جدّي الحاج أحمد أبو زيّان - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

جدّي الحاج أحمد أبو زيّان

  نشر في 02 يناير 2019 .



1

دهم الموت دارنا ذلك الشتاء … عندما كانت الغيوم تغطّي السماء . لم يكن هناك أحد في المكان… وقد لاذ الناس لدورهم إتّقاء البرد والزمهرير القارس…

كانت أمي تُصلّي عندما جئنا زائر على غير ميعاد .. في ذلك اليوم .. كان شاحب الوجه وقد علاه الوجوم .. وكأنّ على رأسه الطير… جاء وهو مضطرب للغاية .. ألقى قنبلته بيننا ثم إختفى في لمح البصر.

ـ لقد توفي الحاج أحمد أبو زيّان…

بدا الإرتباك على وجه أميّ وهي تغالب دمعة حزن تكاد أن تفرّ من محجريها…أتّمّت صلاتها في خشوع تخيّلتها في تلك اللحظات العاصفة كشمعة تحترق في صمت وحزن وسكون.

أنهت أمي الصلاة وقد إغرورقت عيناها بفيض من الدموع المحتقنة .. هرولت نحو جلبابها وخمارها وفي آلية إنطلقت صوب الباب وهي تغالب الدموع والأحزان … تسمّرت بمكاني للحظات كنت وحدي ـ وقتذاك ـ يلٌفّني الصمت وتعتصرني الذكريات .. وأنا أصغي إلى نداء خفيّ مجهول .. كان قلبي يعتصر كمدا ودموعي تتدحرج من محجري فتظنيني..

ـ لقد مات جدّي الحاج أحمد أبو زيّان………

تحرّكت ببطئ وعفويّة.. وسرعان ما إنطلقت أعدو لألحق أمّي .. كانت مكلومة.. فقد فقدت " الوتد" وطالما كانت ترنو لأن تكون ألى جواره وهو يغرغر في حشرجاته الأخيرة… بعد رحلة مرض طويلة وشاقة.

لا أدري كيف قطعنا أنا وأمي تلك المسافات والمفازات الشاسعة التي تفصل بين دارنا وبيت جدّي….

كنّا نخترق الطرقات واجمِيْن في غير مبالاة أو إكتراث لقد كان هوْل الموت قويّا له دوي ّ في عمق النفس وقد بدا الكمد جليّا على المحيّا الشاحب .

كنت أسمع أمي وهي تتمتم "تمتماتها" الخفيظة وتدعو له بالرحمة وهي ضارعة تواصل هرولتها و تواصل الدعوات الحارة فيختلط البكاء الأخرس بدفق الدمع الساخن بينما يصلني صدى أنينها المكتوم المنبعث من العمق.. يتردد صداه المكلوم في حسرة مهيضة الجناح وألم كالغصص الحرار…

كنت أهرول لأدرك أمي وقد أكلها الحزن ولاكتها أفواه المرارة السوداء

ـ" أي ّ قوة جبّارة تلك التي بين جوانحها .. ألهمتها الصبر والعزاء رغم المرض الذي ينخر جسدها العليل "

كانت شمعة تُريقٌ دموع إحتراقها في صمت وحزن وصبر وأناة.

كنت على أمل يراودني في الهروب من مخيالي .. من تلك الخيالات المخيفة وهي تنهبني نهبا فلا أستطيع ان أرتّب أفكاري.. إنني بحاجة لإستعادة تفاصيل ماحدث.

أن أحاول إحتواء إرتباكي وحيرتي وأن أمتصّ حزني الصامت

ـ لقد مات جدّي …… رحمه الله…

وددت أن أصرخ في الدنيا , وأن أرفع عقيرتي عاليا وأصيح…

ـ مات … مـــــــــــــــــــــــــات

جـــــــدّي ….

" إنني في حاجة للحظة جنون وإنعتاق"

كانت المسافة ـ الفاصلة بيني وبين أمي ودارجدي ـ كبيرة …

وأخيرا لمحتها من الافق وهي تدخل الدار وهي ذاهلة تغالب الحزن والكمد… أطلقت سيقاني للريح كي أدركها …

ـ لقد مات جدي … رحمه الله

2

وقفت أمام جسد جدّي، كان ممدّدا في الفراش ذاهلا كمن لا حقت عيناه طائر الردى وهو يحلق إلى أن يختفي في غمار السماء . كم هاضت تلك العينان الهائمتان جوانحي.. ذاهلا كنت أحدّق في الجسد

ـ يا دموعي أهلّي وسيلي … رحل جدّي

ذلك الوتد الذي قامت عليه الخيمة.. وارتبطت به حياتي السالفة ..

إنه أصل الشجرة ونحن أغصانها وفروعها…

ذكرت ُ بسمته الصافية وانشراح صدره وهو يرتّل آيات القرآن .. فتترقرق من شفتيه كالعسل غضة طرية متقدفة ندية …

كانت أمي ـ لحظتها ـ تمسك يده الباردة المتكلّسة .. في هاته الحظات الحرجة ..تسحّ دموعها في صمت وتتلو آيات من القرآن…

" يس .. والقرآن الحكيم … إنّك لمن المرسلين…"

تواصل التلاوة في حزن ووقار .. أمّا أنا فقد وقفت جامدا متخشّبا أمام الحائط حتى صرت ملتصقا به… لم أبكي لم أصمت لم اتحرك وقد تهت في تفاصيل اليوم الغدافي الأسود.

إستسلمت لمشهد الموت الرهيب ، كانت عينا جدّي شاخصتان للسماء

غمغمت وأنا أغرق في الصمت.

ـ مـــــــــــــــــاتْ

كان مخيالي وقتها يملأ الغرفة بالنور وإذا بالمكان يتحوّل في مخيّلتي إلى فضاء مزروع بالورد واالرياحين وجنائن من عرائش الياسمين.

أحدّق في الجثة الهامدة وهي أمامي " كالخشبة " وقد رفرفت الروح في معراجها إلى السماء .. تتغلغل فيه كما يتغلغل الطائر المحلّق في غمار السحب.

أشرد قليلا وناظري لا يزال عالقا اتجاه السراب .

أعجب ما أعجب منه ـ لحظتها ـ أمر نفسي الهادئة .. إنني لا أّذرف دموع العين.. بكاء القلب الدامي وهو يقطر بالدم.. هو بكاء الألم الصامت… أورثني هذا المشهد الجنائزي همّا على همّ.. كاد فؤادي أن يكف عن الخفقان

ـ آ وّأأأأه للموت رائحة في هذا المكان

تنتشر الرائحة كدبق الدم وسرعان ما تتبدّد بريح طيّبة وروْح وريحان..

3

لقد تحرّكت السنين ودارت الأفلاك والنجوم .. وجدّي لم يتحرّك تغيّرت المبادئ والأزمان والبشر تغيّروا والطقس تغيّر لكن جدي ظل كما هو لم يتغير وجهه المضيئ الوقور كأنه صفحة وجه القمر . . ولحيته البيضاء التي تزيده هيبة وتصبغ عليه هالة الاحترام ,, لم تتغير وجلبابه الابيض النقي و" بُلغته" الصفراء وعمامته البيضاء المميزة ومشيته الهادئة الرزينة وعصاه العتيقة السوداء .. كلها ذكريات عن رجل مضى ها هو الآن …. جثة هامدة .. لا حول لها ولا قوّة .

ـ إنه جدي الحاج احمد ابو زيان كما عرفته منذ نعومة اظافري .. هو نفسه جدي الميـت الآن …

أحسست بانقباض شديد إنني أعيش لحظات قاسية في هذا الحقل الرهيب .. حقل الموت….

طرق الباب الفقيه الميلود تقدّمت نحوه في حزن أخرس.

أطرق في صمت وقال بحزن

ـ أريد من يساعدني في تغسيل الميّت …

تهيّب الجميع هذا الأمر الجلل أقشعرت جلودهم فتقهقروا .. أصبحت وحيدا .. حدّق في وجهي ثم قال

ـ ممكن … أن تساعدني

لذت لصمت القبور…

لا ضير أن أشرب من الماء الآسن ، لا بأس ان آكل اللقمة المعفّرة بالتراب ، لكنّني لا أقوى على رؤية جدي ممدّدا أمام " الغسّال" وأكون أنا من يصبّ الماء على جسده ويكفّنه..

يالها من لحظات ثقيلة جدّااا

غمغمت دون تفكير وقد غامت عيناي بالدموع

ـ لا ضير……

" لا بدّ لي من إدراك معنى … أن يموت الإنسان ويرحل …"

سرعان ما لملمت تلابيب نفسي ، ارتفع صوت من داخلي لماذا لم تقل " لا لا لا " ولكنه صوت مكتوم متكوم في اغواري ككيس من تراب.

قد تكون " لا لا لا" ممكنة في كل الأحوال .. ولكنّها لن تكون مبررا أبدا داخل الغرفة الفارغة من كل أثاث وجدت جدي ممددا وماء الغسل قد أصبح جاهزا والمٌغسّل ـ الفقيه الميلود ـ مستعدّا. وسرعان ما إنهمكنا سويّة في تغسيل جدي وتكفينه… كنت أشم ريحه الطيّبة أو هكذا كان يخيّل لي، كانت لحظات مصيرية في حياتي.

هاجسٌ ينتابني بين الحين والحين , عتاب ولوم خفي

ـ لماذا لم تتقهقر وتقول " لا"

تفصد جبيني بحبّات من العرق حاولت الفرار من هواجسي ..

لن أنصت لصوت نفسي مهما علا الصخب والضجيج من حولي .. أو مهما إشتدّ بي الوهن والضعف…

سمعت الفقيه الميلود يقول "محمدلا"

ـ انتهينا … فرغنا بحمد الله رحمه الله

أرسل زفرة حادة من أعماقه ، أحسست بلوعتها

ـ كان رحمه الله رجلا فاضلا

هكذا قال ثم اتجه نحو الباب واختفى بين الجموع… بينما تقاطر أهل الدار لإلقاء النظرة الأخيرة على الميت.

لمحت في وجه امي تباشير الرضا ربتت على كتفي وقالت بحنو وعيناها ملأتا حزنا…

ـ بورك فيك يا " ولدي"

ـ " يموت جدي .. وأغسله وأكفنه وأنفض غبار قبره من يديّ.

وفي نفسي ألم دفين وبعيني دمعة وفي قلبي حسرة.

انسللت إلى الخارج .. وجلست في أنتظار الجنازة..

كنت ـ دائما ـ اعرف طريقي إلى بيت جدي مدفوعا بقوة غامضة لا تقاوم .. لا فكاك منها مهما أبتعدت سرعان ما أعود

الآن … لحظة حزن جارفة وكمد قاتل وتيه متواصل .

تذكرت أن اليوم هو يوم " الجمعة " احتشد الناس في الزقاق.. كانوا يتزاحمون أمام الدار وسرعان ما انطلق الموكب الجنائزي الصامت

إلى مسجد النور المحمدي .

الحشود الغفيرة وكأنّ على رؤوسهم الطير، رفرف طائر الحزن فوق رأسي .. فسكنت ملابسي لائذا للصمت مستسلما للشرود.

4

علت في السماء صرخات ملتاعة ذات أسى ولوعة جارحة ، أزعجني بعمق ذلك الصراخ ، تألّمت في صمت .. " هل كان يرضي جدي أن تكون نائحة تشدّ من شعرها في جنازته" .

انني أحتقر الصوت العالي وأنفر من الصراخ بطبعي حتى لو كان صوتي .. ـ إن صرخت وارتفعت عقيرتي ـ.. شعرت بعتاب وتقريع داخلي مرير. رأيت أحدهم يسحب المرأة النائحة خارج البيت وسرعان ما ساد السكون … بينما تواصل البكاء المكلوم المكتوم في حزن جليل صامت.

ها أنذا أسرح في ملكوت من الذكريات جدي الحاج أحمد أبو زيان وهو يقف شامخا كالمئذنة ويمشي الهوينا بوقار .. أتسلل إليه خلسة كنسمة هواء صافية في يوم حر أوقر … أقبل يديه البيضاء اللينة ، يبش في وجهي فتشرق من صفحة وجهه ابتسامته الجميلة .. ثم أمضي معه في الطريق أرهف السمع له وهو يتلو آيات القرآن….

كم كانت قراءته شجية .. إنها سياحته اليومية.

وعندما ندنو من مشارف " الدرب" وألمح بيتنا على بعد خطوات انطلق وأنا أعدو لأبشّر أمي بقدومنا ….

ـ "جاء جدي …فتهللي وأجملي"

كنا نجلس عصر كل جمعة متحلقين حوله .. كان وتدا ويدا….

نجلس صامتين كأن على رؤوسنا الطير نرهف السمع لحكاياته وقصته في المعتقل .. عندما تصدى للقائد الفرنسي وقد اطاح به ارضا بضربة قاضية … يومها كان السجن في حسي مرتبطا بالبطولة والنضال والمقاومة وقد كان عندما احتواني بين احضانه واشواكه .

بينما جدي يواصل الحكاية كان يتناهى لسمعه شيء من اصوات الاغاني منبعثة من " الرائي " او المذياع . أرى الانقباض باد على وجهه .

ويزجرنا زجرة واحدة

ـ أغلقوا… فم الشيطان

ثم تختفي الأصوات في لمح البصر… الشيطان في حس جدي حينها هو ذلك المذياع او مخيال الرّائي . كم كان جدي يمقت ما يبث فيه من لهو وعبث… بينما يحثنا على سماع القرآن بلا كلل أو سأم.

وعندما يعم الصمت أرجاء الدار ينطلق في حكاياته وسرد تجاربه ونحن متحلقين حول " براد الشاي " لساعات طويلة…

كان يحلو له مرات عديدة أن يداعبنا دعاباته الجميلة..

كم كان جدي رائعا وكم كانت تلذ لأذني سماع قصصه ورحلة كفاحه وإيمانه العميق… أتخيّلها أمامي في شريط متواصل من الذكريات.

" توقفت قليلا عند حرارة الذكرى التي ثارت في الصدر إلتفت لأستوثق من المكان … المقبرة … امامنا … عما قريب نواري جدي ـ الحاج احمد ابو زيان ـ التراب… إنه مثواه الأخير

ـ سأنفض تراب قبره من يديّ."

تأوّهت وربما حاولت أن أصرخ صراخا داخليا ، لكنني إحتبسته في صدري فاحترق… عندما ولجنا المقبرة في موكبنا الجنائزي المهيب ٍرأيت أسرابا من الطيور وهي تفزع من أعشاشها وتصرخ في السماء المتلبدة بالدخان

ـ" لكأنها تبكي جدي أو ترثيه".

زفرت في حرارة وانا أتمتم بيني وبيني

ـ "قد ينتج أعظم شر من أعظم خير كما ينتج أعظم شر من أعظم خيرّ"

ثم اختفيت بين الجموع….

إنها لحظات فاصلة في هذا اليوم المشهود…..

5

كلمة " الموت " تعني النهاية .. نحن ننطقها بلا مبالاة ، الموت هكذا ببساطة، وربما نكتبها على الورق دون أن تثير فينا شيئا أو تحرّك في نفوسنا إحساسا بالألم والاحتراق والمضاعفات المرعبة والمدمرة.

ها أنذا أقف على أعتاب الموت… القبور في كل اتجاه تحيط بنا من كل مكان.. ليس الأمر هيّنا ..

إنها لحظات من التأمل الحقيقية .. تبدأ من هنا من المقابر وبين الحفائر…

" عندما يموت الإنسان ويترك أحلامه الجميلة التي لم تكتمل وتعلُّقهُ بتلابيب الأمل والرجاء … ثم يودع ربيع عمره… أو خريف حياته، يودعهما بعيني ملهوف وكأنه يتوسل للبقاء…"

ـ " حينها ندرك حقيقة أن نخرّ صرعى وموتى…"

ما أقسى لحظة الموت والفراق.. عندما تواري في التراب من تحب وتتركه يثوي في مثواه الأخير …" بحفرة" مجرد حفرة نائية لا حس فيها ولاخبر ….

وتتركه للنسيان لآلاف السنين نائما نومه السرمدي الطويل ينام وهو عاجز في قبره … بينما الدنيا من حوله في هزيجها ومريجها وصخبها وضجيجها واضطرامها…."

جدي تحت التراب … يرقد عاجزا كقطعة خشب متعفن

ـ أليس الموت رهيبا….

وهو مصيري بعد المسير..

ما أوحشه من مصير وما أقصره من مسير

حركت جذور ذاكرتي فانطفئت حرارة نفسي

ـ ما أصعب الكلام

انسحبت خارج المقبرة والألم يعتصرني والكمد يأخد بمجامع قلبي وفؤادي.. كنت أمشي في فتور وألتفت مرات إلى الوراء لأودع القبر وما حوى .. وأودع أحزاني وتاريخي وأيامي الماضية وجذوري…

6

في المساء أحسست بشيء يغلي في صدري كما يغلي الماء في القمقم كان برأسي معركة دامية تضطرم فيها أفكار وتأملات عن الموت ومعنى أن نموت وأن نواري في التراب سوءة أخينا الإنسان…

غصت في فلسفة الحياة والموت والحرية والقيد…قادتني قدماي بعد رحلة مشي طويلة إلى المقبرة.. تجاوزت بوابتها وأنا غارق في شرودي، لا أدري أطال الوقت أم قصر وأنا أمام قبر جدّي.. أخدتني سنة من النوم بجنب الشاهد والصبّار وفي النوم طافت روحي في ملكوت فسيح رأيت جدي جالسا بلباسه الأبيض ووجهه المضيئ فانبسطت أساريري… أفقت فجأة جلست مقرفصا وأنا قدّام القبر وقد اعتصمت بالصمت… أرهف السمع للأشجار والريح وهو يداعبها.. وللأرض والتراب، أحسست أن القبر مشهدٌ آخر من القبو والزنزانة التي التهمتني لسنوات طويلة كانت " المنفردة " قبري وكان السجان كفتنة القبر وعذابه المرير…

"أنتفضت قائما وحديث عن " الفطرة " يراودني ، تلك الخامة الأصيلة للحياة الأولى ومصدر طاقتها الحيوية وعن النفس وما تحويه بين جوانحها من متناقضات ونوازع شتى وبما يصدر عنها من تجارب وآلام…."

طيلة المسافة الفاصلة ما بين المقبرة والطريق السيار كنت أحلّق مع لحظات من ذكرى الطفولة عندما كانت الأفعال منطبقة مع نداء الفطرة.

غمغمت في استسلام عميق" على الإنسان أن يكون في حالة تمحيص دائمة لأفعاله".. لقد عشت أحمل في جسدي بصمات القهر تعكر صفوي جهامة وجه الجلاد الذي يطاردني في أحلام اليقظة وفي كوابيس الليل وألمح من وراء النسيج الرقيق الذي يلفّني كغشاء الشرنقةالحريرية بصيص أمل فأندفع كالفراشة محلّقا في الفضاء الفسيح معانقا للحياة..لأمكث تحت ظلال الشجرة الباسقة الوارفة.

القبر والموت والقيد والقبو والحرية والسجن والعتمة والسكون والأحزان والآلام والأوجاع …موت جدي ذلك اليوم ذكرني بلحظة مغادرتي للسجن .. وأنا أبتسم ساخرا من الجلاد

ـ لم يكن بميسورهم رغم أدوات القهر مسخ فطرتي …

هناك داخل العتمة تصبح كافة القوانين الأرضية تبريرا للبطش والقتل في أبشع صورة من صوره…

التفت نحو المقابر …

ـ أوّااااه … خرجت من قبري من زنزانة قهري

أما انتم فمتى تخرجون من الأجداث سراعا

أحسست بالموتى كلهم وكأنهم ينتفضون من اكفانهم البيضاء ويرددون في صوت واحد كان له صدى تردد كالصعق والبرق في السماء الواسعة

ـ "من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز…."

لمحت جدي من بينهم وهو يتقدم صوبي ويردد بقوة

ـ ما مصيرك بعد طول مسير

أفقت من شرودي وأنا أردد " مصيري بعد مسيري إنه القبر القبو الأبدي السرمدي …"

استنشقت كمية من الهواء ملأت بها رأتي.. وأنا أمشي انسكبت قطرات من السماء وبدا البرد أشد مما كان.

كنت لحظتها أسمع لقطرات المطر طرقعة خفيفة شعرت أن الحذاء يكاد يخنق قدمي وباختناق يعتريني من رأسي لأخمص قدمي" أكاد أموت "

رغم إحساسي بالدفء ذلك الإحساس الذي إفتقدته من زمن بعيد وأنا في القبو المقيت…

مات جدي …

هكذا غمغمت وأرسلت زفراتي الحرّى…

في شرودي واصلت المسير تحت وقع زخات المطر



   نشر في 02 يناير 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا