جدي هذا ليس جدي لأبي أو لأمي، إنه جد أولاد عمي مصطفى رفاق مغامراتي في عهد الطفولة الشقية، كان رجلاً أعمى كفيف البصر، لكنه قوي و ماكر البصيرة، تحسبه صحيح النظر بل ذو عيون خلفية أيضاً، يرى ما أمامه و خلفه و ما يُدبَّر له من مكائد في الخفاء، كان يقضي معظم يومه بصحبة السمان الشيخ (حج نجيب) الماكر مثله ، ذلك السمان البقال الشيخ الشيطان الحاج نجيب عدو البنات، و عدونا نحن الصبيان أيضاً، تذهب الواحدة من بنات عمي أو أخواتي للشراء من محله في آخر الحارة، و يكون جدنا موسى جالساً بقربه، تسأله :
- هل يوجد عندك بيض 🥚؟
يجيب الحاج نجيب :
- لم يبقَ عندي سوى اثنتين، و عند جدك موسى مثلها.
تفكر البنت قليلاً ولا تفهم المغزى الخبيث من وراء كلامه، تحسب أن الأربع بيضات الباقية عنده تكفي حاجة طبخة اليوم، فتقول له :
- أعطني إياها سنتدبر أمرنا بها.
يضحك الحاج نجيب الخبيث، و يرد :
- شوفي جدك بالأول إذا بيعطيك بيضاته بعطيك بيضاتي...
عند ذلك تفهم البنت قصده الماكر و يحمرّ وجهها خجلاً، و تقول له :
- عيب عليك، استحِ على شيبتك.
يفرح جدي موسى و يقول لحفيدته الضحية البريئة :
- روحي يا بنتي الله يستر عليك... و يكمل بعد ابتعادها بقليل...سترة العنز (١) و يحميكي في نار 🔥 جهنم!.
....................................................
أما نحن الصبيان فكان يعرفنا واحداً واحداً بالإسم و اللقب، يقول عن حفيده محمد إبن ابنته ( محمد الجهلان) لأنه كان في سن المراهقة، و يقول عن حفيده الآخر إبن ابنه (خلدون الني) لأنه بارد و بليد الحركة، و فلان حفيده الثالث (إبن الضرّاط) لأن أبيه يطلق الغازات من أحشائه بحضوره... و هكذا اكتسب عداوتنا من خلال تلقيبنا بصفات رديئة مخجلة، و بذلك صار محل انتقامنا الدائم، ما إن نلمحه من بعيد حتى نرميه بالحجارة و نهرب، فيشتمنا و يتوعدنا بأقذع العبارات. في إحدى المرات قال لي خالد ابن عمي مصطفى رفيقي في نوبة شجاعة مباغتة، تعال نتسلل من خلف جدي موسى و نخطف عكازه منه و نضربه و نهرب بها، هيا امضِ معي و لا تخَف.
كنت أعرف كم هي موجعة ضربات عكاز جدي موسى، و أخشى الوقوع تحت رحمته و سلاطة لسانه، فقلت لرفيقي خالد الشجاع :
- إذهب أنت و سأرميه بالحجارة في حال أمسكَ بك لأخلصك من بين يديه و سلاحه(عكازه الفتاك) .
ذهب خالد متسللاً بخفة القرد وراء الجد الأعمى موسى، و ما إن اقترب منه و صار خلفه تماماً و كاد يسحب العكاز من يد الجد، استدار الجد كأنه يبصر ما خلفه و شرّع عكازه و هوى به على خالد المسكين، نال منه بعدة ضربات موجعات قبل أن يفلت من بين يديه و ينجو بنفسه من بقية العقاب، سحرتني المفاجأة و أذهلتني و منعتني من الحراك، حتى لحق بي خالد و أمسكني و شدني خلفه و الشتائم البذيئة تلاحقه...
كان معظم أحفاد جدي موسى ينتقمون منه و يدبرون له المقالب الساخنة، و كان لهم بالمرصاد و العقاب الساخن و اللسان السليط البذيئ، عندما يكون في ضيافة أبنائه الإناث أو الذكور، يحتفون به و يقدمون له الشاي مع البصاق، لكنه يعرف ماذا فعلوا و كأنه رآهم، يقلب الكأس و يشتمهم و يسبّهم و أهاليهم، قائلاً :
- بصقت في الكاسة يا عرص؟ لعنه الله عليك و على والديك يا عكروت يا بوشت يا سرسري (٢)...
...................................................
في ضيعتنا قبل انتقال الجد موسى للسكن مع ابنته الأرملة في حلب، اشتهر بحادثة جعلته مضرب المثل في المكر و الدهاء، كان يحب افتعال الوقيعة بين الناس، يفعل الشرور و يتهم الآخرين بارتكابها، كان ذات يوم بصحبة أحدهم يقطعان الطريق في حيارة جدي علي، و لما وصلا الثغرة (٣) في السور لاجتياز الحير، قام بهدمها بمؤخرته دون أن يستعمل يديه، و بعد حين اتهم ذلك المسكين الذي كان بصحبته، و قال لجدي علي :
- فلان ابن علان (الذي كان بصحبته) هدم لك الثغرة الشمالية في الحير يا إبن عمي.
ضحك جدي علي و قال له :
- احلف يمين بالله ما هو أنت اللي هدمها لحتى أصدقك!
- والله العظيم ما مديت ايدي عليها و لا دقرتها بأصبعي.
هذه المرة كان موسى صادقاً في قَسَمه بالفعل، و نفد من غضب ابن عمه جدي علي، و صار مضرب المثل في الدهاء الخبيث.
-انتهت -
الهوامش :
١ - سترة العنز أي الفضيحة عكس ما توحي العبارة، فالعنزة (الماعز) ترفع ذنبها القصير للأعلى بحيث تبين عورتها للناظرين. و يقصد بقوله (الله يحميكي في نار جهنم) أن يحرقها الله في النار و يجعلها وقوداً لها.
٢ - عرص : أي قوّاد، عكروت و بوشت و سرسري : شتائم قديمة دارجة في ذلك الزمان، تعني قليل الأدب و الشرف و الناموس.
٣ - الثغرة مكان يثقب في الأسوار يسمح بعبور الإنسان إلى داخله أو خارجه، و أطلقت هذه التسمية على مكان معين في سور البساتين و الكروم يخصصها المالك لعبور الناس من خلالها، حيث يزيل بعض الحجارة من السور ليعبر منها الناس دون الحيوانات.
-
جهاد الدين رمضانمحامي سوري سابقاً و لاجئ حالياً ، قارئ جيد و كاتب مبتدئ ، أكتب ببساطة و صراحة دون تنميق و تزوير.