صادف سفري من قطر إلى تونس يوم عيد الفطر لدى الخليجيين وآخر أيام رمضان لدى المغاربيين. هكذا، كان عليّ أن أطير "معيّدا" وأحطّ "مرمضنا"...
في الطائرة، وجدت نفسي جالسا إلى جانب شاب ملتح ويحمل رضيعا لم يتجاوز السنتين. وعلى الجانب الآخر من الممرّ جلست زوجته المنقّبة وابنته. رصّ جاري في صندوق الأمتعة العلوي بعنف ومشقّة حقيبتين ثقيلتين ولكنّه ما لبث أن وقف ليسحب من إحداهما مصحف قرآن طفق يقرأه في صمت. وكأنّما لإلهاء نفسي عن رائحة الطيب القويّة المنبعثة منه قاطعة عليّ نفسي، وضعت السمّاعتين وشغّلت شريط فيديو. في الأثناء، استعرت بيننا معركة صامتة مدارها أحقية كلّ منّا في حيازة مسند المرفق المشترك بيننا، فقد كان كلّ منّا يخاتل الآخر ليضع مرفقه عليه...لمّا سألتني المضيّفة وهي تناولني وجبة الطعام ما الذي أريد شربه، أجبتها بشكل فوري وبلسان واثق وصوت مسموع "نبيذ من فضلك". ابتسمت وهي تمدّ يدها بالكأس التي استقرّت أمام لحية جاري وأنفه وفوق صفحة كتاب القرآن. تجمّد جاري مكانه واحتقن وجهه، كمن التفّ على رقبته ثعبان سامّ. والحقيقة أنّني لم أخطّط للأمر، فقد لمعت الفكرة في دماغي بشكل أغراني وجعلني لا أقوى على ردّها.
خطر ببالي أنّنا في تلك اللّحظة معلّقون في الفضاء بين يدي الخالق في منطقة محايدة لا هي أرض صيام ولا أرض إفطار، ولا هي أرض تقوى ولا أرض فجور، ولا هي أرض كفر ولا أرض إيمان. قلت في سرّي، فلتكن تجربة نكتشف من خلالها حدود قبولنا بعضنا لبعض في تنوّعنا واختلافنا. فهو حرّ في أن يتطيّب بالرّائحة التي تعجبه وأنا حرّ في أن أشرب ما أريد. لكن ما هي إلاّ لحظة حتى حضرت المضيّفة وقد استدعاها جاري بالضغط على الزرّ ليطلب منها أن تنقله إلى مقعد آخر وهو يرمقني بنظرة حادّة. أفهمته المضيفة أنّها ستسعى إلى إقناع أحد المسافرين بتبادل المقاعد، فشكرتها لأنّني أنا نفسي كنت أختنق برائحة جاري، وهو ما جعله يهتزّ غضبا في مقعده.
فجأة أعلن قائد الطائرة أنّنا سندخل منطقة اضطرابات جوية ودعانا إلى شد أحزمتنا وملازمة مقاعدنا، ولم يكد ينهي كلامه حتى ارتجّت الطائرة وتمايلت يمينا وشمالا، فانفلتت حقيبة جاري الثقيلة من صندوق الأمتعة وهوت باتجاه الرضيع... وفي ردّة فعل تلقائية منّي وجدت نفسي أمدّ يدي لتلقّفها وإنقاذ الرضيع من كارثة محقّقة. لكنّ كأس النبيذ اندلقت على كتاب القرآن...
أخذني الذهول وعقد الخرس لساني فعجزت عن الاعتذار، وظللت أجيل بصري بين الرضيع وكتاب القرآن والحقيبة في يدي ووجه جاري الملتحي... وأمام دهشة المضيّفة التي هبّت لمعاتبة جاري على عدم إحكامه غلق صندوق الأمتعة، ابتسم جاري في وجهي وشكرني على إنقاذ رضيعه من موت محقّق، ثمّ مسح الكتاب بمنديل معطّر وطلب من المضيّفة صرف النظر عن تغيير مكانه.