هذه دراسة سياسية للدكتورة العلامة: هبة رؤوف عزت. تتحدث عن مسار الفوضى الذي يحفزه كثير من القوى الإسلامية والمدنية في بلادنا بعد الثورات العربية، وقد تحسسه العلامة محمد دراز في تعليقه على حادث المنشية عام 1954، هذا تعليقه ثم يليه نص دراسة الدكتورة هبة
علق الدكتور محمد دراز على حادث المنشية عام 1954 الذي أطلق فيه النار على الرئيس جمال عبد الناصر واتهم فيه جماعة الاخوان المسلمين علق عليه الشيخ ببيان ومما قال فيه عن الحدود الإسلامية:" من ذا الذي يتولى حفظ هذه الحدود، ومنع هذا الشذوذ والشرود؟ أكل من نبتت في خياله فكرة أن فلانًا بغى أو ظلم، خُول في الإسلام حق الحكم عليه، ثم خول له تنفيذ ما حكم به؟! يا لها من قضية شنعاء، وجهالة جهلاء أنرجع كفارا يضرب بعضنا رقاب بعض عن غير هدى ولا بينة، أليست تلك هي الفوضى التي أنقذنا الإسلام منها؟ أفنعود إليها باسمه، ونلصق دنسها بثوبه، بل نجعلها عضوًا من جسمه".
نص الدراسة:
ما بعد الدولة وما قبل القرون الوسطى: عن الحداثة والنظام والفوضى (*)
(1)
ما بعد الدولة
في عام 1987 نشر د.بهجت قرني دراسة في مجلة المستقبل العربي حملت عنوانا لافتاً هو "وافدة، متغربة، ولكنها باقية: تناقضات الدولة العربية القطرية" ذهب فيه إلى أن الدراسة النظامية للدولة العربية لا تزال دراسة ناشئة، وأن الاتجاهات السائدة كانت إما دراسة القيادة والسيكولوجيا السياسية، أو دراسة الدين (والأيديولوجيا). ولأن الهيمنة الاستعمارية قد كيفت النشوء التاريخي للأقطار العربية فإن اقتراب الاقتصاد السياسي والعامل الخارجي لا بد أن يُضاف للبحث والدراسة. تشديد القومية العربية كما يرى كان محاولة علمانية لمماشاة الأنماط الأروبية في التنظيم السياسي، والتناقض الذي استمر بين شعارات الشعب العربي الواحد وتكريس القطرية عكس تناقضا بين الجذور المحلية وبين الثقافة السياسية النخبوية المستوردة التي تشدد على القطرية نموذجا.
وقد خلصت دراسته بعد استعراض التحديات الداخلية والنزاعات الحدودية إلى أن مرور العقود خلق أوضاعا جديدة غمست الدولة القطرية في الشكل القطري المستورد لكن محتواها يأخذ صيغة محلية بصورة متزايدة.الخلاصة التي قدمها البحث هي أن رسوخ الدولة القطرية العربية حصل بسبب غياب البديل، وأن أهم الثغرات في إيديولوجيا القومية العربية هو إهمال البحث في تنظيم الدولة العربية المرغوب فيه.وتساءل هل سيكون الأصوليون الإسلاميون في وضع أفضل ويقدموا البديل؟ وأنهى بترك هذا السؤال مفتوحا.
وعطفا على كون الدولة العربية مستوردة يحدثنا بالتفصيل برتران بادي في كتابه "الدولة المستوردة:غربنة النصاب السياسي" المنشور عام 1992 فالبنية مستوردة والإطار القطري القومي مستورد والجدل السياسي نفسه مستورد.لا يعد هذا الوضع الذي يحمل كل هذه التناقضات إلا بأزمات متكررة وفوضى يحاول هيكل السلطة المهيمن في الخارج التحكم فيها ويحاول هيكل السلطة العاجز في الداخل توظيفها..وكذلك تفعل قوى المعارضة. لا أحد يبحث في ظل هذا الوضع عن انتصار، فقط البقاء.
وكان من أبرز الجهود البحثية في تلك الفترة مشروع استشراف مستقبل العالم العربي لمركز دراسات الوحدة العربية الذي نشر تقريره في 1988 م وذهب إلى أن هناك أربعة جدليات تحكم الواقع العربي (دولة ومجتمعاً) : جدلية التوحد والتفتت، جدلية الداخل والخارج، جدلية التقاليد الكبرى والتقاليد الصغرى، وجدلية الروحانيات والماديات.
لكن هل نتج عما سبق أن الدولة ضعفت وانهارت؟ سعى نزيه أيوبي – متبنيا نفس اقتراب الاقتصاد السياسي الذي اختاره بهجت قرني- لتفسير استمرار الدولة بتحليل أبعد من مجرد غياب البديل الايديولوجي الصالح عمليا، ففي كتابه "تصخيم الدولة العربية" (الصادر في طبعته الانجليزية 1996) يرى أن هذه الدولة الباقية رغم غربتها والمستمرة رغم عجزها عن تحقيق وظائف الدولة المنوطة بها من اندماج قومي وتنمية وحفاظ على الأمن وترشيد الأداء المؤسسي وغيرها لن يكون بالتالي بوسعها بناء شرعية إنجاز والبديل سيكون الاعتماد على الثروة في نموذج الاقتصاد الريعي والاعتماد على الهيمنة بالقوة المسلحة في نماذج أخرى، وهو يميز بين الدولة القوية التي تمتلك نجاحات ورؤية، والدولة الصلبة التي تعتمد التغلغل البيروقراطي أو الغطاء الايديولوجي، والدولة الضارية التي تحكم بالاستبداد لتغطي على الاخفاق، ويرى عبد الإله بلقزيز أن استخدام العنف والقهر لا يعكس إلا هشاشة الدولة القطرية التي تعاني من غربة منذ النشأة وضعف التمثيل المجتمعي فضلا عن هشاشة المجتمع نفسه، لكنه يضيف بعداً هاما للتحليل هو "ضعف فكرة الدولة في المخيال العام"، فلا هي نشأت بأثمان من النزاع ثم بناء التوافق كما في الحالة الأوروبية، ولا هي صاغت حضورها في الوعي الجمعي بإنجاز يرفع نوعية الحياة ويحفظ الكرامة، لذا بقيت العلاقة في موقع "المجتمع القوي والدولة الضعيفة" كما وصفها جويل ميجدال 1988 ولم تنتقل للتصور الأحدث الذي طوره 2001 الذي يصف فيه الدولة باعتبارها كيان يمتزج بالمجتمع ولا يقف منعزلا عنه أو في مواجهته، فضلا عن أن تنزلق إلى وضع النظام القوي والدولة الضعيفة كما أوضح سامر سليمان، والذي درس إدارة الأزمة المالية في عهد مبارك، ويصلح إطاره للتطوير في ظل تغير الفاعلين على الساحة السياسية بعد 25 يناير 2011.
في سياق هذا النظر في مأزق الدولة العربية لا يملك الباحث إلا أن يعيد قراءة صامويل هنتنجتون مجددا في كتابه "النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة" 1968 متذكرا حديثه عن التصدع السياسي، والفجوة السياسية التي تنشأ عن تسارع عمليات التحديث على المستوى الاجتماعي وتراجعها على المستوى السياسي وهو ما يؤدي لتنامي العنف، والأهم تذكّر مقولته الافتتاحية في كتابه المرجعي هذا عن أن التمييز السياسي الأهم بين البلدان لا يتعلق بشكل الحكومة بل بدرجة القدرة على الحكم.
بعد كل هذه الأعوام منذ كتابة بهجت قرني لبحثه، ما زالت أزمة الدولة مستمرة على مستوى الاندماج وبناء الشرعية، وعلاقتها بالمجتمع، والعدالة الاجتماعية ، لكن تبقى أزمة الدولة مرتكزة على غياب التمايز بين السلطة والدولة والارتباك المستمر بين التاريخ والحاضر وازدوجية التصورات السياسية بين الحداثي والاسلامي وغموض رؤية كلا منهما لحقيقه الإشكاليات المتعلقة بنموذجه وتصوراته، واستمرار الأطراف المختلفة في استخدام الدولة كمفهوم سجالي بالأساس.
(2)
ما بعد الدولة
في عام 1979 أدرك كليم صديقي الباحث السياسي الهندي أن أزمة الدولة ليست أزمة بنية قوة بل هي أزمة مفهوم، وأن العلوم السياسية التي يتم بأدواتها المنهاجية والبحثية فهم الواقع تحجب عن العقل إدراك أزمات تلك الدولة وغربتها عن العالم الإسلامي، ولم يتم أخذ ما يقوله بجدية بالطبع نتيجة خلفيته الإسلامية وأفكاره الراديكالية، رغم أن ما كتبه كان في جوهر نقده المفاهيمي للدولة القومية وصيغتها متفقا مع أصوات عديدة بدأت تكتب في فلسفة المفهوم مثل جي.بي.نيتل في بحثه الشهير الذي نشره قبله بعشر سنوات، والذي أوضح فيه أن الدولة ليست فقط واقعا سياسيا ولا هي إطار لممارسة السلطة والحكم بل هي بالأساس متغير مفاهيمي له سلطة على التفكير، وهي ذات الفكرة التي استخدمها بينيدكت أندرسون في كتابه الشهير عن القومية باعتبارها "فكرة متخيلة عن الجماعة" تتجاوز الجماعات الأصلية والعضوية التي ينتمي لها الإنسان ، وهي الفكرة التي أدى مأزقها العملي إلى صعود توجع التعددية الثقافية لاحقا.
كليم صديقي أيضا كان له كتاب صغير عن "التوحيد والتفسخ" ترجم للعربية 1985 في ذات الوقت الذي كانت جماعة العلوم السياسية في المشرق العربي تناقش أزمة الدولة العربية وجدلية التوحد والانقسام، وبرغم أن الرؤية الاستقطابية التي قدمها كليم صديقي للمنظومة الدولة بين التوحيد الذي تنطلق منه رؤية الإسلام معرفيا وما أسماه الكفر إشارة للهيمنة والاستكبار، ومع اختلاف المصطلحات وتمايزها، لكن جوهر الموضوع الواقعي والفكري كان واحدا. كان علينا أن ننتظر سنوات طويلة قبل أن يبدأ الحديث عن صيغ متعددة للحداثة، وأنظمة دولية وليس نظاما واحدا كما أعلن كيسنجر 2014 كي يمكن مناقشة تلك الأفكار التي بدت تحمل سمات الغلو والمبالغة في حينها. كيسنجر يحدثنا اليوم عن مأزق الدولة القطرية على نسق وستفاليا، تلك الدولة التي نشأت في سياقها وظرفها الخاص ثم فرضت نموذجها السياسي بالاستعمار، ويقرر أنها في أزمة،ورغم أن الأزمة كانت ظاهرة عبر العقود لكن المفهوم كان له سطوته على المخيال السياسي قبل الواقع الوطني والدولي.
هذه "القومية المنهاجية" التي حكمت الخيال السياسي لجماعة العلوم السياسية في العالم أجمع على مدى أكثر من قرن كامل منذ تأسيس العلم بصورته الحداثية في الجامعات في مطلع القرن العشرين ليستقل عن القانون والفلسفة والاقتصاد ما زالت مهيمنة، ورغم سيل الكتابات عن العولمة وتحولات السيادة وظهور الفاعلين غير الدولتيين فقد بقيت تلك "موضوعات" و"ظواهر" في حين بقيت الدولة القطرية القومية وحدة التفكير وأداة الحسم في الواقع.
هابرماس أحد أبرز من انشغلوا بالدفاع عن مشروع الحداثة حتى وإن بدا صوته نقديا وقادما من خلفية نقدية مثل مدرسة فرانكفورت،
فقد رأى هابرماس منذ 1998 أن الدولة الليبرالية الغربية تعيش راهنا أزمة غير مسبوقة منذ تشكلها تكمن في الانفصام القائم بين مكونها القومي (تماهي الدولة والأمة) ومكونها السياسي الإجرائي (مبدأ المواطنة الشاملة)، فكتب عما بعد القومية، وسأل:هل العلاقة تلازمية بين الهوية القومية للدولة الليبرالية الحديثة وهويتها الديمقراطية؟ وإذا كان نموذج الدولة - الأمة قد انحسر راهناً مع الوحدة الاقليمية والعولمة وأصبح معرَّضاً للاختفاء فهل ستنهار معه المنظومة الديمقراطية التي تشكلت في سياجه؟
ومن منطلق مشروع التنوير الحداثي قرر هابرماس تأسيس الرابطة السياسية على جوهر التعاقد السياسي وهو الدستورفليس ثمة علاقة ضرورية في نظره بين الوعي القومي والمسلك الديمقراطي في الحكم حتى لو كان من الصحيح تاريخيا أن العامل القومي شكّل قوة دفع ممهدة للنظام التعاقدي الديمقراطي، فالمعيار الأساس للديمقراطية ليس هو انغراسها في هوية قومية، وإنما انبناؤها على أساس التعاقد الحر بين أفراد ينظمون حياتهم الجماعية على قواعد إجرائية تضمن العدل فيما بينهم. وإذا كان هذا النموذج قد ارتبط تاريخيا بشكل الدولة القومية، فانه اليوم يسير في اتجاه مبدأ (المواطنة الدستورية) التي تنسجم مع فكرة الشراكة الكونية العابرة للحدود السياسية الوطنية، سواء عبر الفضاءات الإقليمية المندمجة (كالاتحاد الأوروبي) أو المجالات التكاملية الدولية التي يجب أن تحوّل إلى سياقات تضبطها قواعد وأخلاقيات الإنسانية.
وانطلق هابرماس في تصوره من المقاييس المنهجية للعقلانية التي بلورها في نظريته حول "الفعل التواصلي" كنشاط تحكمه فاعلية حوارية اجتماعية تتخذ شكل عقلنة مفتوحة وأخلاقية نقاش اعتبرها هابرماس الأساس المعياري للديمقراطية، وهو ما يتشابه مع اطروحة جون رولز.
كل هذه الكتابات كانت كفيلة بأن تدفع للبحث في مستقبل الدولة العربية، ولو وضعناها جنبا إلى جنب كان يمكن أن نتوقع أن الدولة العربية ما بعد القومية والقطرية قد لا تنفتح على الوحدة الإقليمية التي كان وضاحا أنها تعثرت تماما ولا على العالمية التي ظلت مصدرا للهيمنة لا أفقاً للنهضة، لكن على الأرجح ستتجه للانقسام وتحقق نبؤة هانتنجتون بشأن الفجوة السياسية وتسقط فيما يسميه كيسنجر "تهاوي النظام"، أو العنف والفوضى.
وبعيدا عن حالة العراق التي اختلطت فيها العوامل وعلى رأسها تحول النظام إلى دولة محاربة ثم سقوطه بعد الحصار والغزو الأمريكي، كان الربيع العربي بحراكه السلمي فرصة لانقاذ الوضع في بلدان عربية أخرى بدون السقوط في تلك الهاوية، ويرى الباحث المغربي سلمان بونعمان أنه كان فرصة للاتصال الثوري بنموذج الأمة بعيدا عن استلاب الإرث الستعماري لصورة الدولة التي تنزع للتسيد، كانت انتفاضة الشعوب فرصة تاريخية للأنظمة قبل الناس لتطوير آليات للترويض، لكن مأزق غياب التصور البديل لإدارة السياسية الذي أثاره بهجت قرني ظل مستمرا، وليس هذا مجال الدخول في تقييم أداء الحركات الإسلامية وعلاقتها بالدولة لكنها بالتأكيد لم تقدم بديلا استراتيجيا ويمكن مراجعة إشكالها النظري بالتفصيل في بحث سابق مطول.
(3)
عودة القرون الوسطى
حين كتب زيجموند باومان عن الحداثة والهولوكوست كان أهم نتيجة وصل لها أن ما حدث لليهود في ظل النازي لم يكن شأنا يهوديا ولا نازيا، بل كان شأنا حداثيا، فجاء كتابه في جوهره وصفا دقيقا لما تقوم به الحداثة من تشييء للإنسان وهيمنة على المجتمع وخلق مسافات اجتماعية وسحب للمسئولية الأخلاقية وبسط للهيمنة، أو ما يمكننا اليوم تسميته الانتقال من السيادة..للإبادة. ولا يمكن للمراقب لمشهد العالم العربي أن يفهم ما يجري من تفكك وفقدان الدولة القومية لسيطرتها في مساحات واسعة دون أن يفهم أن التناقض الذي تحدث عنه برتران بادي في الدولة المستوردة وأيضا في كتابه الدولتان لم يمكن أن يستمر ما بقيت الأطراف المختلفة متجاهلة لجذر الأزمة. أكد بهجت قرني أن الدولة القُطرية باقية، وعجزت القوى الفكرية والسياسية عن صياغة رؤية متفق عليها لدولة بديلة وغرتها نزاعاتها ومضى كل فريق يبحث عن انتصارا لحزبه، حتى رفع تنظيما مسلحا شعارا بالغ الصلة بهذا النقاش حول أن الدولة القُطرية "باقية"، فشعار ما يسمى الدولة الإسلامية (داعش) هو – للطرافة- ـ"باقية وتتمدد". ويمكن دحض درجة إسلامية تنظيم داعش من وجوه عديدة لكن هذا يحتاج نقاشا مستقلا، لكن اللافت هو أن درجة هشاشة الدولة التي تحدث عنها عبد الإله بلقزيز بلغت حدا يهدد وجود المجتمع ذاته، فالأمر لم يعد سقوط أنظمة بل تحلل الكيان المجتمعي ذاتها.
عنف كعنف القرون الوسطى..هكذا نرى مشهد اليوم، وأطراف هذا العنف يتنافسون في إعطاء المشهد هذه السمة، سواء كان ذلك بسكين التنظيمات التي تريد سحب البساط من تحت الدولة وقلبها، أو باستخدام كل أدوات القتل الحديثة من قبل الأنظمة سعيا لحسم هذه الحرب مهما كانت التكلفة الإنسانية التي يدفع ثمنها ملايين المدنيين.
وليس وصف القرون الوسطى مبالغة أو مجازا لفظيا، بل هو وصف تفسيري، وهو وصف أعمق من مشهد العنف، بل يحجب الإنشغال بالعنف حقيقته وجوهره الذي يمكن أن يفيدنا في التحليل والتفسير ، وما العنف إلا ناتج من نواتج حضور القرون الوسطى في واقعنا على مستويين: الأول مستوى حضور القرون الوسطى في صيغ الاجتماع والتنوع الثقافي واللغوي التي استمرت تحت سطح صيغة الدولة الوافدة مع الاحتلال الغربي والتي قامت على إحكام السيطرة وقمع التنوع والحاضر في العلاقات والتصورات والبنى الشبكات الاجتماعية (خاصة القبيلة وما يشابهها من صيغ محلية للروابط الطبيعية) ، فهناك استمرارية للتاريخ الاجتماعي والثقافي في نسيج المجتمع العربي والذي صادرته الدولة القومية بعد الاستقلال تحت دعاوى بناء الأمة والتكامل والاندماج وبرره الفكر القومي الذي تجاهل مطالب الأقليات العرقية واللغوية بل والدينية أحيانا ليطبق رؤية قومية مصمتة بنكهة اشتراكية تحولت مع التوجه الاقتصادي الليبرالي لشعارات مواطنة بلا مضمون نظري أو واقعي.
لم يخرج المجتمع العربي من كثير من تاريخه ، قرونه الوسطى لم تكن مظلمة وتراثه ارتبط بالدين ونضالاته استلهمت الثقافة المحلية وغربة الدولة عنه قابلها بتسكين الهوية فيما يدفع عنه الغربة والاغتراب. أما الحضور الثاني للقرون الوسطى وهو حضور مستتر فهو حضور القرون الوسطى في بنية الدولة القومية ذاتها بمنطق الجذور الجينية للهيمنة الكامنة في مفهوم السيادة.
كارل سميت في كتابه اللاهوت السياسي يدافع عن السلطة المطلقة لصاحب السيادة، كان بناء جمهورية فايمار وتحقيق الوحدة هو الهاجس، فكان لابد للنظرية السياسية من تزويد الدولة بما يمنحها كامل الهيمنة، حتى على المنظومة القانونية بل على حياة المواطنين.
الجذور المسيحية الكامنة في تصور كارل شميت عن صاحب السيادة الذي لا يُراجع والذي هو فوق القانون ناقشتها هوني بونينج، وبعيدا عن أنها قدمت البديل من وجهة نظر يهودية ترى أن السيادة للشعب وأن اليهودية يمكنها تقديم رؤية أكثر ديمقراطية للسيادة (ليس هذا مجال مناقشة درجة ديمقراطية اليهودية فهذا يمكن دحضه)، لكن الأهم هو ما قدمته من وجوب قبول الإشكال والتناقض في معنى السياسة ذاته والسعي لإدارة ذلك التنازع وليس منح صاحب السيادة سلطة مطلقة فوق القانون بلا مراجعة (مثلما فعلت مثلا نظرية أعمال السيادة).
جيورجيو أجامبين كان أيضاً ممكن نقضوا فكرة كارل شميت في كتاب "حالة الاستثناء" الذي يناقش تشريع غياب القانون تحت مسمى السيادة (والذي كتبه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر)، أما في كتابه الأسبق "الإنسان المقدس" فيرجع للقانون الروماني الذي قد يحكم على شخص بعقوبة تنزع عنه كل حقوقه فيتم استباحة حياته ويمكن لأي أحد قتله لكنه في الوقت ذاته تغدو حياته مقدسة لا يمكن أن يكون جزءا من شعائر تضحية دينية.هيمنة السيادة على الحياة بالقانون تغدو إذا صلب الإشكال السياسي الراهن. القرون الوسطى وما قبلها حاضر إذا في جذور الدولة القومية بصيغ متنوعة كامنة في جينيولوجيا نشأتهاحتى وإن رفعت شعارات الليبرالية العلمانية كما تذكر بوني هونيج، والتي تريد أن تتحدى حالة الاستثناء عند كارل شميت وإطارها الفلسفي بلاهوت سياسي جديد وبديل.
القرون الوسطى الكامنة في تصورات السيادة للدولة القومية يقابلها كما ذكرنا إرث القرون الوسطى الممتد في التفاصيل الاجتماعية والثقافية ، وقد كتب نزار الصياد وآنانيا روي دراسة هامة عن "حداثة القرون الوسطى"، حيث درسا المدينة الحديثة من مدخل المساحة والمكان بحكم تخصصهما في مجال العمارة والتخطيط العمراني، ووجدا أن السيادة في الواقع مشرذمة ومتنازع عليها في مساحات المدن الحديثة وهناك جذور لتقسيمات المدينة في العصور الوسطى ما زالت ممتدة وحاضرة في مدن العولمة ومراكزها الحضرية، وقد قاما بتحديد ثلاث مساحات تتشابه مع مساحات المدن في القرون الوسطى:الأولى هي التجمع السكني المُسوَّر للأغنياء، والثانية مناطق السكن الشعبي/غير الرسمي (التي تسمى خطأً بالعشوائيات)، والثالثة هي الثكنة العسكرية، ووجدا أن كل منها تحمل منظومة للمواطنة والسلطة تختلف عن الأخرى وان تلك المنظومات متنازعة، ولا تخلو أكثرها فقرا وهي العشوائيات الفقيرة من درجة من العنف تتجاور مع درجة من الإدارة اللاسلطوية والديمقراطية المحلية القائمة على صيغ فعالة لإدارة المساحات، فخلف ما يظهر أحيانا من فوضي يوجد نظام، وفي المقابل وراء كل نظام هناك احتمالية لنشأة اللانظام، وغني عن الذكر أن حضور القوات المسلحة للدولة هو الذي يمكنه حسم هذه التنازعات في المساحة والسلطة بقوة السلاح، وهو ما يتنامى بوضوح مع حالة الاستثناء ويحول المدينة إلى مستوى أعلى من العسكرة كما أفاض ستيفين جراهام في كتابه مدن تحت الحصار.
وإذا كان هناك خروج عن الحالة المدنية السلمية من قبل الفاعلين من غير الدولة في المشهد الحداثي ، فإن منافسة الدولة (صاحبة السيادة) الوحشية بالوحشية ومجابهتهت التحدي للقانون بإسقاطه تحت لافتة السيادة لا يجرنا في ظل ما سبق من تعقيد مجتمعي وتاريخي (فضلا عن الاقتصادي المحلي والرأسمالي الدولي) إلا إلى عنف يطيح بالمنطق الحداثي الفلسفي للدولة القومية من حيث العقلانية وسيادة القانون، وهو ما يحتاج تنظيرا جديدا للسياسة من جماعة العلوم السياسية العربية ربما يجب أن يحكمه منطق استنقاذ قيم الإنسانية قبل منطق تناقض النظام/الفوضى الذي ثبت تجاوزه فلسفيا ونظريا وواقعياً.
(4)
ما قبل الدولة..مجددا
عجزت صيغة المواطنة التي قدمتها الحداثة من منظور القومية عن الاستمرار، هذه المواطنة ذات البعد الواحد تمت مراجعتها بعد الحرب العالمية الثانية ليس فقط مع بدء فكرة الحقوق الاجتماعية للمواطنة ودولة الرفاهة، بل استنادا لخبرة اختلاط السيادة بالإبادة التي برزت مع النظم الفاشية والنازية، فكانت تلك بداية مراجعة التصور المصمت للمواطن وشهدت النظرية السياسية عبر ستة عقود أو تزيد تنامي المنحى التعددي في تصورات المواطنة من المواطنة النسوية للمواطنة متعددة الثقافات للمواطنة البيئية للمواطنة العالمية.
وإذا كان على العقل السياسي اليوم أن يبحث عن مخرج من مأزق الدولة القومية ويحافظ على سلامة واستقلال الكيانات السياسية بمعناها الشامل المتجاوز لنظم الحكم، فهل تكون البداية من تقديم صيغة للإدارة السياسية تفلح في تجنب مصير الانهيار الذي أفاض في وصف أسبابه فرانسيس فوكوياما في كتابه الأحدث الذي سار على نهج أستاذه هنتنجتون في دراسة النظم السياسية.
لم يكن مطروحا من قبل عند الاستقلال الحديث عن حقوق الأقليات الثقافية، والتي تتجاوز الطابع الاحتفالي الموسمي للحق في الظهور على الساحة المجتمعية والسياسية، وكان الثمن الذي دفعته المجتمعات العربية فادحا سواء مع البربر أو الأكراد وغيرهم.
قد يبدو سؤال التعددية ترفا فكريا في لحظات الانهيار، وسؤال الحرية خارج السياق في لحظات السعي للبقاء، لكن كما ذهب محمد صفار فإن مهمة المشتغل بالنظرية السياسية ليس الانحياز بل أن ينذر قومه إذا رجعوا إليه لعلهم يحذرون.
لقد نبهنا أرجون آبادوراي لأن الواقع يشهد اليوم قتل على الأيديولوجية وعلى الفكرة، ومن هنا أهمية الدفاع عن التفكير والاجتهاد ضد جغرافية الخوف.
مساحات المدن كتاب مفتوح، ومساحة التاريخ واسعة ولا مفر من مطالعتها، وهذا النص اجتهد أن يوسع آفاق الرؤية ويذكِّر بالمنسي من حقائق تم تجاهلها وقد كانت مكتوبة ومنشورة منذ عقود، وغايته أن يرد الاعتبار لمشروعية نقد الحداثة وإعادة التفكير في الدولة بعيدا عن صراع الإسلاميين والعلمانيين أو تنازع القوى السياسية مع الحكومات.
وإذا كان من مسكوت عنه في هذا السياق لضيق هذه المساحة عما يستحقه من نظر عميق فهو دور الجيوش وكيف أثر الخيال السياسي للعسكريين على السياسة والدولة في العالم العربي على مدار القرن الماضي، وهو موضع البحث ومحل النظر وسيتم تخصيص نص أطول له، ويبقى أفول الدولة القومية ومأزق مشروع الحداثة والحاجة لتقديم تصور للنظام الدولي الفرعي الإسلامي (كما يسميه كيسنجر) ثم للمنظومة العالمية برمتها هو المهمة المستمرة والفريضة الواجبة على الفكر السياسي في تلك اللحظة من تاريخ المنطقة..وتاريخ البشرية.
(*) نشرت هذا الدراسة بمجلة الديمقراطية الصادرة عن مؤسسة الأهرام. العدد رقم 58 بتاريخ 30-3-2015 ، ولقائمة المراجع يرجى العودة لعدد المجلة الورقي.