عنصرية في يوم صيف
كانت ألمانيا تتحول صيفا إلى ما يشبه مدن الأحلام و عوالم الرسوم المتحركة المتخيلة ، تتحول مدنها ، بشموسها الساطعة و مساحاتها الخضراء الشاسعة إلى أنهار من الجمال ، كمثل عجوز تراكمت التجاعيد على ساحات وجهها ، و فجأة تراجع بها عمرها حتى أضحت أميرة من أميرة الأساطير ! و كان تأثير فصل الصيف بجوه المنعش و نسيمه العليل ، على نفوس الجرمان ، تأثيرا إيجابيا جدا ، حيث تمتلئ المساحات الخضراء و المرافق الطبيعية بالزوار ، و يلجأ الأطفال الذين لم يغادروا البلاد للسفر إلى المسابح البلدية التي توفرها الدولة بثمن بخس ، فكانت ألمانيا تلتحف ثوب الجمال و السحر .
و كان يعقوب بطبيعته عاشقا لهذا الجو و هذا الفصل ، كونه ينحدر من قارة أغلب مناخها يميل إلى معاشرة الشمس و النور و النسيم الدفيئ ، و لا تعاني كثيرا من ويلات القر كما يعاني منها هذا البلد ، فكان حينما يخرج من باب العمارة التي فيها يقطن على الساعة السادسة ، تستقبله نسائم الصيف الحبيبة ، فيقفل عينيه لثوان ، و يترك نفسه لذلك الإحساس اللذيذ الذي يستولي على كل شعوره ، ثم يعرج على الحديقة القريبة من مقر سكناه بدراجته الهوائية ، فيلقي التحية على السيد فرانتس الذي يمارس هوايته اليومية في المشي كل صباح في مثل هذه الساعة منذ أصبح الطقس ملائما و مشجعا على ذلك ثم يشق طريقه نحو مقر عمله ، و الحقيقة أنه بفضل احترام جل اصحاب السيارات لمستعملي الدراجة الهوائية لم يكن يخشى شيئا في طريقه ، بل كان في كثير من الأحايين يسوق دراجته الهوائية بدون استعمال يديه ، و هو يستمع في نفس الوقت إلى إذاعات الراديو عبر جهاز هاتفه ، أو إلى أناشيد أو دروس في مشغل أقراصه ، كان أصحاب الدراجات في ألمانيا يفرضون سطوتهم على كل مستعملي الطريق ، حتى أن المرء المتقدم لاختبار السياقة ، يمكن أن يرسب فيه لمجرد أنه لم يعط الأسبقية لمستعمل دراجة ، أو أنه لم يتوقف توقفا كاملا من أجل أن يمر . من أجل ذلك كان استعمال الدراجات الحل الأمثل في فصل الصيف ، خاصة أن نسبة حوادث السير في المدار الحضري تكاد تكون منعدمة .
كان من أوائل الذين وصلوا إلى مقر العمل ، فوجد ديتمر في انتظاره ، ألقى عليه التحية و بادره قائلا :
ـ أهلا بعلاء الدين ، كيف حالك أيها الشقي !
ـ الحمد لله بخير ، همم أعرف أنك يا ديتمر صريح إلى درجة كبيرة ، و أنا بخبرتي أعرف أنك متغير المزاج هذا الصباح ، و أخمن من نبرة إلقاء تحيتك أنني سبب في هذا التغيير ، فأرجوك لا تخفي عني شيئا ! قال يعقوب ضاحكا
ـ الحقيقة يا جيكوب ، لا أعلم من أين أبدأ ، حسنا ، اعلم ، أنه قد وصلتني شكاية في حقك !
ـ شكاية ؟ ممن ؟
ـ من سيدة تقول إنك عاملتها بشكل سيء في الشارع أثناء تأدية عملك !
ـ أوه ، دعني أتذكر .. هممم لا أستطيع أن أخمن صراحة ، و لا أعتقد أنني أسأت معاملة أحد إذا أسعفتني الذاكرة ، متى كان ذلك ؟
ـ بالأمس ! تريد مساعدة من أجل أن تتذكر ؟
ـ طبعا ، تفضل !
ـ تقول إنك كدت أن تصدمها بدراجتك ، و حينما صرخت في وجهك ، و لم تجبها قالت لك : سوف اشتكيك لمديرك في مكتب البريد ، فقلت لها : إذا كان هذا يرضيك سيدتي فافعلي !
ـ أوه نعم ، قال يعقوب بشكل عفوي ، نعم يا ديتمر ، أتذكر تلك السيدة العجوز ، و الحق يا ديتمر أني لم أظلمها ، لقد كانت تسير في ممر الدراجات ، و حينما نبهتها بمنبه الدراجة ، بدأت تصرخ في وجهي ، فلم أجبها ، و لكني قلت لها : إذا أردت أن ترفعي شكواك إلى مديري في البريد فأنا لا أمانع
ـ أنت تعرف يا جيكوب مكانتك في قلبي ، و لكن هذا الأمر لا يجب أن يتكرر ، يجب أن نعامل الزبناء و الناس بشكل عام بمنطق أن الزبون ملك ، نحن تجار ، و يجب أن نصبر على لأواء الناس !
ـ حسنا يا ديتمر ، أنا أعتذر منك ، لن أفعل هذا مرة أخرى !
ـ لا عليك يا جيكوب ، هيا ، إنس ما قلته لك ، هيا اذهب إلى عملك
استأذن يعقوب ، و ذهب إلى مكتبه ، و عاد إلى عمله بشكل عاد ، ثم استأنف محادثاته الصباحية ، و الضحكات العالية التي يسببها دخول ماورو إلى المكتب ، و الحق أن كلام ديتمر لم يخلق في دواخله ذلك الإمتعاض الذي يخلقه كل لوم و عتاب يتلقاه ، لا يدري لماذا ، و لكنه لم يحس بشيء في دواخله ، ربما لأن ديتمر من ألطف الناس الذين قابله في ألمانيا ، أو لأنه ساق عتابه بشكل لطيف جدا ، فمر مرور النسيم البارد في يوم صيف ، بالإضافة إلى أن ديتمر كان يعتبره شخصا اساسا في فريق عمله ، و يدل على ذلك كلمة علاء الدين التي تدل بشكل غير مباشر على سرعته في تنفيذ مهمته ، و الحق أن يعقوب ما كان يريد أن يفسد يومه الصيفي الجميل بما فعلته تلك السيدة العجوز ، خاصة و أنها هي التي كانت تمثل الطرف الخاطئ في هذه المعادلة .
ودع زملاءه في العمل ، بحكم أنه إلا أن يقع طارئ ، فلن يجد أحدا منهم في المكتب بحكم أن أصبح ينهي مهمته أولا ، متفوقا بذلك على قدماء العاملين في هذا المكتب في تلك المنطقة ، حمل صندوق بريده المليئ بالرسائل ، حمله على دراجته الهوائية ، ثم وضع سماعات قارئ أقراصه في أذنيه و أطلق ساقيه للريح ...
كانت الشوارع في الساعة الثامنة في شمال المدينة ، تستعد للعمل كخلية نحل ، بدأ دورته المعتادة ، فقصد مكتبة المدينة الكبيرة أولا ، و أدخل الجرائد لمساعدة المدير ، التي وجدها تستعد لشرب قوهوتها الصباحية المعتادة ، ما إن رمقته حتى قالت بنبرة ضحوكة معاتبة :
ـ تأخرت هذا الصباح يا علاء الدين !
ـ الحقيقة لم أتأخر إلا لسبب طارئ ، كنت أحتسي الشاهي المعتق .. قال يعقوب بضحكة مقتضبة .
ـ هذه الأشياء لا يعلم لذتها و المتعة التي تهديها لمستعمليها إلا من جرب أن يعيشها ، و أشارت بأصبعها إلى قهوتها و علبة الشاهي في المكتبة الصغيرة المجاورة !
ـ هممم أتفق معك بالنسبة للشاهي نعم ، و لكني لا أعلم إلى الأن ، كيف لأحد أن يستطعم شرابا مرا مثل القهوة ! أي لذة في ارتشاف شراب مر يا جينيفر ؟
ـ أنت لا تفهم يا علاء الدين ، هذه اشياء لا يفهمها إلا من يعلم كنهها .
ضحك يعقوب ضحكة عالية ، و قال مستعدا للخروج :
ـ على العموم ، هذه هي جرائد اليوم ، سأذهب الآن ، هيا إلى الغد
ـ انتظر يا جيكوب .
استدار يعقوب نحوها ، فناولته قلم ريشة حبر جميل منقوش عليه اسم مكتبة المدينة ، تناوله يعقوب ، شاكرا و فضحته عيناه في سؤاله عن سبب الهدية فبادرته جينيفر قائلة :
ـ لا يجب أن يكون هناك سبب من أجل تبادل الهدايا بين الأصدقاء ، اليس كذلك يا جيكوب ؟
ـ طبعا يا جينيفر ، على العموم شكرا جزيلا
خرج يعقوب قاصدا دراجته ، و هو يرمق القلم الهدية ، مبتسما ، ثم قصد المشفى الكبير على الناصية الأخرى من الشارع ، حمل الرسائل و الجرائد ، و دخل إلى مكتب الإستقبال ، ناولها بيتر ، الرجل المكلف بمركز الإستقبالات ثم خرج ، و الحق أن دخوله إلى ذلك المستشفى ، أو كل المستشفيات ، كانت له وطأة كبيرة على نفسه ، حيث أن رائحة المرض تبقى واحدة في كل المستشفيات ، إلا أن جودة المصالح الصحية كانت تخفف شيئا ما من حدة الأمراض و لو نفسيا ، و كان هذا المشفى يقع قريبا من كنيسة صغيرة تقع إلى جانبه ، بل يوجد داخله أيضا كنيسة يقصدها المرضى ، و أهلوهم من أجل التعبد و تنمية الجانب الروحي ، فكانت المستشفيات في ألمانيا مكانا تحترم فيه الكرامة الإنسانية بامتياز ، و يعامل فيها الناس بشكل لا يحط من كرامتهم الإنسانية . بعد أن خرج من المشفى بدأ في جولته اليومية المعتادة و التي تتضمن عمارات سكانية و محلات تجارية مختلفة تجعل من جولته كل يوم جولة متجددة لكونه يقابل أناسا أخر ، و كالعادة لم تدم جولته كثيرا من وقت ، ووصل إلى آخرها ، و أوقف دراجته أمام إحدى المخابز ، و نزل من أجل أن يوصل رسالة إلى صاحبتها ، ما إن دخل حتى رمق امرأة عجوز تنظر إليه بشكل مريب ، أعطى الرسالة لصاحبة المخبزة ، ثم نظر إلى المرأة العجوز و سألها قائلا :
ـ هل لي أن أساعدك أيتها السيدة ؟
نظرت إليه و كانت عيناها كمسدسين موجهان إلى رأسه و قالت :
ـ نعم ، يمكنك مساعدتي و مساعدة جميع الألمان ، بأن تحزم حقائبك و ترحل من هنا و تعود إلى بلادك !
كانت الصدمة بالنسبة إليه كبيرة ، ليس لأنه تفاجأ بهذا الكلام العنصري ، و لكنه لم يتوقعه و داهمه ، بقي مشدوها لثوان ، غير أنه استدرك و قال :
ـ لماذا يا سيدتي ؟ هل بي وباء تخافينه أن ينتشر في بلادكم ؟
و كان القليل من الناس الذين وجدهم داخل المخبزة قد بدا الإمتعاض على وجوههم مما قالت تلك المرأة العجوز ، بل و منهم من ذهب إلى حد الإعتذار منه ، ثم استطرد يعقوب قائلا :
ـ اعلمي يا أيتها السيدة ، أن ما قلته يعاقب عليه القانون الألماني ، و لولا أنك في مثل عمر جدتي ، كان لي معك تصرف آخر ، و سأسامحك هذه المرة ! و اعلمي يا سيدتي أن الأرض لله ، و ليست لشعب معين في منطقة معينة ، و اعلمي أنني هنا بموجب قانون الماني ، و إذا رمت المغادرة فسأغادر قانونيا أيضا ، و اعلمي أنني أعمل من أجل كسب قوت يومي ، و لا أتكفف الناس في مصالح المساعدات الإجتماعية !
أطرقت العجوز لثوان ، و هي متبرمة ، ثم غادرت المحل وسط اندهاش الكل ، حاولت سيدة المخبز أن تعتذر منه عما بدر من السيدة ، فاعتذر لها هو بابتسامة دفيئة ، و اقتنى دراجته ثم انصرف إلى مكتب البريد .. ، اقتنى دراجته الخاصة بعد انتهاء دوامه ، ثم قصد منزله ، و كان الجو في مثل هذا الوقت من الظهيرة حارا ، و بيته الذي يطل على ظلال وافرة من أشجار المساحة الخضراء المجاورة ، كان ينبعث منه نسيم بارد ، قصد السوبر ماركت في طريقه ، ثم اقتنى خبزا و زيتونا و جبنا ، ذهب إلى منزله ، دخل إلى المطبخ و أكل بعضا مما اشتراه .
كان هذا الوقت من اليوم ، هو أجمل أوقاته طيلة الأسبوع ، الثانية زوالا ، و كان مطبخه يحتوي على مساحة مربعة من 3 أمتار مربعة بباب مفتوح ، تتوسطه نافذة كبيرة تطل على أشجار الكرز و البرتقال في الحديقة الخلفية للعمارة التي يقطنها ، و كانت ساورته فكرة من قبل حاول أن ينفذها بالفعل فاقتنى خشبة على مقاس المساحة المربعة ، و عمل على إلصاقها بدعامة خشبية في الوسط بشكل يطل على الحديقة الخلفية فأصبح عنده مكان للتخزين أسفلها ، و عمل على فرشها بأغطية ، و اقتنى وسادة فأصبح لديه مكان للكتابة ، بل و للنوم وقت القيلولة و بالليل أيضا ، و كان هذا المكان هو أحب الأماكن لديه في منزله ، توضأ و صلى ، ثم قصد سريره الخشبي المطل على الحديقة ، و راح في قيلولة لذيذة جدا ، قيلولة بطعم أشجار البرتقال و الإجاص ، و الطيور المهاجرة ، التي تحط هناك .
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة