يطرق البابَ الشتاءُ وحقائبه مكدسة بالمشاعر والذكريات ، وقرع حذائه وتلاطم أغراضه يوقظ الحب الراقد ويحرك الحنين الراكد ويفوح من ثيابه عبق الأشياء القديمة ، وهذا الدخول المهيب للشتاء يصيبني باحتقان في القلب والتهاب في الشعور وارتجاع للماضي ..
يزورنا الشتاء ضيفًا ثقيلًا بهذا الذي يحمله فيثقل به نفوسنا ، ولأنه يتجول داخلنا فيمسح صورًا تراكم عليها التراب منذ زمن ، ويغسل بأمطاره النافذةَ التي تطل على الجانب المهجور منّا فيصدمنا كم هو مرعب ومخيف !.. يسير في زوايا الروح تسبقه عينه فتتبعها قدماه .. يُقلِّب في كل شيء كان قد سكن وينبش صناديق ودفاتر الذكريات ، وغرف "الكراكيب" في عقولنا التي أغلقناها على ما فيها من تشويش ولم نرتبها يفتحها من جديد ويضيء مصباحها ليقف في فم الباب يتأملها !
ومع أنه يبدو وقورًا وهادئًا إلا أنه يتعمد نكأ جراحي المندملة ، ويذكرني بضبابه ضبابية أيامي ، ويستجدي بأمطاره أمطار عيني إلا أنني أقدَر منه على الكتمان ، ويخنقني بحبل سكونه ، نعم هو السكون الذي يفعل بنا الأفاعيل ، فنحن لا نشعر بالإرهاق والتعب إلا عند السكون ، ولا تتقافز الخواطر أمام عقولنا إلا وقت السكون ، ولا يحلو لنا أن نندم على الماضي ونقلق من المستقبل إلا إذا وضعنا رؤسنا على الوسادة .. علاقة عكسية عجيبة .. فلا يهدأ الزحام حولنا إلا بقدر ما يثور داخلنا ، ولا تخفت الأصوات في آذاننا حتى تفسح للأفكار لتتحدث ، وتنطفئ الأضواء عن أعيننا فنلتفت إلى ما بداخلنا .. ولهذا فالشتاء والليل الأكثر سكونًا والأكثر إثارة للأفكار والأشعار !
يشعرك الشتاء بالوحدة ويغويك لتفقد الأريكة الفارغة جانبك ويهمس في أذنك "أليس كل الأزواج الآن _حتى المتذمر منهم _ أيمن حظًا وأسعد حالًا منك ؟.. وأي رفيق مهما يكن قد كان آنس لك من هذه الوحدة؟" فتتحسس الفراغات التي بين أصابعك متلهيًا !
أو تأوي للفراش فتشعر بالبرد داخلك وخارجك وتفتقد لرفيق وسادة لتهامسه وتلامسه قبل أن تغفو متوسدًا بعضه ، فتصرف هذه الخواطر عنك وتنكمش قليلًا وتترك زفراتك الحارة تدفئك عوضًا عن هذا !
الشتاء جميل إن تحدثنا عن جمال الطبيعة , لكنه مُقِضٌّ موجعٌ لشخص يطوي ذكريات أليمة ، وموحش لمن يحيا وحيدًا ، وبارد يمس القلوب قبل الجلود !
-
عبد الله نجيبخريج أصول الدين - جامعة الأزهر .. طالب ماجستير في الفلسفة الإسلامية - جامعة القاهرة
التعليقات
غالبا البرودة في الجو بتولد حاجة شديدة للدفء في المشاعر.. كما ان طول فترة الليل في الشتاء بيولد نفس المشاعر ، فنجد انفسنا نتفقد البوم ذكرياتنا الآليمة أو الجميلة ، فالشتاء كالرائحة ان شممناها اعادتنا لما هو مخبئ بقلوبنا ......
" دام قلمك "