حرية الصيام و الحق في عدم الصيام
من أجل الإنسان
نشر في 12 يونيو 2017 وآخر تعديل بتاريخ 09 نونبر 2022 .
في كل سنة و بعد حلول شهر رمضان ، يتجدد الجدل حول طبيعة طقس الصيام في المجتمعات الإسلامية ، بكل ما يحبل به من ممارسات طائشة إجرامية و عنيفة ، و كذلك من ممارسات تنم عن مبادئ سامية كالتكافل و التراحم ، دون أن نغفل تسجيل ملاحظة إقبال غزير على دور العبادة ، إذ يسجل ارتفاع ملحوظ في نسبة الوافدين لسوق التدين . ذلك ما يجعل مجموعة من المفكرين و الباحثين ينخرطون في نقاشات ذات صلة بظواهر تبرز بشكل مكثف خلال شهر رمضان الفضيل ، لعل من بين أبرز هذه النقاشات هو ما يتصل بالجانب الحقوقي "للأفراد الغير مسلمين" و طبيعة مسلكياتهم و حدود حريتهم و رغباتهم خلال هذا الشهر ، بالقياس إلى حقوق المسلمين و حرية تدينهم في المجتمعات العربية و الإسلامية .
تصادف الدهشة أي ملاحظ لمدى التداخل في نسق التدين و ما يعتمل داخل مسلكياته عند فقط المسلمين في شهر رمضان ما يثير الكثير من الإشكاليات ، بحيث تسجل معظم الدول الإسلامية إرتفاع ملحوظ في نسبة مستوى الجريمة خلال هذا الشهر ، تصل هذه النسبة في الجزائر إلى 20% من ناحية الجرائم العائلية ، كما ترتفع نسبة النزاعات و الاعتداءات و المشاجرات إلى 32% (مركز تواصل للدراسات) . يقترب من هذه النسبة معدل الجريمة في مصر الذي يرتفع في شهر رمضان إلى ما بين 20% إلي 30% (وفق دراسة صادرة عن المركز القومي المصري للبحوث الجنائية و الإجتماعية) ، كما يشهد المغرب ارتفاع في نفس الظاهرة وخلال نفس الشهر (ليست هناك أرقام مظبوطة الموقف فقط من خلال تقدير الكاتب) ، نفس الشيء في تركيا إذ سجلت التقارير الأمنية 68 حالة قتل في الأيام العشرة الأولى من الشهر المبارك سنة 2014 ليقفز معدل الجريمة اليومي من 3 إلى 7 جرائم يوميا (حسب وكالة “جيهان” التركية للأنباء أو مجلة العربي العدد 9621، ص12) . كل هذا الإحتقان يتفجر على شكل عنف له دواعي و أسباب متنوعة يحتاج إلى تبصر أكاديمي و مقاربة علمية من أجل فهمه و تجاوزه حلا . هذا أحد الظواهر السلبية التي تتفثق خلال هذه الأيام المقدسة .
لعل من بين الظواهر الجانبية الأخرى لهذا الشهر أيضا ، والتي يجب تسليط الضوء عليها بدافع إنساني -قبل كل شيء- ثم بمسوغ حقوقي ثانيا ، يتعلق الأمر بظاهرة "التضييق على حريات غير المسلمين" خلال رمضان ، إذ يعاني المسيحيين و اللادينيين و الملاحدة شتى أنواع الظلم خلال هذه الأيام ، ذلك عبر تحديد لحرياتهم الدينية و هضم لحقوقهم الإنسانية و تسييج لرغباتم المسلكية ، خصوصا رغبتهم في عدم الصيام و الأكل بشكل علني و في الفضاء العام ، إذ تُمنح حرية الصيام و تُمنع الرغبة في عدم الصيام عن غير المسلمين ، ما يجعل هذه الفئة تتوسل عدة أساليب من الإختفاء و التواري خلف الأستار و الجدران من أجل ممارسة حق إنساني طبيعي و تحقيق ضرورة للحياة و هي الأكل . شيء مضحك و مبكي فمناقشة مثل هذه الموضوعات في القرن الواحد و العشرين تعكس المستوى المتدني و المتخلف لوضعنا الحضاري ، خصوصا في سياق عالمي يتميز باتفاقيات دولية تتعلق بحقوق الإنسان و توصيات تدعوا إلى صيانة حريته و على رأسها حرية التدين و عدم إكراه الإنسان على أي تصرف يحمل دلالات رمزية و روحانية مثل الفعل التديني ، غير أن كل ذلك يضرب عنه صفح و يذبل في مجتمعاتنا ، فتتفتح مقابله كل القيم و التصرفات الرعناء اتجاه الآخر المختلف .
ما يزيد في الطنبور نغمة و في الشطرنج بغلا هو صياغة فصول في قوانين هذه الدول تمنع الأكل نهار أيام رمضان ، خصوصا في الفضاء العام و الشارع العمومي ، إذ تنص المادة 222 من القانون الجنائي المغربي على أن كل من وجد يتغدى و يأكل في مكان عمومي نهار يوم رمضان دون عذر شرعي أو طبي ، يعاقب بالسجن مدة قد تصل إلى 6 أشهر و غرامة مالية لا تقل عن 1200 درهم ، نفس الشيء تتضمنه المادة 274 من القانون الأردني التي تنص عن حبس مفطري رمضان مدة شهر ، كما و تغريمهم 15 دينار ، في نفس السياق و صوب نفس التوجه أقرت وزارة الداخلية السعودية بيان حول عقوبة انتهاك حرمة رمضان وهي السجن والجلد ، أما في الكويت فوفقا للقانون رقم 44 من قانون هذا البلد فإن المجاهرة بالافطار أو إجبار أو التحريض أو المساعدة على تلك المجاهرة في مكان عام يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون بغرامة لا تتجاوز مائة دينار و بالحبس مدة لا تتجاوز شهرا ، و ذلك مسير و حال قوانين معظم الدول المسلمة .
إذ تسن هذه الدول مثل هذه القوانين السالبة لحريات الأفراد بذريعة عدم السقوط في احتقان طائفي أو صراع ديني أو أعمال عنف بين مختلف أتباع الديانات في الوسط المادي للمجتمع و هو الشارع العام ، ما يجعل المنع آلية لتفادي هذه اللامعيارية أو الأنومي باللغة السوسيولوجية ، غير أنه ظل ما كانت العميان تهدي كما يُقال ، فكما عرضنا قبلا فإن نِسب العنف و معدلات الجريمة على العكس تتزايد بشكل ملحوظ و تتفشى بشكل فاحش في المجتمعات الإسلامية أثناء شهر الصيام ، ما يوضح أن ما كانت ترمي إليه قوانين المنع من أهداف سقطت و لم تتحقق ، ما يجعل علة وجود هذه القوانين في ظل هذه الظروف فاقدة لكل اعتبار ، و لا تجسد سوى مصادرة فاحشة لحق المختلفين عقديا و تدينيا و ثقافيا .
يمكن أن نَنقُض صياغة مثل هذه القوانين بالنسبة للمشرع العربي الوضعي من زاوية إسلامية حتى ، فمعلوم أن الله شرع في القرآن الكريم عدة عقوبات زجرية في حق المخالفين و المجرمين ، في إيطار ما يسمى "بالحدود الإسلامية" ، بحيث تقطع يد السارق و يرجم الزاني المحصن (المتزوج-ة) ، و تقطع أيدي و أرجل المحارب من خلاف (حد الحرابة) ، كما يقتل من قتل شخصا آخر (حد القصاص) ، لكن وسط كل هذه العقوبات الإسلامية لا نجد "حد الإفطار في رمضان" ، فالله تعالى لم يؤمر بعقاب أو الإعتداء على المفطر في رمضان لا سرا و لا علنا في الفضاء العام ، كما أن النبي محمد لم يُعلم عنه في أثر أنه عاقب مفطرا أو نَكل به في تاريخ الإسلام الكلاسيكي . لذلك بأي سند شرعي تُسن هذه القوانين المجحفة المفرغة إنسانيا و دينيا و حقوقيا و مساواةً ، و عليه فإن مغزى هذه القوانين يمكن أن يُبحث عنه في سقع آخر من أسقاع الدولة إذ ممكن أن تكون له غاية سياسية لفائدة من يحكم ، فبما أن معظم الشعوب المسلمة تطلق على الحاكم لفظ "ولي الأمر أو أمير المؤمنين" حامي حمى الملة و الدين ، إذ إذا لم يحافظ على الشعائر الإسلامية دون ما يناقضها فلن يبقى حامي للملة و الدين ، و بذلك تسقط عنه الإمارة و الولاية على الشعب فيفقد سلطته ، لذلك فنسق السلطة في هذه الدول يجد سنده في الدين ، ما يجعلنا نرجح أن سبب صياغة مثل هذه القوانين يَعود و تَنميه أسس و أهداف سياسية .
لذلك فمن النافل القول بأن مثل هذه القوانين لا تساعد على على بناء منظومة أخلاقية تتأسس على التسامح و تقبل الآخر ، بل تحرض بطريقة غير مباشرة على العنف من حيث رغبتها في محاربته ، بدافع ديني و بمبرر قانوني ، كما تسهل نوعية هذه القوانين نحث ثقافة مجتمعية تنظر للآخر المختلف على أنه "مجرم" من زاوية قانونية ، كما تصوره على أنه "كافر" من الجانب الديني ، و بالتالي جائز لعنه و الطعن في شرفه و عقيدته و التنقيص من قيمته ، ما يملك لهذه الفئة المستهدفة "هوية سلبية" تجردهم من أهليتهم و تعمل على استبعادهم و إقصائهم عن ساحة السجال الإجتماعي . بل و تمنعهم من أثمن مكتسب يميز الإنسان و هو "الحرية" ، حرية ضمير و عقيدة و تعبير و تدين ، و هو ما لا يدفع باتجاه التعايش المنشود أيضا .
يجب أن نقر بأن أمة دون وازع أخلاقي و إنساني لا يمكن إلا أن تكون أمة متخلفة و غير مؤهلة للتحضر و بناء حضارة كما يتطلع لذلك المسلمون اليوم ، غير أن ذلك بعيد المآل في هذه الظروف ، هنا أستعير حالة المجتمعات الغربية التي تتمتع بمعدلات عالية من العدالة الإجتماعية و مستوى راقي من ناحية تحصيل الحقوق و امتلاك الحريات و شيء أساسي و هو معدلات منخفضة من الجرائم عكس كارثتنا العربية ، غير أن كل هذا لم يسقط من السماء بل ثم تخليقه من طرف الإنسان الغربي ، لتوضيح هذا الرأي نُذَكر بموقف مفكر و عالم إجتماع ألماني كبير بحث أسباب بناء و تطور الحضارة الغربية الأوربية و هو "نوربرت إلياس Norbert Elias" ، بحيث أعزى هذا الرجل تقدم الحضارة الغربية إلى تقدم في "نسق الفعل الأخلاقي" الأوربي ، ذلك في كتابه "عملية التحضر Civilising Process" و هو من أحسن مئة كتاب في علم الإجتماع ، إذ كما هو معلوم من التاريخ الأوربي كانت الكثير من الحروب الدينية و السياسية ، و مسلكيات لاإنسانية بشعة و انطباعات مجحفة و عنصرية اتجاه الآخر الغير أوربي ، ما جعل شعوب هذه القارة تعيش في تناحر دائم و في مستوى متخلف ، إلا أن كل ذلك خفة قبضته جراء عدة أحداث و محطات كان لها أثر تقدمي على نسق فعل الإنسان الأوربي بشكل يطبعه حس إنساني مرموق ، و هو ما ساعد على عدم تكفير الكاتوليك للبروتستانت مثلا ، و فتح جسر التواصل مع باقي الديانات و الثقافات ، كل ذلك وفر مناخ من الإستقرار ساعد على التفرغ للبحث الفكري و العلمي و الفلسفي و الإبتكاري بدل التكفير و التصارع ، بحيث أدى هذا الوضع إلى تراكم مشى بخطوات متسارعة نحو بناء حضارة لا زالت مشرقة إلى اليوم .
بناءا على هذا التحليل السوسيوتاريخي يمكن أن نفهم عائق من أهم عوائق التحضر في مجتمعاتنا العربية ، و هو عدم ارتقاء و تطور سلوكياتنا الأخلاقية ، لعل منع الآخر من الأكل في رمضان يؤكد عدم بنائنا لثقافة التسامح ، التي تتأسس على "الإعتراف" بحق الآخر في أن يوجد و يسلك و يعتقد و يعبر وفق ما يريد و يرتئي . كما أشدد هنا إلى أن التسامح لا يكون عبارة عن صدقة على الآخر بحيت يكون المُتسَامِح في وضع قوة و المُتسَامَح في موقع ضعف ، فيتصدق عليه بأن يسمح له بالتصرف كما يشاء ، بل يجب أن يقوم التسامح على "الإعتراف" بحق الآخر في كل ما يريد حتى يكون كلى المُتسَامَح و المُتسَامِح في كفة متوازنة رغم أنهم مختلفين ، وهنا تبرز قيمة المساواة التي تتحقق معها العدالة الإجتماعية ، و هو ما تناقضه كليا قوانين المنع العربية التي تؤدي إلى جرائم و احتقان و عنصرية تؤدي بدورها إلى الفوضى و النزاع ، عكس قوانين الحرية الغربية التي تضمن حد أدنى من الإعتراف و التسامح و الإيخاء ما يعقبه مناخ من الإستقرار و السلم .
أخيرا بين المنع و التحريم أجد نفسي منتصرا للحرية ، على أن حصاد القول يفضي بنا إلى إستنكار سلوكات العنف و الحط من قيمة الآخر المختلف ، و شجب قوانين المنع التي تذكي الصراع و تنفخ في النظرة العنصرية اتجاه المختلفين ، كما ندعوا إلى التغيير و الإصلاح ، تغيير منظومة قانون من أجل إصلاح نسق قيم و أخلاق ، بغية تحقيق بيئة صالحة للتعايش تفوح منها نسائم التسامح و المساواة و العدل .