هكذا صرحت أمي !!!

تلك الأيام البائسة التي عجزت فيها عن النهوض بشكل سوي كالعادة وعن تقبيل ابنتي عند عتبة باب بيتي بدل أن تقبلني على فراشي كانت الإنذار الذي أثبت لي أن وجودي مع عائلتي لحظات عابرة ثم تمر...

صدري مخيف المنظر لا يمت للأنوثة بصلة ،تكتلت في يساره معالم أخرى أشبه بالحجر الصلب وأقسى منه بأشواط ،كانت هادئة ساكنة جدا تكبر مني دون أن تصدر أصواتا ...

تراها هابت إزعاجي !!!

إنه لأمر عادي جدا أن أقصد طبيبا مرة واحدة في السنة ، الساعة الوحيدة التي كافحت لأحضى بفراغ فيها لنفسي...

لم أنهمك في سرد حكايتها ، مصمصت شفتاي عن الثرثرة و نطقت بمفردتين "كتلة في صدري" صلبة الملمس كما صلبة الأثر ، صامتة خبيثة تطعم مني دون أن توجعني وكلي أمل أن لا ينتهي بي الجواب بمرض قاتل يحرم أولادي طعم الأم ...

كان الطبيب مواسيا لحالتي أكثر من إنشغاله بمهمته ذاتها وكانت الحيرة تنبت في عروقي وتتعارك في أعصابي ، الورم خبيث أم حميد هذا ما أرجوه بدل مراعاة مشاعر رثة اهترت منذ زمن ...

لا أحد ...

غير صور الأشعة وحدها بإمكانها إخماد حريقي أو جعلي أحترق أكثر ...

قطعت أميالا في عيادات وطني المتأخر في كل حدث من أجل تصوير أشعة واحد أخبرني بتورط خلية مجهرية في نهب ممتلكات صدري وأنها بدأت ترسم سبلها في نخري أسرع مما أتخيل ،وأن الحل الأمثل هو تكديسي في مستشفى مكافحة السرطان وتعبئتي في قائمة المجهزين للإلتحاق بنعشهم بعد فترة وجيزة ...

أنا التي أقسمت على سرير العيادة أن لا علاج لي غير إنتظار خطفة الموت ما صمدت أمام دمعة فلذتي الصغير حين إتخذت مجراها بتدفق من قلبه البريئ الخائف قبل عينيه "لا أستطيع أن أتنفس دون أن أصرخ أمي"...

وعدت قلبي أني سأقفله ولن أراقب رغباته أبدا ولن أستمع للأصوات التي تغريني باليأس من كل جانب،  روحي ملك خالقها لكن جسدي وحضوري ملك أولادي ...

وغرقت في أول رشفة سم أحمر اللون يصبوه في عروقي ثم همت أسترجع كل ما ملأت به بطني وكأن روحي تهتز معها ، أكاد أجزم بقوة أنه أصعب من ألم المخاض وأن كل كلمات اللغة ستسجد له عاجزة عن إنصاف ضرباته ....

وعدت إلى عشي الصغير رفقة زوجي،إلى أجزائي التي إحترقت لأني لم أستطع ضمها وأنا التي انشطرت إلى أنصاف.....

ثم ماذا !!!

تستمر الحكاية هكذا ...

تمضي للأسوء ...

علاج كيماوي ثم إشعاعي ثم استئصال ولا تقدم في الحالة...

أيعقل أن يقطع جسدي بأنيابه الخبيثة متزامنا مع العلاج !!!

نعم يعقل ، في بلدي الموت بعد قرحة معدية بسيطة من البديهيات التي يجب عليك إبتلاعها دون مناقشة فكيف بالسرطان وسقوط شلة عظيمة من الصحاب والأحباب من قائمة حياتك عند عجزك أيضا من المسلمات التي لا تحتاج لإقناع ...

لقد استغرقت أميالا من عمري أمشي حافية على أشواك هذا السقم القاتل دون كتف غير زوجي وأولادي.

صار زوجا بهيئة أم وأب وصاروا أولادا بهيئة آلالات كل منهم يؤدي أعمالا أكبر من عمره وكبروا على الشقا والتعتير والكفاح معي وكبرت وأنا لا أعلم كم دمعة يجب علي أن أذرف لأطرد الغصة العالقة في قلبي... أبكي على ولدي الصغير التائه الذي يشتهي صدرا يضمه بدل ثدي مبتور وعلى بنتاي اللتان حرمتا النوم وهما تتناوبان كحراس السجون ليلا نهارا على رعايتي ثم التفرغ لأنفسهن وعلى زوجي الذي يرتاح في بيته مع امرأة مسكينة عارية الرأس نتفت شعر رأسها بيدها قبل أن تراقب سقوطه ببطئ وعلى صديقاتي اللواتي يرحلن أمام عيني يوما بعد يوم  ....

و عندما يحل الليل ، على سكونه ينام الكل و أنا أتأوه ،أصرخ بداخلي لأن صوتي لا يسمع ، لأن الطبيب يئس من إصلاح حبالي الصوتية ، لأن السرير لم يعد يسند كتفي ،لأن الكلام المنهج الوحيد للتصريح عن ألمي لم يعد بإمكاني إخراجه ...

أتأمل النافذة مليون مرة ، أنتظر ملك الموت برعب ، أنطق بالشهادتين مع كل شهقة مني ، أكره الظلام ، أكره الضيق ....لأنهما نهايتي ...لأنني سأدفن فيهما عما قريب ....

هكذا صرحت أمي ...

وقفت اليوم على رأس قبرها ، حاولت أن أسألها ككل مرة أمازلتي تخشينه  ...

تراها مازالت أمي تخاف...

أم أن الملائكة تحتضنها ...

تسند كتفها الضعيف وتداوي جرح قلبها ، وهي تنظر إلي من بعيد ...

عوضي أحلى من الدنيا وعوضك لقياي عما قريب !!!

السؤال الذي كان يؤرقها عندما تتخطى عتبة باب المستشفى كل مرة متى يأتي دوري في الرحيل؟

الدنيا أقصر مما نتخيل بكثير ..

أجابتها بسرعة غريبة...