أنا ونحن
عندما نضرب أكباد الخيال في بيداء الفيزياء نتقاطع مع جزر الدهشة , نمتطي صهوة الجنون , ونرسل عقبان التفكير لتعود بطرائد المستحيل , إنها رحلة صيد للخيال الذي ألهم العظماء , وصاغ نظريات العباقرة , والتي حُرمنا منها إلا شزرا من خيالات باهتة , تتقوقع في ركن في أقصى غرفتك البسيطة , لتحاول اللحاق بعالم من الدهشة التي تداعبك الفيزياء بغبار باهت من سحرها الذي لا ينتهي , والذي لا يمكن أن تلاحقه أفكار البسطاء , خيالات تتجاوز أرضنا البسيطة لتحلق نحو السموات السبع وتخترق الأراضين السبع بما فيها من خلق لله لا ندركه , ربما تجذبنا خيالاتنا نحو المستقبل الذي لا نتصوره , ونحو حيوات لا نهاية لها , في تلك الفضاءات ألا نهائية من الأسرار تكمن تفسيرات بديهية لكل ما حيّر عقولنا اليوم وبالأمس , وربما في الغد القريب , ربما تغدو أعقد الأسرار والتعقيدات علاقات سطحية عابرة لا حيرة فيها , الغرق عبر تلك الخيالات يصاحبه غرق أكبر في ألا معقول , يصاحبه صراع بين قبول هذيان الخيال وبين عقولنا البسيطة , بين أن نأمل بأن خيالاتنا ستكون يوما ما واقعية وبين أن نصدق أننا نهذي لا غير .
هي دعوة خاصة لمن يتحمل هذيان الخيال , لمن يصدق أن للفيزياء (خزعبلات) قد تتحقق ذات يوم , وما أكثر تلك الخزعبلات التي كانت بالأمس القريب كذلك ثم فرضت وجودها بيننا .
في الواقع أن كل نظرية حديثة في الفيزياء لها جانبان , الأول علمي والأخر خيالي , وليس مهما من بدأت ولادته أولا النظرية أم تخيلها , وأكرر أن الخيال في الفيزياء هي قاعدة لأكبر عالم في هذا المجال وهو (آينشتاين) والذي قال أن الخيال أهم من المعرفة , ويمكن لنا أن نخضع الكثير من النظريات الفيزيائية الثورية لرحلة خيالية تكون غرابتها متوازية مع قدرة الشخص في التخيّل , فالسفر عبر الزمن , والانتقال الآني , وتجميد الزمان والمكان عن طريق زمن ومساحة بلانك , ووجود نسخ عنا عبر الأكوان المتوازية , وتحويل الأجسام إلى ذرات أثيرية قابلة للتغلغل عبر الأشياء , واستخراج الماضي بكل واقعه من تلافيف المخ , وغيرها الكثير والكثير من خيالات تسخير الطاقة ونقل المعلومات والتنقل بين الكواكب وعبر الكون , والتواصل مع كائنات أخرى , ومالا يدركه العقل والخيال نفسه أحيانا .
ربما لو استطعنا إخضاع بعض تلك الأفكار لخيالاتنا وانطلقنا نحو سياحة خيالية فيزيائية لن تكفي عشرات الكتب في تناول كل ذلك , هو بحر متلاطم من الأفكار والخيالات والصور الفاتنة والتي لا نهاية لها إلا بوصول الإنسان لمرحلة العجز عن التخيل .
البعض منا بعد أن يقطع شوطا طويلا في حياته تأخذه حينا من اللحظات يسترخي في لحظة ما وينظر خلفه قليلا , والكثير منا يتوقف عند فاصلة زمنية أبت إلا أن تنتصب قائمة بكل تفاصيلها الصغيرة فوق صفحة حياته السابقة , هي فاصلة مرت ذات وقت كضربة سيف قاطعة لم تترك له لحظة تأمل , أو لحظة اختيار , أو ربما هي أقدار لا مفر منها , غاب فيها العقل الواعي , ويسلم القرار للعاطفة حينا أو للحظة عابرة مجردة من العمق والتأني , وأخرين ربما مروا بالكثير من تلك اللحظات الحاسمة وفي كل مرة يسيئون الاختيار , أو هي أيضا أقدار كُتبت عليهم بالرغم من إحساسهم بخطأ ما في ذلك القرار , ولكن لو عادت تلك اللحظات مرة أخرى كما تأخذنا خيالات الفيزياء نحوها , هل سنصحح تلك الخيارات أم نقع فيها مرة أخرى وأخرى وأخرى ؟
هنا تذكرت أحد أفلام الخيال العلمي عن آلة الزمن , وكيف أن البطل فقد زوجته في حادث عربة خيل , ومن شدة بؤسه اخترع آلة الزمن ليعود فينقذها , ولكن في كل مرة يعود تموت هي بطريقة مختلفة , رغم تمكنه من إعادة صياغة الظروف في كل مرة إلا أن الموت كانت له الكلمة الأخيرة دائما , وكما قيل تعددت الأسباب والموت واحد .
والحكمة التي تنبئنا بها تلك الفلسفة في ذلك الفلم , أن العودة لنقطة البداية لن يغير في نهاية الأشياء , ولكن يبقى السؤال قائما , هل يمكن صياغة فلسفة أخرى غير تلك التي عرضها الفلم ؟
ماذا لو أراد المخرج أن يغير مصير الزوجة لتستمر حياة الزوجين بعد ذلك التدخل عبر آلة الزمن ؟
أي أننا لو استطعنا تحقيق فكرة العودة بآلة الزمن لتلك اللحظة الفاصلة بحياتنا والتي تسببت في سلسلة من المآسي لنا عبر مستقبل أيامنا , تلك اللحظة التي قد لا تتجاوز الثواني لتضعنا بين طريقين أحدهما قد يكون مجهولا ولكن الآخر الذي اخترناه ليس إلا سلسلة من المصائب والعثرات والحزن والندم , ألا يمكن أن يكون الطريق الآخر ربما أفضل وأقل كربا من الطريق الذي اخترناه ؟
نعم سيقول البعض هي أقدار كُتبت علينا ومن كُتبت عليه خُطىً مشاها , ولكن ما أسرده هنا هو محض خيال تحمله أكف الفيزياء نحو الفضاء الواسع .
وعبر أروقة أخرى في مدن الخيال , نمشي عبر دروب الأكوان المتوازية , ونقف عند اللحظة القاتلة التي أخطأت أنا في اتخاذها , ولكن أنا الآخر ثم أنا الآخر ثم أنا الآخر , وربما إلى مالا نهاية , أي أن (نحن) غيري قد اتخذوا قرارات مغايرة , فهل أملك القدرة على العودة ذات زمن لأكون غيري وأختار شخص من (نحن) لأختار مصيره الذي اتخذه بشكل مغاير ؟
ترى أي خيال يأخذني نحو حياة قد اتخذت فيها القرار الذي أتمناه اليوم ؟
عالمي ذلك لا حدود له , كل شيء مختلف (الحب , الزواج , الحالة الاقتصادية , الأصدقاء , السكن , الأطفال , العلاقات الاجتماعية , الصحة , وربما اختفاء الكثير من الآثام والأخطاء والقرارات الخاطئة ) .
أعرف ربما يقول البعض ربما ستكون حياة أسوأ , صحيح , ولكن الأفضل وارد أيضا , ومن حقي أن أتخيل الأفضل .
قد يمر البعض منا بأكثر من لحظة قرار مصيري , وقد يفكر بعضنا اليوم بأنه اتخذ قرارا سيئا ذات وقت , البعض مني (نحن) ربما عاش حياة سعيدة ورغيدة , وربما نال أعلى المراتب والمكانة في مجتمعه ذاك , (وبعضي) ربما عاش حياة بؤس وشقاء , وربما مات صغيرا , أو قضى عمره مريضا أو مسجونا , أو مشردا , أو مجنونا .
كم أتمنى أن أجتمع بهم ذات خيال , لنبدأ حكاياتنا من مفترق تلك اللحظة من الاختيار , فأرى أي حياة كنت أتمناها وعاشها غيري من (نحن) .
فقط عندها سأختار ذلك (الأنا) الذي سلك طريق أحلامي معها , فأنظر في تلك العينان التي حفظت ملامحها , وذلك الفم الذي قبلها , وذلك الأنف الذي شمها , وتلك الكفوف التي لمستها , وذلك الجسد الذي هرم معها (كما كنا نحلم سويا) .
-
adelmolehhttp://adelansare6.blogspot.com/