أثارت الكثير من الآراء حيرة و دهشة في نفسي حينما ترددت على مسامعي ، ففي كل عام بعد انتهاء ماراثون الثانوية العامة ، يبدأ الطلبة بتحديد وجهتهم المستقبلية واختيار مجال دراسة محدد بين اختيارات عدة ، و البعض يحقق هدفه المنشود منذ مدة طويلة ويلتحق بالكلية التي طالما كان يحلم بها ، والبعض لا يحالفه الحظ حيث يكون للقدر ترتيبات أخرى لا يعرف عنها أحد إلا الله ، فهو حتماً يختار لنا الأفضل الذي لو أطلعنا عليه لاخترناه منذ البداية.
أما ما يثير حفيظتي حقاً هو ما يتداول بين الناس عن التقليل من شأن الطب ، واعتباره مصير سئ وقدر مفعم باللون الأسود حتى تجد ممن تخبرهم بنيتك المسبقة لبدء هذه الدراسة وعزمك على أن تكون طبيباً في المستقبل يتعاملون معك كما لو كنت ستموت بعد يومين من دخولك هذا المجال ، لتجدهم يجهزون لك عزاءَ مهيباً على روحك وشبابك الذي ستضيعه دراسة الطب الطويلة ، وتبدأ الآراء في مناقشة مميزات جميع المجالات الأخرى مع التركيز على إظهار عيوب الطب فقط غافلين عن أي نعم يحظى بها الأطباء في جميع أنحاء العالم، مما يدفع أي شخص للاعتقاد بأن الطب –باختلاف اختصاصاته وعلاقته بصحة الإنسان والحيوان- من أسوء المجالات التي يمكن للمرء الالتحاق بها ، وهذا لا علاقة له بالصحة ، بل إنها خرافات من وحي الخيال ، لأن كل شئ على وجه الأرض يحتوي على قدر من النقص ، فلا يوجد شئ كامل تماماً مثالي لا عيب فيه ، والدليل القاطع على هذا أن جميع الطلبة باختلاف دراستهم يعانون قدراً لا بأس به من التعب والضغوطات بالأخص في فترات الاختبارات النهائية ، إذن فالأمر لا علاقة له بالطب وأن المجهود الكبير شرط لتحقيق النجاح في أي مجال تختاره ! لاسيما حينما يجتمع الشغف بالاجتهاد حينها يتحقق التميز والتفوق ، فنجد الطلبة الطب حباً فيه وتعلقاً به ، ولو عاد الزمن بكل يعتنقون مهنة الطب الآن لاختاروها مرة أخرى رغم كل المعاناة ، الطب قراراً واختيار لا أحد يُجبر عليه .
أتعجب كثيراً ممن يظنون أن هناك مجالات لا تحتاج لدراسة أو مجهود ، وباختيارها سيتوفر لهم الوقت الكافي للراحة والرفاهية وممارسة الهوايات والعيش بالطريقة تحلو لهم ، وهذا أمر من الخيال لأنه كما سبق وذكرنا ، الحياة بأكملها تعب وشقاء فالأمر لا يتعلق بالدراسة أو بمجال بعينه . فلما إذن نلصق جميع الاتهامات ونضعها على عاتق قرار الالتحاق بكلية الطب وكأنه القرار الأسوء الذي اتخذناه بعد قائمة طويلة من القرارات الصائبة ؟ لن أتغاضى عن جميع الظروف السيئة التي يعايشها الأطباء حول العالم – وبالأخص في مصر- ولكن هذا لا يبرر ما يعتقده العالم ويلحقوه دائماً بالأطباء و لن أنكر السلوكيات المشينة التي نراها في المستشفيات يومياً فأنا أعرفها جيداً وأعيشها كل يوم ، ولكن كل هذه الأسباب لا تساوي شيئاً إذا وضعت في كفة ميزان مع " وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جميعا " ، النفس البشرية وسلامتها والعمل على رعايتها سواء بالتعامل مع الإنسان نفسه أو الظروف المحيطة به لضمان حياته ، عمل كهذا ذكره الله وأثنى عليه ووعد العاملين عليه بالثواب الكبير ، لأن نفس واحدة عند الله تساوي حياة الناس جميعاً .
لا أنكر المشقة التي يعانيها الطبيب ويلقاها يومياً ولا أتغافل عن الكميات الكبيرة من الكتب التي ندرسها كل عام ، بل أشكر الله على مثل هذه النعمة أن وضعني في هذا المكان ، لأنك تعامل المرضى كل يوم فتشكر الله مرتين ، مرة على نعمة الصحة التي لا تقدر بمال أو يساويها شئ في الوجود ، ومرة أخرى على نعمة أن جعلك الله سبباً في شفائهم ووضعك في طريق تحقيق الرحمة في الأرض بل إنك شاهدٌ على قدرة الله وعظيم خلقه و روعة الإنسان التي لا يعلمها الكثير من عباده ، شاكرة الله على نعمة البصيرة ومعرفة عظيم مقدرته ..
إننا نتذوق الطب ومرارته ونتألم منها ونشكو كثيراً ، ولكن كل هذا تمحيه كلمات الشكر ودعاء مريض بعد أن شفاه الله على يديك وجعلك سبباً في عودته سالماً لأهله وأسرته ، أو أن يجعلك سبباً لرحمة أم كاد قلبها أن ينفطر على وليدها ، لا يوجد أعظم من أن يبارك الله لك في صحتك ، فأصغر شئ يصيبك تتداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، وأصغر فيروس يجعلنا نسرع لمقابلة الطبيب لإيجاد حل يخفف عنا الألم والأوجاع ، في هذه اللحظات فقط نقدس دراستهم ونشكر الله على وجود طبيب يرعى مرضاه خوفاً من الله وشكراً لنعمه ، الإنسان أضعف ما يكون ، والصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى ، فنعم عملاً أن يرزقك الله نعمة الطب ..
-
نادين عبد الحميدربما لا أتمكن من الكتابة بالشكل الذي أرجوه لكنني على ثقة أن الكتابة تمكنت مني .. فإنني لا أمارسها فعلاً وإنما أتنفسها هواءً هو المعين لي كي أستمر على قيد الحياة ..