و تأبى سنة 2017 أن تمر في هدوء , فما إن بدأ شهر ديسمبر إلا و أخذت الأحداث تتصاعد بشكل كبير فيما يخص فلسطين ففي اليوم السادس من الشهر أعلن ترامب القدس عاصمة للإحتلال الصهيوني , و بعد ذلك بيومين جاءت الذكرى الثلاثون للإنتفاضة الفلسطينية الأولى التي أُطلق عليها ( إنتفاضة الحجارة ) , و في التاسع عشر من الشهر ذاته ألقت قوات الإحتلال القبض على الفتاة الفلسطينية عهد التميمي ذات الستة عشر عاماً صغيرة السن كبيرة المقام في مواجهة الإحتلال الصهيوني .
هذه الأحداث المتتالية أثارت في نفسي شجوناً كثيرة , ففلسطين بالنسبة لجيلي ( مواليد الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي ) ليست مجرد قضية بل هي صديقة طفولتنا , فقد تفتّحت أعيننا على الحياة و الإنتفاضة الأولى في أوجها و بعد ذلك جاءت إتفاقية أوسلو المشئومة حتى تضع حداً لتلك الإنتفاضة بشكلٍ مؤقتٍ , إلى أن ثارت الإنتفاضة مرة أخرى مع مطلع الألفية الثالثة و إنتهت أيضاً بإتفاقية مشئومة أخرى و هي إتفاقية شرم الشيخ عام 2005 .
مشهد ( 1 )
" يا فلسطين يا فلسطين إحنا معاكي ليوم الدين "
هكذا كان هتافنا في المرحلة الإبتدائية عندما ثارت الإنتفاضة الثانية , كنا نخرج في مظاهرات يومية في المدرسة خلال فترة الراحة بين الحصص الدراسية التي نسميها في مصر ( الفُسحة ) , حاملين باليد اليمنى الأعلام الفلسطينية البسيطة التي رسمناها على أوراق دفاترنا و وضعنا طرفها في أقلامنا الخشبية كأنه ساري العلم , و حاملين باليد اليسرى أوراقاً أخرى رسمنا عليها ذلك العلم الأزرق البغيض رمز الإحتلال لنقوم بتمزيقها و إلقائها في الأرض .
مازلت أذكر تفاصيل تلك المظاهرات كأنها كانت بالأمس , الهتافات , الأعلام . زملاءنا الذين كنّا نحملهم على أعناقنا حتى يقودوا الهتاف , إندفاعنا من الفصول حتى نتجمّع في فناء المدرسة أو كما نسميه في مصر ( حُوش المدرسة ) .
ما زلت أذكر يوم إستشهاد الشيخ أحمد ياسين – مؤسس حركة حماس – في عام 2004 , حينها قام زميلي – سعد - بكتابة قصيدة رثاء له و لصقها على باب الفصل مع صورة الشيخ .
مشهد ( 2 )
" غَزّة ... عِزّة "
هكذا كان هتاف زملائي في هندسة عين شمس في إحدى مظاهرات عام 2011 التي خرجت في الأساس للتنديد بالممارسات القمعية للمجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير , ثم تحوّل الهتاف فجأة لغِزّة , و كأن هذه الجموع لم تنسِ قضيتها المركزية – فلسطين – وسط كل ما كانت تمر به مصر حينها من إضطرابات و قلاقل – مستمرة حتى الآن للأسف - .
" من شبّ على شيء شاب عليه "
طلبة الجامعة هؤلاء الذين هتفوا لغزّة عام 2011 هم نفس أطفال المرحلة الإبتدائية الذين هتفوا لفلسطين قبلها بعشرة أعوام , لقد نشأنا على حب فلسطين و كان الفن يغرس فينا حينها حب فلسطين من خلال العديد من الأغاني مثل ( القدس هترجع لنا ) و ( مريم ) , لذلك فإني لا أخشى على جيلي لأنه شبّ على حب فلسطين من صغره و من شبّ على شيء شاب عليه .
لكن أخشى ما أخشاه هو ما يبثّه الإعلام الآن من سموم لتشويه القضية الفلسطينية مثل ( الفلسطينيون باعوا أرضهم ) و ( القدس هي شأن داخلي لا علاقة لنا به ) و ( لقد قدّمنا لفلسطين الكثير و حان الوقت لنلتفت لأنفسنا ) , هذه السموم التي تتكرّر على مسامع أطفالنا ينبغي علينا أن نحمي أطفالنا منها , أن نزرع حب فلسطين داخلهم , أن نحكي لهم حقيقة الأرض التي تم إغتصابها عام 48 , أن نخبرهم أنه لا شيء يسمّى حدود67 و أن القدس واحدة ليست شرقيّة و غربيّة , أن فلسطين التاريخية من البحر المتوسط إلى نهر الأردن , و من رأس الناقورة شرقاً حتى أم الرشراش غرباً , و كما قال أحد الحكماء ( أحيوا الحق بكثرة ذكره ) , و فلسطين هي نعم الحق الذي ينبغي أن نحييه .
ما هي ذكريات طفولتكم مع فلسطين ؟
-
عمرو يسريمهندس مصري يهتم بقراءة التاريخ وسِيَر القدماء. أرى أن تغيير الحاضر، والانطلاق نحو المستقبل يبدأ من فهم الماضي.
التعليقات
...
البيت مظلم عدا ضوء التلفاز و ظل طويل يجلسُ منحنياً بعينين حمراوتين انهكهما العمل و التفكير...
كنت افرك عيني و أتطلع الى التلفاز فلا أرى سوا شريط الاخبار الذي يمر و الفيديو المصور لفلسطين و القدس و الاحتلال
ينظر أبي لي بشفقة. يعرف انني لن اتركه
و يعرف انه لا يستطيع ان يخفي ضعفه أمامي...
تساءله الطفلة البريئة سؤالاً ...
ما بك يا أبي؟
و كان أبي يراني صديقة روحه فلا يمكن لأبي ان يجلس مع أمي ليلاً فيتسامران بشأن قضية كهذه، غالباً كانت أمي لتبدأ بـ " رص طلبات المنزل و العيال و اللي راح و اللي جه و القسية اللي في الحياة.."...
كان صدر أبي يضيق و كنت أنا متسعه...
حتى تصورت تلك الطفلة ان اباها هو محمد الدره و انها ذلك الطفل المختبئ في احضانه
لازالت تتذكر تلك القشعريرة التي سرت بجسدها..
و قالت لعلني اكون هي و لعل أبي هو الشهيد!!
تصورت انها ستكبر لتحرر القدس و تصلي في المسجد الاقصى...
لكنها كبرت و كلما كبرت كبر الخذلان معها و لم يبقَ فيها سوى أحاديث ابيها المسائية عن القدس و عن الاحتلال و عن الثورة و عن وصاياه و عن نظرته للحياة..."
لقد أثرت نوستالجيا الشعور و الذكريات...
اعجبني اسلوبك كثيرا في ترتيبك لأفكار المقال ، حيث بدأت بتاريخ فلسطين وذكراها ، ثم انتقلت إلى ذكر قصة من طفولتكم ثم ثم ذكرت فلسطين في شبابكم ... الخ
وكأننا امام فيلم يروي سيرة تاريخية ...
بخصوص ذكرياتي مع فلسطين ،
اذكر حين قتل محمد الدرة ، تأثرت به كثيرا لدرجة حين رأيت صورته في الجريدة قمت بقص صورته لأصطحبها معي ويرونها زميلاتي ...
ابنة المغرب لم تهجرني ابدا القضية ولن تفعل
ويحزنني فعلا أن الاجيال القادمة سيتم حرمانها من وعيها بالهوية الفلسطينية... ضحية للاعلام المنتج لايديولوجيات القذارة...
مقال رائع وموضوع أروع
في كفي قصفة زيتون ...وعلى كتفي نعشي،فحملت الجزائر نعشها واستعدت و انتظرت كبلدان المغرب جميعا ،وصاروا يرددون ،يا الدولة واش تديري بينا ادونا لفلسطين نحاربوا الصهاينة،غرس فينا حب فلسطين الاب والام والمعلم و الشارع،في كتبنا المدرسية كانت قصيدة فلسطين داري ،نحفظها والا نعاقب،شاعرنا مفدي زكريا ،رددها بصوته ،لا تنسوا فلسطين وهو يلقي شعره ونسيت البيت تحديدا ،لم نكن نخرج في المظاهرات وتمنع تماما الا من اجل فلسطين ،يسمح بها،وعند مشاهدتي لفيديوهات عهد تسمرت بناتي امامي ورغم انني لا احب ان اظهر دموعي امامهن الا انها انهمرت وانا اراها تجري وراء السيارة العسكرية التي اخذت فيها امها،اطفال الجزائر يعشقون فلسطين ،لان كل الاسر تحبها بالوراثة،لن يستطيع احد محو ذاكرة شعب ،وهذا ما دفع الحكومة ان تمشي على نفس الوتر ،انها مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،سيفشل من يحاول طمس القضية ،لا احد يستطيع محو القرآن ،ولذلك سينقلب السحر على الساحر،وهذا ما حدث ،لقد التهبت القضية الفلسطينية في البلدان الغربية فمابالك ببلاد المسلمين،هي نعمة مغلفة برداء خسة من خانوا ،ولا نامل شيئا منهم فمن لم تحركه الصور التي تحيي الاموات ،فلن تحييه انتفاضة امة ،وسيحلها الله ،توكلنا عليه ،فنعم النصير،سررت جدا بقراءتي لكلماتك،دمت مبدعا،في انتظار كتاباتك.
.
.
بالمناسبة ، أعجبتني صورة المقال كثيرا .