه بطريقة ذلك الفتى الجزائري الذي رافقني إلى المضيف. فقد كنت أجهد نفسي في العثور على المفردات وترتيبها وفق قواعد النحو والصّرف، فتأتي فرنسيتي متخشّبة كجمل الكتب المدرسية، ينقصها النبض والعفوية.

طرق الباب ودخل شاب ترافقه فتاة ألقيا علينا التحية بالإنجليزية. قلت في نفسي "ختمت يا بن عروس، ما سلّكنهاش بالفرنسية زادت جتنا الإنجليزية" (ما كان ينقصني إلاّ هذا، كنت أعاني من الفرنسية فانضافت إليها الإنجليزية)... تخلّصا من جرابتيهما وهما لا يكفّان عن الابتسام لنا، وقدّما نفسيهما. متسلّقان جاءا من إيرلندا في مغامرة لصعود قمّة المون بلان وهو أعلى جبل في سلسلة جبال الألب الأوروبية ويقع قريبا من ليون.

مرّة أخرى تدهشني عفوية الناس هنا وانفتاحهم. لا يضيعون وقتا في التردّد والحسابات. يذهبون إلى الآخر، وعلى ضوء ردّة فعله يتصرّفون. يقرؤون حسن النية في الجميع، لا أحكام مسبقة لديهم انطلاقا من لون البشرة أو اللباس أو غيره.

أعدّ الكامروني لفافة تبغ بالحشيش وأشعلها. سحب منها نفسا عميقا ثمّ ناولني إيّاها. لم يكن من اللائق الاعتذار.

أمّا الإيرلنديان فتركا أغراضهما وقالا أنّهما ذاهبان لتحريك سواعدهما بلعبة كرة الطاولة في مشربة المبيت.

لم ننه السيجارة إلاّ وقد صيّرتنا أخوين شقيقين. قلت له أدعوك إلى أن نرفع نخبا لهذه الصداقة في المشربة.

وهناك، شربنا ودخّننا وضحكنا ولعبنا كرة الطاولة وغنّينا ورقصنا وتعرّفنا على برتغاليين وإيطاليين ولم أدر كيف رجعت إلى الغرفة ونمت...

لمّا فتحت عينيّ عند الضحى، وجدت نفسي وحيدا في الغرفة وإلى جانبي ورقتان خطّ عليهما مرافقيّ عبارة لطيفة وتمنيات بالنجاح. عبارات ساعدتني كثيرا في خطواتي الأولى بفرنسا، تماما كما ساعدتني دعوات الوالدة وذلك الماء الذي رشّته ورائي وأنا أغادر قريتي المنجمية باتجاه فرنسا...



   نشر في 30 مارس 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا