لغة الضّادْ عصيّةٌ على الأضدادْ
لغة الضّاد سيّدة المتْن و الإسنادْ
نشر في 07 يونيو 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
لغة الضّاد سيّدة المتْن و الإسنادْ
في أول حصّة من الموسم الدراسي الجديد ، وبعد أن تعرّف أستاذ اللغة العربية على أسماء تلامذته الجدد ، وقف قائلا لهم :
- كما تعلمون وبحول الله،سوف تجتازونهذه السنة امتحان ( الباكالوريا) ، فكلّ أملي أن يكون النجاح حليفكم بشرط أن يكون الاجتهاد سبيلكم .. وعليه وقبل أن نشرع رسميّا في استقراء البرنامج الدراسي لهذه السنة ، أريد أن أطرح عليكم السؤال التّالي :
- أنتم كطلاب للعلم عموما، وباختياركم الاتجاه الأدبي خصوصا ، ما هي بعض الأسرار الاستثنائية التي ربّماأثارت انتباهكم حول اللغة العربية ، كلغة فريدة ومتفرّدة عن باقي لغات العالم ؟
رفع التلميذ (علي) أصبعه وأجاب بالتّالي :
- حقّا يا أستاذ ،إنها لغة فريدة ومتفرّدة ، ومن الاستثناءات الغريبة في لغة الضاد هي خروج (أل) للتعريف عن وظيفتها الموكولة إليها في بعض الأحيان، حيث إنّ القاعدة تقول : كلّما اقترنتْ (أل) بكلمة ما ، إلاّ وأصبحت هذه الكلمة معرّفة ، لكن والعكس صحيح لا يقع إلاّ مع ثلاث كلمات على سبيل الحصر ،حيث إذا دخلت (أل) عليها أصبحتْ نكرة وإذا تجرّدتْ عنها أصبحتْ معرّفة ، مثال ذلك .. كلمة ( أمس) ، فمثلاً إذا قلت : جاء صديقي عندنا أمساً فهنا كلمة أمس أصبحتْ معرّفة تحديداً بالزمن القريب ... بينما إذا قلت : جاء صديقي عندنا بالأمس فهنا الكلمة أصبحتْ نكرة ، حيث لا نعرف على وجه التحديد أي أمس هو بيت القصيد، فربّما يكون ليومين أو ثلاثة أيّام قد خلتْ .. أمّا باقي الكلمات فأترك لزملائي فرصة البحث والتنقيب عليها لكلّ ما هو مفيد .
التلميذ (ياسر) وقف بدوره ليجيب :
- ربما من الاستثناءات الفريدة في اللغة العربيةوالتي لا توجد إطلاقا في أيّ لغة أخرى ، هي وجود كلمة سحريّة تحمل معنيين متناقضين في نفس الوقت ، وهي كلمة ( الإقلاع) ، فمثلا تقول : كان إقلاع الطائرة مساءا .... فهنا الإقلاع مرتبط بالتحرك والحركة ، بيمنا إذا قلت : كان إقلاع سعاد عن التدخين مساءاً ... نجد هنا الإقلاع مرتبط بالتوقف والانقطاع ، وبين الحركة والتوقف تناقض كبير و شاسع ينصهران حصرا في هذه الكلمة .. و هذا يستحيل إطلاقا أن تجده في أي لغة أخرى .
أمّا (رقيّة) فكان جوابها كالتّالي :
-ما أثار انتباهي صراحة ً ، هو وجود بعض الحروف في اللّغة العربيّة بمجرّد انتسابها إلى كلمة ما ، إلا وتعطي مفهوماً واحداً رغم تنوّع مدلول تلك الكلمة تحديداً ، ومثال ذلك : عندما يلتقي حرف (ج) مع حرف (ن) يكون المفهوم الغالب والمهيمن تقريباً هو شيء يتعلّق بظواهر خفيّة أو بالأحرى كلّ شيء لا يمكن استيعابه بالرؤية المجرّدة، فمثلا:( الجنّة) ،(جهنّم) ، ( الجن) ، ( سِجّين) ، ( الجنين) ، (الجَنان أي العقل ) ( المنْجم ) ،( التّنجيم ) ،(الجناية حيث لا يمكن التأكد من حقيقتها إلا بعد اكتشاف الركن المادّي والمعنوي للجريمة ) و هذا لا يعني أن ليس هناك كلمات قليلة تخرج عن هذا السياق مثل (المنجل ) ، (المنجنيق)،( الجنازة) إلخ ...لكن هناك حرفان آخران يشكلان قاعدة مطلقة في المفهوم الواحد لخمسة عشر كلمة موجودة في اللّغة العربيّة ،للجواب عن هذه المعلومة أترك كما قال المتحدث السابق ، فرصة ً لزملائي كي يبحثوا وينقبوا لكلّ غاية مفيدة .
أمّا التلميذ (علاء) فكان جوابه بما يلي :
- اللّغة العربية بالنسبة إليّ ، لا أعتبرها لغة عادية وفق مفهوم الشموليّة فحسب ، بل أعتبرها ظاهرة من ظواهر سنن الكون وهذا ما أثار انتباهي في كونها تحمل أسراراً استثنائيّة ، تجعلها متميّزة عن باقي لغة العالم ، وكمثال على ذلك ، نجد كثيراً من الكلمات في القرآن باعتباره وعاءاً نسقيّاً مقدّساً لهذه اللّغة ، أقول ورغم مرور أربعة عشر قرناً نجد كثيراً من الكلمات أخذت طابع التّبيّؤ مرحليّاً دون أن تفقد مدلولها اللّغوي ، فمثلاً عند مطلع سورة الطور نجد الآية تقول: ( وكتابٍ مسطور،في رقّ ٍمنشور ) فكلمة رقّ هنا حسب مدلولها ساعة نزول الآية ، كانت تعني (جلد الماعز) أو (جلد العجل) بعد تجفيفه و ذهنه يصبح صالحا للكتابة عليه، إلاّ أنه ورغم تقدّم الأزمنة بل و حتّى في عصرنا هذا فكلمة (رقّ) لمْ تفقد مدلولها الوظيفي بل اكتستْ مدلولاً علميّا و وظيفيّاً آخر غير ( جلد الماعز أو جلد العجل ) ألا وهو مصطلح ( الرقاقة ) حيث بواسطة هذه الوسيلة التقنيّة الصغيرة ، يمكن مثلاً اختزال و نشر القرآن كلّه مَتْناً وشرحاً .
أمّا التلميذة (حسناء) ففجرّت مفاجأة من العيار الثقيل وهي تقول:
- لقد أثار انتباهي في القرآن (فعلا) إعجازيّا يتكوّن ويتركّب من فعلين في نفس الوقت .. والغريب أنّ أحدها لا يشبه الآخر ..فاسمعوا جيّداً إلى قوله سبحانه : ( فأجاءها المخاض ) هنا نحن أمام فعل له فعلان : الأول يحمل معنى المفاجأة والثاني يحمل معنى المجيء .. أيْ فاجأها المخاض بمجيئه إليها .. ولربط المعنييْن قال سبحانه :
(فأجاءها المخاض إلى جدع النّخلة) وهذا يستحيل أن تجده في أيّ لغة على الإطلاق.
الأستاذ يعقّب قائلا ً :
- بارك الله فيكم و نكتفي بهذا القدر ، وكما قال عليه الصلاة والسلام:
( لن ينقطع الخير عن أمة محمد ) ، فأنتم وأمثالكم من الشباب في العالم العربي ، هم إن شاء الله حماة لهذه اللّغة ، فمهما تشدّق المتشدّقون ، ومهما تكالب المستشرقون ، ومهما تلوّن المنافقون ،فهذه اللّغة في جعبتها عنصر المناعة ، وفي أحشائها عنصر الممانعة ، فما دامت العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين فالغلبة لها قطعاً ... حصراً وحتماً و الله غالب على أمره .
بقلم : ذ تاج نورالدين .
-
تاج .. نورالدين .محام سابق- دراسات في الفلسفة والأدب - متفرغ الآن في التأليف والكتابة .- محنك في التحليل النفسي- متمرس في التحليل السياسي- عصامي حتى النخاع- من مؤلفاته :( ترى من هذا الحكيم ؟ )- ( من وحي القوافي ) في ستة أبواب وهو تحت الطبع .- ( علم ...