الثامنة والنصف صباحًا. وقتٌ مبكر لكتابة رسالة وداع.
إنَّ مجرد التفكير في شأنٍ كهذا يضفي على الوداع لونًا كاذبًا. "عليك أن تذهب دون كلمات" - قلتها لنفسي وقد لفني حزنٌ لم أستسغه أبدًا، ومَنْ يهوى الحزن؟ - "ارحلْ فحسب ... لن تكون رسالتك إلا أملًا في ألَّا يكون الوداع وداعًا. تلك هي حقيقة نفسك التي تبحث لها عن عذرٍ أشد منها حماقة"
كلٌ موازين العقل والمنطق تصيح في أذني أنْ لا سبيل البتة لمثل رباطٍ كهذا، فاكسره وعد لحيث أتيت. مِن أينَ أتيتُ؟ وإلامَ أعود؟ إنَّه عالمٌ ساكنٌ رمادي بطيء فظ، وهي! ... هي كل ألوان الربيع الزاهية، كلها بلا استثناء.
برسالة، أو بدونها، يومًا ما، سيكون عليَّ أن أعود لذلك فأجده أسوأ مما كان عليه. سأجدني وقد أمعنت في شيخوختي ككل شيء مِن حولي. أشياؤنا لا تهرم إن نظرنا إليها مع ابتسامة كل فجر وتقضيب جبين كلَّ مساء. إنها توغل في العمر فقط إنْ عدنا إليها بعد حين وقد تغيَّرنا وتغيرتْ، ولو بنفحةِ غبارٍ تعلو سقوف الكتب، أو بعناد قلمٍ أن يكتب وقد جف في جوفه المداد.
مصير كل شيء إلى نهاية ... لا جدل. أودُّ فقط أن أحسم الأمر – الآن – بيدي، لا بيد القدر، أن أبتر ذراعَ الشوق قبل أن أُجبَرَ على مرار كؤوسه فأتجرعها غصبًا كدواءٍ يُربي الداء في الفؤاد ويحي الألم. لا زلت قادرًا على تحمل قسوة الأحداث. أوقن أن الزمن – ذلك الزمن القصير الأحمر الأحمق المتبقي في رصيد عمري – قادرٌ على حسم كل أمور الهوى وأعراضِ الشجن.
وداعًا يا صغيرتي. فليكن الأمر كذلك. هكذا.
سأحتفظ بآخر ابتسامة حرة، مضيئة، بيضاء، ابتسمتها لي، في خلدي، كي لا أراك إلا من خلفها، كي لا أراك في ثوبِ جلَّادٍ يلفه الذنب والقلق والحرج قبل أن يعيد على مسمعي نص الحكم بالإعدام وتتكسر الأقلام.
-
كريم السعيديكاتب عربي
التعليقات
"ارحلْ فحسب ... لن تكون رسالتك إلا أملًا في ألَّا يكون الوداع وداعًا. تلك هي حقيقة نفسك التي تبحث لها عن عذرٍ أشد منها حماقة"