هنا حيثما تولد الحياة و أيضًا حيثما يتلاشى الأمل ، هنا تُنقذ الأرواح و كذلك تلفظ أنفاسها الأخيرة ، في مكان واحد تلتقى الحياة بالموت ،يمران بمحاذاة بعضهما في مسارات لا يستطيع أى منهما الخروج عنها ، هنا "مشفى نيلوس" ، المشفى الوحيد الذي خلفته الحرب العالمية ورائها كي يداوي سكان مدينتنا.
لم اكن أجرؤ على المرور بجانب ذلك المكان أو دخوله ، كان هناك دائمًا صوتًا ما يقول لي إن الأمور بالداخل ليست على ما يرام ، ليس فقط لأن الأطباء يبدو عليهم الجفاء و الجمود ولا لأن المرضى عاجزين عن النجاة أو الشفاء مما اصابهم ، ولا لأن من يولد هنا يخرج للحياة مذعورًا و تبدو عليه ملامح الفزع التى من النادر بل من المستحيل أن تجدها مرسومة على وجه أى طفل حديث الولادة ، ولكن قلبي كان يُحذرني من أمور أخطر بكثير من ذلك ، كنت أشعر دومًا بأن هناك من يسيطر على الجميع بالداخل ، من يتحكم في حريتهم و من يصيبهم بالفزع ، لست أدرى ماذا يكون أو من يكون ، و لكنني لا أطمئن أبدًا لذلك المكان!
كانت مدينتنا صغيرة ، تشبه الضواحي في نقاء جوها و صفاء نفوس سكانها ، لم نكن حتى ندرى أن العالم قاسٍ إلى ذلك الحد حتى ادركتنا الحرب العالمية. إن الحروب لعنة إذا حلت ، دامت لسنوات طويلة و لفترات عجاف قد لا تنتهي أبدًا. و أبشع ما في الحروب أنك لا تعرف من هو عدوك و من هو صديقك ، الجميع يرتدي أقنعة زائفة ، و تُدبر المكائد بين كل ثانية و الأخرى ، هذه هى لعنة الحروب ، كل شئ ينقلب رأسًا على عقب.
دمرتنا الحرب ، اُفنيت العديد من المنازل و انتهت حيوات كثيرة لا تعد و لا تحصى ، لم يعد في مديتنا سوى مشفى نيلوس و مدرسة قديمة قد محت أثار الحرب اسمها و الكثير من معالمها ، الجميع يسكن المشفى عدا عدد قليل قرر أن يقيم في تلك المدرسة المهجورة و من بينهم أنا " مِنسا مونتو"
هُدمت المعابد و قُتل الفرعون في الحرب ، لم تعد للمدن حكام أو سلطة مركزية ، لكن جيوش المدن تكاتفت و تحاول التصدى لأعداءنا في صف واحد.
و في ليلة من ليال طيبة الساكنة ، مرضت امرأة عجوز ، واحدة من الذين يسكنون معي في تلك المدرسة ، شككت أن يكون اصابها وباء ما لأننى كنت لا استطيع أن أداويها ، كانت ترتعش و حرارتها كالجمر في توهجه ، لم يكن أمامي سوى أن أذهب بها إلى مشفى نيلوس لإنقاذ حياتها ، بالفعل اقنعت نفسي بأن شكوكي ما هي إلا مجرد أوهام صورها لي عقلي الباطن و استجمعت شجاعتي و اتجهت بها إلى المشفى.
دخلنا من الباب الخلفى للمشفى نظرًا لنيران الحرب المشتعلة عند الجانب الأخر حيث الباب الرئيسي ، كان مشفى نيلوس هو المشفى الأكبر فى المنطقة ، به عدد هائل من الأطباء و الكهنة ، كان متقدمًا و متطورًا عن أى مشفى أخر ، بل كان طفرة فى زمننا رغم إننى لا أطمئن لأى شئ بداخله.
رافقت المرأة العجوز نحو غرفة الرعاية المخصصة، وجدتني اقف بين الأسرة المقتظة بمصابين الحرب و المرضى بشكل عام ، شعرت بفزع المرأة بل كدت التمس ذلك بداخلي أنا أيضًا ، المكان موحش و الكل من حولك يتوجع آلمًا أو يخشى الموت فى صمت مفزع و نظرات مستنجدة!
خرجت من هذه الغرفة بينما كان قلبي ينقبض على نفسه بداخلي ، و وجدتي اقف في منتصف ممر طويل ، لا بداية له و لا نهاية ، هذا واحدًا ضمن مئة ممر داخل المشفى ، نظرت حولي و لم أجد مارًا واحدًا أسئله عن باب الخروج أو السبيل إليه..نظرت نحو السقف و تمنيت أن تظهر لي يا "اينحرت" ، لعلني لا أثق إلا بك الآن ، لعلك تساعد تلك المرأة العجوز و تنقذها..ليتك هنا حتى تدلنى إلى الممر الآمن.
كان اينحرت صديقًا قديمًا لي ، برع في الطب و ترك مدينتنا و سافر للخارج في بعثات طبية دراسية منذ عشر سنوات و أكثر ، سمعت ذات مرة من أحد الكهنة أنه قد صار طبيبًا مشهورًا في قارة أخرى.
اقف وحدى هنا بداخل مشفى نيلوس ، قلبي يشعر بأن الأسوء من الحرب بدمارها و مأساتها قادم ، بدأت النيران التي تُنير مصابيح الممرات تنطفئ واحدة تلو الأخرى و كأن ريح أو هبو يمر بها و يطفئها غصبًا ، لم استطع أن أخطو خطوة واحدة و لم يقدر صوتي أن يصرخ ، تشبثت قدماي بالأرض مكانهما و صرت على يقين بأن ليلتي هذه لن تمر و لن أخرج من مشفى نيلوس!
إنه هنا..أكاد أسمع صوته ، لا استطيع أن أميز اللغة التي يتحدث بها ، لا أعلم هل هذا بشرًا مثلنا أم إنه شيئًا أخر ؟؟!!!
-
ريم ياسرهنا ستجد الحقيقة دون تزيف أو رتوش. An old soul who missed her way to ancient times & stucked in our life