تداعيات التحصين الفكري على الأمن الاجتماعي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

تداعيات التحصين الفكري على الأمن الاجتماعي

سميرة بيطام

  نشر في 17 أكتوبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

    بات من الواضح للعيان أن التطرف الفكري و الإرهاب و الإلحاد ظواهر ظهرت كالطوفان الكاسح و الإعصار المدمر الذين يزهقان الأرواح و يذلان الكرامة الإنسانية و الأخطر من هذا هو تفكيك النسيج الاجتماعي بعد أن كان متلاحما و متماسكا بمبادئ الشرع و القانون الذي يجسده دستور كل دولة تنص على ضرورة احترام اللغة و الدين كمبادئ قومية للهوية العربية و الإسلامية .

فالتكفير في مظهره متعلق بإنزال أحكام الكفر ، و علينا وجب تعريف الكفر أولا و هو في اللغة نقيض الإيمان و له معان أخرى كجحود النعمة و هي مذكورة في المعاجم إذ يقال : كفر بالله "من باب نصر" يكفر كفرا و كفرانا ، فهو كافر ، و الجمع كفارة ، و كفرة ، كوافر، أنظر :"لسان العرب" مادة (ك ف ر) ،كفا أيضا و هو :كفور ، و الجمع كفر ، و هي كافرة .

قال الراغب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (1/ 435): [ويقال: (كفر فلان) إذا اعتقد الكفر، ويقال ذلك: إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد؛ ولذلك قال تعالى ::

( من كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) سورة النحل ، 106.

والكُفْر شرعًا: إنكار ما علم ضرورةً أنَّه من دين سيدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم كإنكار وجود الصَّانع، ونبوَّته صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة الزِّنا ونحو ذلك] ينظر: "المنثور في القواعد الفقهية" (3/ 84).)

قال الإمام الغزالي في "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص: 156): (كل حكم شرعي يدعيه مدعٍ فإما أن يعرفه بأصل من أصول الشرع من إجماع أو نقل أو بقياس على أصل ، و كذلك 

 كون الشخص كافرًا إما أن يدرك بأصل أو بقياس على ذلك الأصل، والأصل المقطوع به أن كل من كذَّب محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم فهو كافر).

أما الإرهاب فلم يثبت تعريف واضح للظاهرة ، لأنه يتشكل من حمولة ثقافية متعصبة و منغلقة تغذيه بيئة متخلفة و يقويه تعليم سطحي يعتمد على أسلوب التكرار و التلقين ،في ضوء غياب المنطق و الواقع أين تنتج بالتكرار عشوائيات اجتماعية تطفح باليأس و الإحباط و الكراهية و ينمو هذا السلوك و يتوغل فيها التطرف و التكفير و الإلحاد و غيره من الظواهر المناقضة لمبدأي الوسطية و الاعتدال .

و لربما سيشخص هذا المقال الخلل الحاصل في تشخيص قضايا الإرهاب المعاصر عبر آلية التحصين الفكري من حيث توضيح أهدافه و مرتكزاته ووسائله ،مفككا بذلك الخارطة الفكرية للجماعات المتطرفة و بالتالي خلقه لجو من الاستقرار الاجتماعي و التلاحم الفكري في توجه الرؤى نحو بناء الأوطان على عقيدة المعالجات الناجعة بالاستشراف على فضاء البدائل الممكنة من خلال طرح مجموعة من الوصيات التي تحافظ على وتيرة المسار الديمقراطي الحقيقي بالالتفاف حول وسطية التدين و اعتدال الفكر .

أولا : غرس مفاهيم الإيمان في قلوب و عقول الأبناء أولى خطوات التحصين

نحن بحاجة ماسة إلى تربية عميقة لا عقيمة و إصلاح للداخل قبل الخارج و تعهد لحلاوة يمان و لو شابتها بعض التذبذبات في الثبات ، فالعودة الى ميزان الاعتدال سنة مألوفة في زمن الفتن و الشهوات .

فما نحن بحاجة اليه اليوم هو منهج دعوي مستنبط من كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بعيدا عن الحماس المفرط و التمييع المبالغ فيه للقضايا المصيرية كمسلمين ،و بالتالي ضرورة كشف الشبهات و ربط الأمهات لا المختصرات و سوء السؤال عن الحال ، فحال الأمة اليوم مضطرب ،و ينبغي أن نراعي في ذلك أهمية الوقاية من فتن آخر الزمان ، فقد ذكر الذهبي (رحمه الله) في سير أعلام النبلاء أن هناك رجلا يقال له بن الشقاء و كان يعلم الناس القرآن فذهب إلى بلاد الافرنج و ساءت حاله حتى نسي القرآن كله ،بل ترك الإسلام و دخل النصرانية ، و قد قابله بعضهم و كان كبير السن و قد هزل ،ما فعل الله بك ؟ قال : على ما ترى ، و قالوا :أين القرآن الذي حفظته ،قال :نسيته إلا " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" سورة الحجر ،الآية 2، وهذا في الحقيقة من الخطورة بمكان و قد ساقها بعض المؤرخون و لكننا نجد في القرآن إشارات كثيرة إلى أن الإنسان ينتكس و يعود عن طريق الحق و يقبل بالضلال بعد علمه بالحق ،و منه كانت عملية غرس العقيدة الصحيحة في الأجيال الصاعدة إحدى الأولويات المهمة لحفظ الإيمان من الانحراف و ميول العقل نحو الخروج عن فطرة جبل الله بها المسلم خاليا من عيوب الشرك أو التكفير ،على الرغم من وجود أكثرية من يقرؤون و يدرسون و لكن القليل من يعي و يميز و يدرك ، لذلك كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدعو دائما "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " و لنتوقف عند قول سيدنا إبراهيم " و أجنبني و بني أن نعبد الأصنام" سورة إبراهيم الآية 53.

ثانيا : مفهوم التحصين الفكري و آلياته

التحصين اصطلاحا : فيه معنى الحصانة و المناعة و الصيانة و الحماية و الحفاظ و هو من صيغ المبالغة الذي يدل على التكثير و المبالغة ، و التحصين له جوانب عديدة منها :

1-التحصين في القسم الشرعي: و هو تحصين المسلم نفسه بالأذكار الشرعية التي تحميه من أذى الشياطين ،يعني حماية الإنسان مما قد يضر به .

2-التحصين بالقسم الدستوري : من خلال أداء اليمين الدستوري عند انتخاب رئيس دولة كضمانة لتحمل المسؤوليات و آداء الواجبات كما يحدده القانون .

و من خلال استقراء التحصين لغة فهو في معناه أخذ الحيطة و الحذر الفكري و تعزيزه حماية للفكر مما قد يضر به أو يهدد أمنه من حيث الاقتناع و الثبات ، و هو بمثابة صمام الأمان من العوامل الخارجية المعادية للسلم الفكري ،فالأمن الفكري إذن هو النتيجة المتوخاة من التحصين .

و الإسلام كان سباقا في المحافظة عليه من الزيغ و الانحراف ، و نستحضر مقولة الإمام الغزالي رحمه الله : كثر الحث في كتاب الله عز وجل على التدبر و الاعتبار و الفكر هو مفتاح الأنوار و هو شبكة العلوم ، و أكثر الناس عرفوا فضله و رتبه و لكن جهلوا حقيقته و ثمرته و مصدره ،و في كتاب الله عز وجل دلالات على حسن التدبر منها قوله تعالى " إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات و الأرض ، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار " سورة آل عمران الآيتان 190-191.

و قوله أيضا " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " سورة الحشر 20-21.

أما آليات التحصين الفكري في ظل تأثير العولمة فهي كقاعدة أولية نبذ التقليد الأعمى للأفكار الغربية و ما تحمله رياح التغريب من ثقافات لا تمت بصلة لقيمنا و لهويتنا الثابتة ، وضرورة التجرد للحقيقة و الابتعاد عن التعصب للآراء المميعة التي لا تحمل ثقلا ثقافيا غزيرا يعود بالفائدة في تعزيز و دعم وعينا الفكري بما يجول حولنا من حولنا من مؤثرات قد تكون خارجية كما بالإمكان أن تكون داخلية تبث سموم التفرقة و التشتت بأفكار تخدم أجندات خارجية و لا تمت بصلة لاستقرار الأمن الاجتماعي للبلد ، فأعداء الإسلام و المسلمين دائما ما يشنون حربا فكرية تحمل قالبا غزو للأفكار بدل غزو السلاح و هو رداء جديد يرتديه المستعمر الذي يجدد الأساليب و الطرق حتى لا تهنا الدول محل الأطماع إلى الأمن و الاستقرار و هو ما تشهده غالبية دول الشرق الأوسط بسبب الطائفية و الأفكار الإيديولوجية التي تسعى لأن تقود الفكر إلى حيث الانسلاخ من الهوية و الابتعاد عن املاءات الفطرة الحقيقية التي تفرض على المسلم التمسك بقواعد التربية السليمة و دوافع الاستمرارية و الديمومة من خلال الفكر المتزن و النظيف البعيد عن أشكال التطرف و انتهاج صور الإرهاب المختلفة .

كذلك يعتبر الفكر الصحيح المبني على الاستدلال من بين الآليات التي تعتمد على التأمل و التفكر بتجرد ،و هو ما يقود إلى الإيمان بالله و توحيده و الخشية منه ، و من الآيات التي تجسد ذلك قوله تعالى " لآيات لقوم يتفكرون" و كذلك " لآيات لقوم يعقلون " و غيره من الأدلة القرآنية التي تدعونا للنظر في خلق الله تعالى و تبجيل عظيم صنعه و دقة التوازن في سيرورة الكواكب و بث الحياة في موجودات الأرض و السماء .

ثالثا : نتائج التحصين الفكري على الأمن الاجتماعي

قال تعالى "فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا ، انه بما تعملون بصير" سورة هود الآية 112. ، و من الاستقامة ما كان نهيا عن الطغيان و المجاوزة ، و ما كان نهيا عن القصور و التقصير ،و الاستقامة بمعنى عدم الغلو في المبالغة التي تحول الدين من دين يسر إلى دين عسر ،بل التزام الثبات على نهج مستقيم كان لنا في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم القدوة و النموذج و الطريقة الصحيحة للعيش على النحو الذي ارتضاه الله لنا ، و الإفراط و الغلو يبعدان الدين عن طبيعته الحقيقية كالتقصير أو المغالاة ، و هي ميزان صارم لامساك النفوس بثبات على الصراط بلا انحراف ، أو إهمال على السواء ،مصداقا لقوله تعالى "و ألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا" سورة الجن ،الآية 16.

و منه يمكن استخلاص آثار التحصين الفكري على الأمن الاجتماعي و ذلك من خلال ما يتحقق كأهداف من تأصيل الفكر الوسطي و الحفاظ على الالتزام الديني بقواعد العقيدة الصحيحة ، و منه كانت الآثار :

1-الطمأنينة و السكينة .

2-التكافل الاجتماعي و الاستقرار الحياتي باحترام الآراء و حريات الغير .

3-تحقيق سبل التواصل الدائمة بقنوات الحوار الرزينة و الهادفة بعيدا عن لغة الجفاء و القطيعة و خطاب الكراهية الذي سعت إليه دول معادية للإسلام في أن تجعل من خطاب الكراهية شعور بالتهميش في التفاعل الايجابي الدولي و الوطني على السواء بما رسمته قوانين عديدة منها قانون حماية حقوق الإنسان و قانون حرية الرأي و قانون احترام الحريات الفردية الذي جسدته مواد في الدستور الوطني لكل دولة تؤمن أن الفكر المتزن يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي و غلق الأبواب في وجه الإرهاب و زرع الفتنة بين أفراد المجتمع الواحد .

4- تنفيذ الردع إزاء كل انحراف خطير بالفكر المتزن من خلال تطبيق العقوبات و الجزاءات التي تحفظ امن المجتمع و استقراره و تبعده عن مساعي الإيقاع به في الانسلاخ و التميع و التشتت ، إذ يتبين أن مصطلح "التحصين الفكري" في الإسلام هو إحاطة الفكر بسياج منيع لحفظ فكره في مأمن من الزيغ و الانحراف الذين يؤديان إلى الضلال مصداقا لقوله تعالى" و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " سورة الأنعام الآية 153.

و هناك جانب في القرآن يوضح كيف أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا و أحزابا و على المؤمنين الحذر منهم مصداقا لقوله تعالى " إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون" سورة الأنعام الآية 159.

5-تقوية الاعتصام بشرع الله تعالى من خلال رؤية إسلامية تربط أحكام الحياة بالله رباط المصدر و الغاية في قوله تعالى " و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا "سورة آلا عمران الآية 103.

خاتمة :

لعل موضوع التحصين الفكري موضوع مهم و سنستغل الخاتمة من أجل رسم بعض التوصيات الأساسية من اجل تعزيزه منها :

-تدريب و تأهيل العاملين في قطاع التربية و التعليم الديني من أجل تدريبهم على الاستعداد الأمثل لمواجهة ظواهر التطرف و الإرهاب و العنف بكل أنواعه و التي من شانها تهديد امن المجتمع و استقراره .

-تجديد الخطاب الديني بما يتوافق مع تبني مفاهيم الوسطية و الاعتدال من أجل تعزيز التعايش السلمي و التسامح الديني و الفكري .

-ترشيد الفكر الديني من خلال رفع مستوى الخطباء و الأئمة عبر برامج فكرية و ندوات و مؤتمرات علمية من أجل مكافحة مداخل التطرف و منع استخدام المنابر الدينية للترويج السياسي و الشحن الطائفي .

-دعوة الباحثين و المفكرين إلى الاجتهاد في صياغة مصوغات فكرية و آليات عملية تواكب التطور التكنولوجي و التربوي و البيداغوجي من أجل حصر خطر التطرف و عدم السماح له بالتوسع من خلال ترسيخ مفاهيم التمكين و غيرها لصيانة عقول الشباب باعتبارها الفئة الفاعلة لبناء المجتمع و هي الفئة الأكثر استهدافا من أجل بث سموم الانحلال الخلقي و الفكري من أجل إضعاف البنى التحتية لأي أمة .

-مراقبة العمل الإعلامي الذي له الدور الكبير في تشجيع الإرهاب و العنف و التطرف من خلال تمييع الحقيقة و السعي نحو تغليط الرأي العام على درجة الخطر الذي يحاك بالمجتمع بسبب الفتن و زرع بذور الشك و التخويف من المستقبل الذي نجهل معالمه لافتقادنا للرؤيا الموسعة التي من المفروض تحصن فكرنا ضد أي محاولة للجر إلى المهالك .

و في الختام يمكن القول أنه بقدر ضمان التحصين الفكري بقدر ضمان الاستقرار و الأمان الاجتماعي و الديني و الاقتصادي و السياسي .


  • 2

   نشر في 17 أكتوبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا