لا يُحيل هذا السؤال إلى ما قد يَبرُق في ذهن القارئ من اللَّحظة الأولى، إذ يكون الكُره الشديد متربِّعًا في مساحةٍ بين عَدوَّيْن طال بينهما العداءُ، وقَصُرت مساعي الصُّلح عن التّأليف بَينهما، فتساءل طرفٌ منهما عن الآخر: لماذا إلى هذا الحدّ يكرهوننا حتى فشلت كل مساعي الصلح؟ ولا أذهب إلى أبعد من هذا حيث يكون البغض أساس العلاقة بين أطراف معينة، بل أعود إلى ديوان الحماسة لأنقُل ما قال رجلٌ من بني عُقَيل، وقد حاربه بَنو عَمِّه، فقَتَل منهم وأسَر:
بِكُرهِ سَـراتنــــا يا آلعمـــــــــــرو نغاديكم بِمُرهفةٍصِـــقـــــــالِ
نُعدِّيهنَّ يوم الرَّوعِ عنــــــــــكم وإنْ كانت مُثلَّمـــةَ النِّصـــــــال
لها لـــونٌ من الهامـــات كابٍوإن كانت تُحادَث بالصِّقال
ونبكي حين نقتُلُكم عليكم ونـــــقتــــلــــــــكم كأنّــــا لا نُبـــــــــــــــالي
فنفس الشاعر حائرةٌ ما بين الوفاء للرحم، والوفاء للبغض الذي ملأ نفوسهم، فيبكون في قتل بني عمومتهم رحماً مكلومةً مفجوعة، ومصمومة آذانهم عن قول كبارهم،ويقتلونهم كأن ليس بينهم صلاتٌ مِن القربى، لأنّهم يقتلون أعداءهم.
عندما أفكّر في ما يجري في وطننا الحبيب، وما يفعله به المُفسدون في الأرض، لا أستطيع إلّا أن أحتار في علاقتنا بهم وعلاقتهم بالوطن، إذا كانت الأرض كما يقولون أرضهم فلماذا يفسدون فيها؟ وإذا كانوا جزء من الشعب فلماذا كل هذا الظلم؟ قد تبدو هذه التساؤلات طافيةً على بحر من التشاؤم والمبالغة، ولكنّها كذلك مبنيةٌ على واقع بادٍ جرَّبه النّاس، وخبروا قساوته حتى هجروا الأرض كلّها، أو هجروها وهم يعيشون عليها مُجبَرين على الرضا بحال لا ترضي أحدا منهم، مدفوعين إلى شعور قويٍّ بالبُغض والكره، قد يكون الوطن ضحيةً له بعد أن حال الفساد بين المواطن وحبّه الصافي لوطنه، فما عاد كثير منّا قادراً أن يحبّ بسلامٍ الأرض التي يذوق فيها كلّ يوم صنوفا من الحرمان، وألوانا من الكذب، وأشكالا من الظلم، وهذا الذي يجعل السؤال مُلحًّا أكثر من يومٍ كان فيه العدوُّ معروفا، لم يكن منّا ولا تربِطنا به وشائج من قربى، أو روابط من دم، فكنّا نعرف معرفةً صادقةً لماذا يكرهوننا، ولماذا يحاربوننا، أمّا اليوم فإنّ السؤال مشروعٌ ويحتاج في نظري إلى جوابٍ مقنع، فالمفسدون منّا يصنعون بهذه الأرض ما لا يصنعه العدوّ بعدوِّه، فإنّ العدوّ لا يُفسدُ أرضًا تنفعُه في مقارعة عدوّه، بل يُصلحها لتُعينه على تحقيق أهدافه، فلماذا يُفسدون عندنا الحرثَ والنَّسل وهم يعيشون بيننا؟ إلّا إذا كانوا فعلا يكرَهوننا. فلماذا إلى هذا الحدّ يكرهوننا؟ ما الذي صنعناه بهم فعادوا ينتقمون منّا؟
لا نسيغ أبدا أن تكون بلادنا بهذا الغنى في ثرواتها المادية والبشرية، ثم لا تزال ترزح تحت نير التخلف المُخزي، بينما قطعت دولٌ تملك أقل ممّا نملك أشواطاً واسعةً من التقدم، وهذا الذي يزيدنا غيظا وكرها، ويملأ قلوبنا حقدا ضدّ جهات نعرف أنّها تعيش بيننا، لكنّها لا تعلن عن نفسها صراحة، كأنّها تقوم بمهمة سرية لتدمير الوطن، وهدم قدراته. أليس غريبا أن يتراجع عندنا كلُّ شيء، بينما كانت الفرص متاحة بامتياز لتجاوز كثير من أزماتنا التي تبسط سلطانها على هذا الشعب؟ وهل هي أزماتٌ طبيعية حقًّا موجودةٌ في كل بلدان العالم، أو إنَّها أزماتٌ مفتعلةٌ يُريد بها الحاقدون إبقاءنا في حلقة مفرغة؟
لا أفهم كيف لـ(قارّةٍ) كالجزائر أن لا يجد فيها المواطن سكناً لائقا يحفظ كرامته؟ مع كل هذه المساحة لا زلنا نتحدث عن أزمة السّكن ! ومازالت تتفاقم وتتعقّد. أيُّ عجزٍ هذا الذي يبديه ساستنا في تفكيك أزمةٍ نملك كلّ إمكانات القضاء عليها ! أهي فعلا أزمة سكن في بلدٍ تأوي عائلاتٌ إلى الشوارع وتحتفظ أخرى بعدد من السكنات مُغلقة تسكنها الأشباح، أو ترتع فيها الرذيلة؟ ألا يدلّ وجود أكثر من مليون سكن شاغر في الجزائر، في وقت لا يجد الشاب إمكانات الزواج وعلى رأسها السكن، على أنَّ بعضنا لا يعنيه شأن الآخرين، وكأنّنا نكره بعضنا؟ بل إنَّهم اليوم يتحدّثون عن إصدار قانونا يبيح للمواطن دفنَ قريبه في منزله، لأنّ هذا في نظرهم حلٌّ مناسب لـ(أزمة) القبور، وقريبا يحدث الفساد في توزيع القبور مثلما حدث ولا يزالُ في توزيع السكنات، وقريباً لن يجد المواطن قبرا يموت فيه بسلام، مثلما لم يجد سكنا يحيا فيه بسلام !وهذا يحدث في بلدٍ مترامي الأطراف ضَيَّقَهُ السَّاسةُ، ولو كانوا يحكمون الأرض كُلَّها لضَيَّقوها على النّاس.
إنّ المسافة التي تفصلنا عن ساستنا لا يمكن بأي حال تقصيرها بالخطابات الكاذبة التي صار ت سياسة عندنا، ومازالت الأيّام تثبت لنا كذب ساستنا، ولكنّهم لا يستَحون، ويعودون في كلّ مرّة يطلبون منّا الخروج لانتخابهم، وآنذاك فقط نشعر أنّهم يملكون شيئا من الودّ والحبّ إزاء المواطن البسيط الذي لا يشعر أنّ نواب البرلمان يمثّلونه حقًّا، أو أنّ له بهم صلة، هؤلاء لا يعرفون كيف يقتربون من الشّعب إلّا إذا كانوا بحاجة إليه، وهم غير قادرين على حلّ أبسط مطالبه اليومية، كتعبيد الطرقات، وإصلاح البالوعات، وتوفير النقل لأطفال المدراس في المناطق النائية التي لا يزورونها، لأنّ طرقاتها غير مُعبَّدة.
أمّا الجريمة وانتشارها في كل الأوساط، فحكايةٌ أخرى. إنّهم فعلا يكرهوننا، ولا تَهمُّهم حتى دماء الأطفال التي تُزهَق بجنون، لأنّهم لم يضمنوا لهم الحماية التي يضمنونها للمجرمين القابعين في السجون، أو الراتعين خارجها، وماذا عن العزة و الكرامة التي حلمنا بها، هل يشعر المواطن فعلا باعتزازه بالانتماء لبلدٍ تغيب فيه العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص؟
ليس لأحد الحقّ في ادّعاء وطنية زائدة، ولكنّ الوطنية نفسها مهدّدة، لأنّ الذي يستأثر بخيرات البلاد دون الناس، لا يحقّ له أن يطالب الآخرين بالوفاء بحقوق الوطنية، ولقد سمعت شبابا يسبّون الوطن وهم يحبونه، والفضل في ذلك للحاقدين الذين يكرهون الناس الذين يحكمونهم، ويتكبّرون عليهم، ويدفعونهم إلى قوارب الموت والهلاك، ثمّ يتهمونهم بخيانة الوطن !بل لقد سمعتُ شيوخا يتحسّرون على زمن لم يكن فيه الجزائريُّ يخاف مِثله، وكان المواطن يسافر من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ولا يشعر بغربة أو خوف، لأنّه في بلده وعلى ترابه، فما الذي جرى حتى يخاف الجزائري من جزائري، و يكون كل مواطن مصدر خطر مُحتَمَل على غيره، و يعيش المواطن غير آمن في حيِّه الذي نشأ فيه؟
إنَّه فسادٌ نخر القلوب، وآذى الخَلقَ حتى لا تحجُبُ أيادي الخير أثرَه، وكثيرٌ من الأيادي البيضاء قُطِعت بغير حقّ. إنّنا نستحقُّ أن نُحبَّ أرضنا بسلام، وأن نعيش عليها بسلام، وأن نحيا فيها مُطمئنِّين، فلماذا لا يفارق الخوف قلوبنا إلّا لماما، ولماذا استبدلنا بخوفنا من الأعداء خوفَنا من بعضنا؟
لا يكون آمناً أبدا وطنٌ لا يأمنُ فيه الإنسان على لقمة عيشه، ولا تُؤتَمَنُ فيه المدرسةُ على تعليم أبنائه، ولا يأمَنُ وطنٌ يعمُّ فيه الحيف، ولا يُنتَصَرُ فيه للضعيف.
إنّ ظلمَ ذوي القربى أشدُّ وطأً على النفوس، وأبلَغُ ألمًا في القلوب، ولن يجد الأعداء وسيلةً للانتقام خيراً من دفع بعضنا إلى ظلم بعض، وما كان خروج النبي ﷺ من مكَّة قطُّ خفيفاً على نفسه، بل كان قاسيا جدًّا ولكنَّه كان قويًّا جدّا ليتعامل معه، إنَّه عندما قال له ورقةُ بن نوفل:" ليتني أكون فيها جذعا إذ يخرجك قومك"، قال ﷺ :" أوَمُخرِجِيَّ هم يا عمّ؟ ! " . إنّ التَّهجير من الوطن جريمةٌ مسكوتٌ عنها، وإنّها لَخَطبٌ شديدٌ أن يفارق المرءُ أرضا اختلط بترابها، وانظر إليه ﷺ مُخرَجًا من مكَّة يقول:" واللّه إنّكِ لَأَحبُّ بلاد الله إليّ ولولا أنّ قومك أخرجوني ما خرجت"، فأيُّ بَغيٍ هذا وأيُّ ظلم ! إنَّه البغض المستوطِن في قلوب الظالمين، فهي لا تتنفّس نَسائم الحبّ ولا تقيم له وزنا، ولكنّ المؤمنين عندما فتحوا مكّة مع رسول الله ﷺ خشوا أن يستبدَّ به هذا الحبُّ العظيم فيركن إلى قومه و يُقيم بينهم، ولا يعود إلى المدينة، ولكنّه كان عظيما جدًّا في حبّه، فإنَّ الحُبَّ لا يحيى بلا وفاء، وكذلك لم يكن ميسورا على أصحابه رضوان الله عليهم أن يهجُروا وَطنَهم، وقد بات لقب المُهاجرين علامةً عليهم حتّى يَذكر النّاس فضل ناسٍ هجروا أوطانهم إعلاءً لِكَلِمة اللّه.
ولكنَّ الجور عندما يأتي ممّن تربِطُنا بهم روابط قربى، وتختلط روائحه الكريهة بنسيم الوطن يكون له طعمٌ مختلف:وَظُلمُ ذَوي القُربَى أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرْءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهنَّدِ
فلا يَعجَبَنَّ أحدٌ إذا استشرى فينا الكره، وسادت عدوى البغض، فإنَّ الظلم لا يتركُ أحدًا يُحبُّ بسلام، فعجبًا لقومٍ يحترفون الظلم ثم يطالبوننا بالحبّ ! وهل تركوا للحبّ فسحة؟ إنّ بعض الناس لا يتركون لنا مجالا لنُحبَّهم وإن اجتهدنا، وكم كان الجاهليون في شعرهم حكماء حين قال بعضهم:
مهلًا بَني عمــِّنـــــا مَهلًا مَـــوالينـــــــا لا تَنبُشوا بَينَنا ما كان مدفــــــونــــا
مَهلًا بَني عمِّنا عن نَحتِ أثلَتِنا سيروا رُوَيدًا كما كُنتم تَسيرونا
لا تَطْمعوا أن تُهينونا وَنُكرِمَكُم وأن نَكُــفَّ الأذى عَنكم وتُـــؤذونــــا
اللّهُ يَـــعلَـــمُ أنّا لا نُحبُّكُــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ولا نَلــــــــــــــــــــومكُـــم ألّا تُـــحِبُّــــــــــــــــــــونـــــــــــا
كُلٌّ له نِيَّةٌ في بُغضِ صـــــاحبـــــــه بِنِعمَةِ اللّه نَقليــــــكــــم وَ تَقلــــــــــــــــــونـــــا
نعم، لا تطمعوا أن تهينونا و نكرمكم، ولا تطمعوا في وفائنا و أنتم تسيؤون إلينا، لهذا لا يَخرُج كثيرٌ من الشباب إلى الانتخاب، ولهذا خفَت في قلوبهم وَهجُ الخدمةِ الوطنية، ولم يعُد يعني لهم الاحتفال بذكر ى الثورة، أو ذكرى الاستقلال أشياءَ كثيرة، ولهذا أيضا، لم يَعُد يعنيهم كثيرا معرفةُ تاريخ هذا الوطن، لأنّهم لا يجدون ما يستحقُّ الوفاء وقد جُرِّبت وعود المسؤولين فكانت كذبا في أغلبها، ولا يزال الشابّ يحلم بأن يحيا حياة كريمة في وطنه.والله يعلم أنّا لا نُحبُّكم لِما تحترفون مِن فساد، ولأنّكم أثبتُّم غير ما مرَّة أنّا لا نعني لكم شيئا، فلماذا نُعطيكم احترامنا؟ كلٌّ له نيّةٌ في بغض صاحبه، ولكنّنا نلومكم ألّا تُحبُّونا، لأنّنا أبناءٌ بلدٍ حرٍّ يستحقُّ رعاةً أفضل منكم، ونلومكم أنّكم بهذا القدر تكرهوننا، وأنتم تُديرون شؤونَنا. عبد العزيز حامدي
التعليقات
هم لا يكرهوننا لأنهم ببساطة لا يروننا من الأساس , هم فقط يرون السلطة و المال و يدهسون على كل شيء في طريقهم إليها .
مقال جميل و بداية موفقة .