المعتزلة .. حماة أم جناة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

المعتزلة .. حماة أم جناة

  نشر في 02 شتنبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

لعلك تستغرب من العنوان وتتساءل ما هي جناية المعتزلة وماذا فعلوا وهم أصحاب الفكر التنويري في العصور الوسطى, وهم من حاولوا التوفيق والجمع بين الاسلام ونصوصه الشرعية وبين الفلسفة والعقل والمنطق, فما الخطأ في هذا وما هي جنايتهم ؟!

أولاً لابد من تعريف مختصر لجماعة المعتزلة:

المعتزلة فرقة كلامية ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري غلبت عليها النزعة العقلية فاعتمدوا على العقل في تأسيس مذهبهم وقدموه على النقل وقالوا بالفكر قبل السمع وبوجوب معرفة الله بالعقل وكذلك الحسن والقبيح, فالعقل بذلك موجب وآمر وناه .

والمعتزلة بدأت بأفكار بسيطة ثم تطورت لتشكل منظومة من العقائد والأفكار تتعلق بالتوحيد والعدل والقدر وحرية الارادة والعلاقة بين الانسان وخالقه وغير ذلك من أفكار ومبادئ لو تأملتها فستجدها تخدم هدفاً رئيساً واحداً هو عقلنة الدين أو درء تعارض العقل مع النقل وذلك عن طريق الدمج بين قواعد الفلسفة والمنطق وبين النص الشرعي ثم تقديم هذا المنتج وهذا التصور على أنه هو دين الاسلام الذي أنزله الله على خلقه. هذا هو الهدف الرئيس عند المعتزلة وهو اضفاء العقلانية والمنطقية والحكمة على الاسلام وأن الاسلام هو دين الحكمة والعقل لا دين الخرافة والجهل والغاء العقل (وذلك طبعاً من منظورهم وبحسب فهمهم) وبهذا يكون المعتزلة هم أول من أسس منهج الجمع بين طرائق الفلسفة والمنطق وبين نصوص الاسلام وأحكامه ومنهم خرجت بعد ذلك كل المناهج والفرق التي قامت على محاولة الدمج بين الفلسفة والدين والقيام بالتفسير العقلي لعقائد الاسلام وأحكامه عبر التاريخ من أشاعرة وماتريدية وكرامية واسماعيلية وفلاسفة... الخ.

فأبو الحسن الأشعري إمام الأشاعرة الذين هم جمهور فقهاء أهل السنة إنما خرج من عباءة المعتزلة وتأثر بهم وأخذ منهجهم في محاولة اثبات العقائد والرد على المخالف بحجج العقل والمنطق حتى في الرد على المعتزلة أنفسهم فيما خالفوا فيه أهل السنة, وتبعه على ذلك تلامذته وكبار أتباعه من بعده كأبي بكر الباقلاني وأبي سهل الصعلوكي وابن خفيف الشيرازي وابن فورك ثم أتى بعد ذلك إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وتلميذه النجيب أبو حامد الغزالي فوضعوا الأسس والقواعد الكلامية للمذهب الأشعري الذي نعرفه الآن والذي يجمع بين العقل والنقل على أسس المنطق وتأويل النص والرد على الفرق الأخرى المخالفة للمذهب, هذا المنهج الذي أسسته وأنشأته المعتزلة.

فهذا الطريق أول من رسمه ووطئه هم المعتزلة فهم أول من أدخلوا الفلسفة والمنطق في فهم العقائد ومعرفة الأحكام بدلاً من الاكتفاء بالنص المنقول من القرآن وأحاديث الرسول وفتاوى الصحابة والتابعين.

وتبعهم بعد ذلك سائر طوائف المسلمين وزادوا وتوسعوا حتى جعلوه علما مستقلا وهو ما يعرف بعلم الكلام.

وقد عارض هذا المنهج طائفة أهل الحديث والأثر وحجتهم في ذلك أن هذا المنهج يستلزم منه رد بعض نصوص الشرع بزعم مخالفة العقل. وهذا الرد قد يكون برفض النص وانكاره كما فعلت المعتزلة بجملة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كأحاديث القدر والشفاعة ورؤية الله في الآخرة. أو يكون الرد بتأويل النص واخراجه عن ظاهره إلى معنى آخر متكلف ليس هو المعروف أو المتبادر إلى الذهن وليس عليه العمل في صدر الاسلام. فلذلك اشتد نكيرهم على منهج المعتزلة وعارضوه منذ نشأته.

إلى هنا تختلف الآراء ويحتدم النقاش بين مؤيد ومعارض وموافق ومخالف.

لكن ثمة أمر مهم كان له عظيم الأثر في عقول أبناء العالم الاسلامي بسبب الدمج بين الفلسفة وبين النص الديني وتأويله. ففي الوقت الذي يرى جماهير المثقفين المسلمين هذا المنهج الذي يجمع بين العقل والنقل هو الطريق الصحيح لفهم الدين إلا أنه في حقيقة الأمر أضر الدين والعقل معاً. 

أضر الدين بأن أدخل فيه ما ليس منه من تأويلات متكلفة تبعد أن تكون هي مراد الشارع, وأدخل فيه أيضاً جدليات فلسفية عقيمة ليس من ورائها علم نافع ولا عمل صالح ليس إلا الحيرة وكثرة اختلاف الأمة وتفرقها شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون وله يتعصبون وعليه يتقاتلون ويتباغضون. وهذا من أعظم الضرر في الدين والدنيا معاً.

الأمر الثاني وهو بيت القصيد ألا وهو الاضرار بالعقل والعلم, لماذا؟ لأنه أشغل العقل وصرفه عن نشاطه الطبيعي والمطلوب منه ألا وهو التفكر في هذا الكون العظيم والبحث فيه وادراك عظيم قدرة الله وحكمته {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} ثم النظر والبحث في تفاصيل هذا الكون وما فيه من أجرام سماوية وظواهر أرضية وقوانين ومادة قابلة للتطوير والاختراع لنفع البشرية وسعادتها.

فبدلاً من ذلك كله شغلوا العقول المحبة للحكمة الشغوفة بالبحث والمعرفة, شغلوها بالتأويلات والجدليات وتحقيق مسائل الخلاف بين الفرق والمذاهب, فصار العقل المسلم منشغل بالتفكير والتحقيق للأدلة والحجج المنطقية التي يستدل بها على صحة مذهبه ثم استفراغ الجهد العقلي والفكري في الرد على استدلالات مخالفيه ومحاولة ابطالها !

وكم من آلاف العقول في الثقافة الاسلامية انشغلت بالقيل والقال والتحقيق والرد، وأهدروا في ذلك الوقت والجهد وطاقة العقل وذكائه, ثم ماذا بعد ذلك؟ ليس إلا الحيرة والتشتت والاختلاف كما قال الامام الفخر الرازي المتكلم الشهير:

نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ

وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذَى وَوَبَالُ

وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ: قِيلَ وَقَالُوا.

(عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص468)

وقال الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل في كتابه نهاية الإقدام في علم الكلام (ص7):

لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ

فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ.

وقال ابن رشد الفليسوف فِي كِتَابِهِ تَهَافُتِ التَّهَافُتِ (ص376): لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يُعتد به. 

انظر: هؤلاء كبار المنظرين وهذه أقوالهم فما بالك بمن دونهم ؟!

ماذا لو لم يتبن المسلمون هذا المنهج المعتزلي في الانتصار للدين بالفلسفة والمنطق والنقاش العقلي الجدلي؟ ماذا لو ترك المعتزلة ومن وافقهم من علماء الكلام العقل المسلم المفكر يعمل في مجراه الطبيعي ينظر ويبحث في الكون وما فيه فيخترع ويطور ما فيه النفع والمصلحة للانسان والكون؟ ماذا لو اسْتُغلت هذه القدرات العقلية من آلاف المفكرين المسلمين فوضعت في العلوم الطبيعية استكمالاً لمسيرة العلم؟ لكان عندنا المئات من أمثال الحسن بن الهيثم والخوارزمي وابن سينا وغيرهم من علماء الطبيعة.

ماذا لو ترك هؤلاء الفلاسفة الكبار الجدال في الالهيات بما لا طائل من وراءه إلا الظن والوهم, وأفرغوا جُلَّ طاقتهم وقدراتهم العقلية في مزيد من البحث والاكتشاف في العلوم الطبيعية وحثوا الناس على ذلك وأرشدوهم إليه؟ لأقبلت عليهم الأمة ولجعلوهم أئمة ومنارات يهتدى بها ولمات الواحد منهم وقد ترك مكانه العشرات بل المئات من التلاميذ النوابغ لاستكمال مسيرة العلم والبحث. 

وهذا المنهج الفلسفي في تأويل الدين لم يأت بخير. فناهيك عما ذكرت لك من كلمات حيرة وندم لكبار الفلاسفة والمتكلمين, فعلى صعيد آخر لم يهتد الناس بهذا المنهج ولا دخلوا في دين الله أفواجاً ولا انتفع به السواد الأعظم من المسلمين بل ذاقوا منه الويلات. فكم من صراع واضطهاد حصل بين المعتزلة والأشاعرة يستقوي أحدهم على الآخر بكل ما يستطيع من قوة تصل أحياناً إلى السجن والتعذيب والقتل ؟!

وكم من حروب طاحنة حدثت في الأندلس والمغرب العربي بين جيوش الموحدين وهم أشاعرة يقودهم محمد بن تومرت الأشعري أحد تلامذة أبي حامد الغزالي وقد ادعى المهدوية وكان يلقب بالمهدي, وبين القبائل وجيوش دولة المرابطين وهم مالكية لا يعرفون التأويل, فكان الموحدون يكفرون هذه الأمم المسلمة لأنهم لا يعرفون التأويل ويصفونهم بالمشبهة المجسمة الخارجين عن الاعتقاد الصحيح.

فلم يكتف الصراع المذهبي والاختلاف في التأويل بسلب عقول الأمة واشغالها بما لا ينفعها بل سلبها الأفراد والأرواح كذلك !!

لذلك أقول: إن أعظم جناية على المسلمين هي جناية المعتزلة بدمج الفسلفة بالدين. ولو تُرِك الدين وتركت نصوصه كما هي, وكما فهمها المسلمون الأوائل من الصحابة والتابعين من غير دمج بأوهام الفلاسفة وتأويلات المعتزلة لسار العقل المسلم في نشاطه الطبيعي في استكمال مسيرة العلوم التي بدأها المسلمون قبل أوروبا بسبعة قرون أو أكثر. ولعلنا نحن المسلمون لدينا الآن في القرن الحادي والعشرين مستعمرات على كوكب المريخ وأقمار كوكب زحل سابقين في العلم والحضارة جميع أمم الأرض ولا حول ولا قوة إلا بالله العليم الحكيم.

فالحاصل أن المسلمين تضرروا أعظم الضرر من هذا المنهج الذي أحدثته المعتزلة ضرراً بالغاً في دينهم وعقولهم وحضارتهم, ولكان أولى وأرشد الاكتفاء بفهم الدين ونقل نصوصه من غير تأويل ولا اقحام للفلسفة والمنطق. بل يتم الفصل بينهما ليكون العقل في مجراه الطبيعي في تطوير العلوم والأفكار الانسانية, وأما الدين فيكون كما جاء به النبي والمسلمون الأوائل والله عز وجل يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}

وهذا الكلام لا يقال فقط للتاريخ وإنما هو بالأساس رسالة صادقة إلى الدعاة والمثقفين في هذه الأيام ألا ينهجوا هذا المنهج وألا يخطو نفس خطوات من قبلهم. ولا تقول: هذا من باب الغيرة على الدين ونشره والدعوة إليه. ولا من باب احترام العقل أو تنوير الناس. لا تسلكن ذاك الطريق وإن كنت حسن النية والقصد فالله عز وجل يقول (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فالدين الحق قوته في ذاته, وغاية الدين هو هداية الناس إلى معرفة الله وعبادته وفعل ما يحبه ويرضاه. أما اشغال العقول بالخلاف والجدال والتعصب ثم القاء التهم بالتكفير والتبديع من جانب, وبالجهل والتخلف من الجانب الآخر فليس من وراء ذلك نفع لا للدين ولا للفرد ولا للمجتمع.

قل الحق وامض في طريقك ودع الناس تميز بين الحق والباطل فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء. (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)

ولا تكرر أخطاء من سبقك فتبذل الجهد وتشغل العقل وتضيع الوقت ثم لا فائدة بعد ذلك لك أو لأمتك قال الله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} والحمد لله رب العالمين.


  • 3

   نشر في 02 شتنبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

المعتزله هم من قالوا أن القران مخلوق..... رحم الله أحمد بن حنبل والشافعي ناظروهم وانتصرو عليهم
2
Dallash
ومن اقطابهم الجاحظ ومالك بن نويرة

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا