الضفة التي يستحيل العبور إليها ٢ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الضفة التي يستحيل العبور إليها ٢

  نشر في 11 نونبر 2020 .

في الصباح الباكر اتصلتُ بمكتب العمل وأعلمتهم أنني في إجازة لمدة أسبوع قابلة للتمديد. كان ما يزالُ في سريره نائماً عندما انتلعتُ حذائي وخرجتُ كالعادة دون أن أترك خلفي أثراً يتعقبه لموعد لقاءنا القادم.

كنتُ أقودُ في شوارع المدينة التي كانت تحيا بينما كنتُ أموت. توقفتُ عند أحد باعة القهوة المتجوليين طلبتُ فنجان "دوبل اكسبرس"، ثم توجهت إلى أبعد نقطة عن المدينة وخرجتُ لأقف على أحد المنحدرات الجبلية أراقبُ الطيور المهاجرة!

"لقد مات!". عادت تلك الكلمة تتكررُ مراراً في رأسي، بينما كنتُ أحاولُ جاهدةً أن أبتلع دموعي هذه المرة. أغلقتُ هاتفي كي أوقف سيل التعازي التي كانت تصلني بكل دقيقة. شخص ذو حضور اجتماعي مثلي لابد وأن خبراً متعلقاً بي كهذا سيهز الأوساط وسيستغل الكثيرون فرصة تجديد معرفتهم بي والتقرب مني ولفت النظر إليهم عن طريق اتصالات التعزية وارسال الرسائل التي لا تحمل في طياتها سوى مجاملات المصلحة والعمل. 

قد تكلفُ تلك المكالمة أو الرسالة صاحبها دقائق من المواساة. دون أن تشعره بأي حرقة في القلب أو تهز فيه أي شعور بالفقدان.

لقد كنتُ أنتظرُ تلك المكالمة منذ سنوات، لكنني اعتقدتُ أنه سيكون هناك لقاء قبلها. لقاء فيه الكثير من القسوة .. ربما .. لكن على الأقل بعض الاعترافات، الاعتذارات، بعض المبررات حتى لو كانت واهية. لكنه رحل هكذا .. كأنه أراد أن يبقي نفسه معلقاً في ذاكرتي، بكل خطوةٍ سأقومُ بها!

آخر مرة تحدثنا فيها سويةً قلتُ له بأنني أكرههُ وأنني لن أسامحهُ يوماً على كل ما مضى. كان يبكي لكنه كابر على نفسه رغم هذا ولم يجب سوى بكلمة واحدة :"أعلم!".

كان يعلمُ أنني سأفتقده رغم هذا وأنني سأواجه شعوري الفطري برغبتي في بقائه حياً. ليس لسبب بل فقط لأنني لم أكن أريدُ أن يأتي اليوم الذي أسمعُ فيه الخبر وأكون مضطرة للاختباء خلف ثوب الحزن وأن أمثل دور الحداد وأبكي .. لكنني حزنتُ حقاً وبكيت .. ولم أكن مضطرة لتمثيل أي دور يثير الدمع ويقلقُ الوجدان. إذ كان فقط على تلك العبارة أن تقلب موازين قلبي وتضعفني إلى هذا الحد!

عدتُ في المساء إليه. فتح الباب غير مندهش بأنني الضيفة التي تحلُ ليلةً ثانيةً في مضجعه.

"ربما هذا ليس الوقت المناسب لأقول هذا يا ريتا .. لكنني مضطر. إنه لقاء عمل مهم وعلي أن أسافر في صباح الغد!".

رفعتُ رأسي باتجاهه .. حاولتُ أن أبحث عن أي كلمة أقولها سوى "أنا بحاجة إليك". لكنه كان أسرع مني بالرد فقال لي وعلى وجهه تعلو تعابير الأسف ..

"إذا مضت الأمور كما خططتُ لها فلن أعود إلى البلد قبل عدة أعوام! أنا آسف حقاً يا ريتا لكنك تعلمين أننا مهما استمرينا بهذا فإننا لن نكون لبعضنا البعض يوماً .. "..

تنهد ثم تابع ..

" ريتا لا أريدُ أن بدو ذلك الرجل الحقير الخائن. لكن الأمر ليس على ما يبدو عليه، أنا لم ولن أتخلى عنكِ أبداً .. لكن فكري بكل ما جرى يا ريتا .. بكل السنوات التي مضت. رغم كل هذا أنا لم أفقد يوماً شعوري اتجاهك .. لكنني بدأتُ ذات يوماً حياتاً أخرى.".

لم يكن هناك ما يقال حقاً، حاولتُ استجماع نفسي لأقوى على قول أي شيء غير مؤذي، رغم البراكين التي كانت تشتعل بداخلي. إنني أحبه جداً لدرجة أنني لم أستطع أن أجد حباً بعد حبه.

أناني جداً، لكنني سأكون أكثر أنانية منه إن طلبتُ منه أن يتخلى عن عائلته وكل الجهود التي حصدها بعد أن دمره أبي سابقاً. أنا حقاً بحاجة إليه، لكنني بحاجة لأن أتمسك برحيله أكثر منه.

"إذا كان البعدُ خياراً فليكن الرحيلُ قراراً!". قلتُ له ثم ضممته كما لو أنها المرة الأخيرة.

"لقد حصل كل شيء بسرعة .. لم أكن حتى أنتظر عودتك .. ريتا أنا..!". وضعتُ شفتي على شفتيه مقاطعةً كلامه .. مقاطعةً سيل الكلام الذي كان يشتعل بداخلي كالجمر.

. "لا أعرف يا ريتا ..لكن كل ما يجري يرهقني. لقد تعبتُ .. تعبتُ من كوني ألاحق وهماً! لا أريدُ أن أعيد تجربتنا السابقة معاً رغم أنني أحبكِ .. وسأبقى حتى الأبد!".

غادرتُ منزلهُ في ساعات الفجر الأولى، كان يستحم عندما تسللتُ من السرير وخرجتُ دون أن أودعه. كان ذلك الوداع ثقيلاً كفاية على أن أحتمله فوق كل ما يجثم على قلبي من وجع ..

عدتُ إلى منزلي مكسورةً. لأول مرة شعرتُ فيها بذلك الكم الهائل من الضياع. توجهتُ نحو سريري ودخلتُ فيه وأنا أشعرُ بالبرد ينخر عظامي. ورحتُ أحلم بأن كل ما جرى هو مجرد كابوس عندما استيقظ في الغد سيرحل!

وهكذا أمضيتُ ما تبقى من إجازتي في المنزل. حاولتُ جاهدةً أن أكتب. لكن تلك الضربات غيرتني رغماً عني .. عندما استيقظتُ فجأة ووجدتُ نفسي شخصاً مختلفاً عن الذي كنته قبل أن يتوفى أبي ويغادر "غسان" حياتي إلى ما شاء الله!

وأخيراً عدتُ إلى عملي، مكتبي حيثُ وقف الموظفون رتلاً بانتظار قدومي وقام كل بتعزيتي بفقداني بطريقته الخاصة. كان هناك عدد كبير من المغلفات والورود التي غطت الأرض وسطح المكتب.

شعرتُ بذات الإحساس عندما تسلمتُ منصبي لأول مرةٍ، قبل أن أعلم من أحدهم أن المجلة كانت ملكاً لوالدي وأنه من خطط لكل شيء حتى أصل إلى هذا المركز دون أن أشعر بأنه كان يحاول إصلاح ما دمره في الماضي.

ترددتُ كثيراً في البقاء بموقعي عندما علمتُ حقيقة مالك المجلة. لكنني وافقت .. وافقتُ على مضض ليس بسبب تعلقي بعملي وليس حباً فقط بالمنصب الذي كنتُ أطمحُ له طوال عمري وحصلتُ عليه أخيراً .. إنما بسبب الرسالة التي أرسلها إلي عندما حاولتُ الاستقالة من المنصب!

"ابنتي الغالية ريتا!

ربما أكون مخطئاً ومن منا لم يخطئ.

أنا آسف .. أعلمُ أن هذه الكلمة لن تعيد تصحيح الماضي، أنها لن ترد السنين التي كنتُ فيها بعيداً عنكِ، أنها لن تعيد كل الذكريات التي أوجعتك ولم أكن فيها موجوداً لمواساتكِ. لقد اختارني القدر لأكون الأب المتغطرس السافل .. اللعين! لكنني حاولتُ جاهداً أن أرمم جدار المودة الذي انهدم بيننا .. وعندما أبعدتُ ذلك اللعين "غسان" لم يكن لأنني أردتُ أن أكسر قلبك! لكنه لم يكن يستحقكِ يا ريتا .. إنه حتى لم يحاول أي فرصة لكسب المعركة. بل انهزم من الجولة الأولى وتزوج وأنجب ثلاثة أطفال بسرعة قياسية .. سيكذبُ عليكِ إن قال لكِ أنها محاولات للنسيان!

فعندما توفت والدتك كنتِ لا تزالين في أشهرك الأولى .. لقد تمزق قلبي ولم أستطع إدخال امرأة غيرها لحياتي أو قلبي أو أي يكن! ربما رحيلها جعل قلبي يقسو وبالتالي هجرتكِ لسنوات طويلة ولم أكن فيها الأب المثالي ولا حتى العادي .. لكنني نادم!

ريتا .. يا ابنتي .. لقد أودعتُ كل شيء باسمكِ وعاجلاً أم آجلاً ستكوني ورثيتي الشرعية الوحيدة على كل أملاكي. ولم أعهد إليكِ باستلام هذا المنصب حباً أو سلطةً .. بل لأنني ولأولِ مرةٍ ربما اعترفُ فيها أمامكِ .. لأنني مؤمن بموهبتك! وأعرف تمام المعرفة أنك من موقعك هذا ستجدين طريقك إلى النور .. وستكونين اسماً يخلده تاريخ الأدب والصحافة!

كوني بخير!

أبوكِ المخلص!.".

عندما أعدتُ قراءة الرسالة غص حلقي بطعمِ الدمع المر الحارق. وقفتُ على زجاج نافذتي أتأمل المارة والأطفال والنساء اللاتي خرجاً وقت الظهيرة للتسوق .. تلك المرأة التي وقفت مع عربة أطفال تحاولُ مجادلة البائع كي يخفض لها سعر الحقيبة التي كانت تدل عليها بإصرار .. ثم رحلت!

- يتبع-



   نشر في 11 نونبر 2020 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا