الدِفء المفقود - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الدِفء المفقود

عن مشاعر الوحدة أتحدث

  نشر في 26 فبراير 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

يعتريني أسىً كلّما رأيت شيخاً يجلس وحيداً في سوقٍ يراقب الناس، أو امرأةً مسنّة تمشي بصعوبة في شارعٍ هادئ، تنظر في وجوه المشاة، ولا تنتظر أحداً. تبحث عن ألفة تفتقدها أو أنيس يحاورها. وبينما تلفتنا مشاهد هؤلاء، نذهل عن صورٍ أكثر منها، لمن هم أصغر سناً، يحاربون جاهدين للانفكاك من الوحدة القاتلة التي وقعوا فريسةً لها، ولا يجدون سبيلاً للخروج منها.

ذكّرني بهم قرار رئيسة الحكومة البريطانية مؤخراً، تعيين وزيرةٍ لمكافحة مشاعر الوحدة، بسبب الأرقام المتزايدة للمصابين بها. الأمر الّذي يكلّف المجتمع البريطاني عشرات الآلاف من المنتحرين سنوياً، ممن افتقدوا سبب بقائهم، والملايين من الجنيهات المخصصة لعلاجهم. وما يسري على بريطانيا يسري على أغلب الشعوب مع ارتفاع متوسط أعمار الناس.

سعادة الحياة الوحيدة في أن تُحِبّ وتُحَب – جورج ساند

ولمناقشة سبل التخلّص من الوحدة علينا بحث دواعيها. قد يبدو لك أن عكس الوحدة هو التمتّع بعلاقاتٍ كثيرة مهما كانت سطحية. تقوم على المجاملة وتطفو للسطح بسرعة لتختفي بانتهاء أسباب وجودها. كاجتماع بعضهم في حيّزٍ واحد يتجاذبون أطراف الحديث إلى أن يفترقوا.

علاقاتٌ كهذه، تشبه احتفاء الصغار ببعضهم بعضا حين يلتقون بالطرقات. حالما تسحبهم أمهاتهم، ينقطع تواصلهم وتختفي فرحة لقياهم. الغبطة العابرة ليست كفيلةً بتبديد مشاعر الكآبة الناجمة عن الوحدة. ربما تخفّف قليلاً من وطأتها ولكنها لا تخرجك منها.

الشعور الحقيقي المعاكس للوحدة هو دفء الأحساسيس. أحاسيس الانتماء لمن هم على استعداد للتضحية من أجل إعطائك الشعور بالأمان. هو الإنتماء الذي لا تخسر معه غير عزلتك. هو الإنتماء لمن يرتقي بك ولا يخيب أمَلَك.

وإذا صعُب عليك العثور على ضالتك في الانتماء المثالي، عليك أن توجده بنفسك. ولكن كيف السبيل؟


اقرأ في هذا الصدد: كُن بَلسماً


ليست الوحدة ألا تعرف أحدأً، بل ألا يعرفك أحد. أوّل طرق التخلّص منها لا يتمثّل في التعرّف العابر على الناس. بل في أن نجد أهدافاً سامية تحملنا إلى قلوبهم. يسعُنا من خلالها أن نقدّم لهم أشد ما يحتاجونه من غير تكلّف.

الإنتماء يقتضي اجتماع اثنين أو أكثر على هدفٍ واحد، من أجل مقابل أو بغير مقابل. كالتعلّم من أحدهم أو تعليم الآخرين، وكخدمة أحدهم أو استخدام الآخرين. فمن انتفى عنده سبب من أسباب الانتماء، لم يُعدم الآخر.

رأيت كباراً في السنّ يعملون متطوّعين، في جميع المشافي الكندية التي أتيحت لي فرص زيارتها. يعملون كموظفين دون مقابل، مكرّسين أنفسهم لخدمة الزائرين والعاملين على حدّ سواء. يقدّمون خدماتٍ أقلّ ما يمكن وصفها بأنها رائعة إلى الحدّ الذي يصعب معه الاستغناء عنهم. يرسمون بابتساماتهم البهجة في قلوب الزائرين ويضفون بوجودهم جواً رائعاً من الألفة في قلوب المرضى المسنين.

وكنت أستغرب وجودهم في البداية. ولكني حين تأمّلت في الأمر، وجدتهم قد منحوا أنفسهم فرصاً لا تقدّر بثمن للقيام بنشاط مِهني رائع، في جوّ من المتعة وفي بيئة صحيّة يتعلّمون فيها، ويقومون بخدمةٍ اجتماعية تعطيهم دفقات لاحدود لها من حيوية الحركة وسعادة الانتماء ونبل الغاية وجمال الهدف.

فارقٌ كبير بينهم وبين من تسمّروا في أماكنهم، يبحثون عن أسباب السعادة فلا يعثرون عليها. يبحثون عن أنيس فلا يجدونه. ما منّا من أحدٍ إلا وقد حباه الله معرفةً أو هوايةً أو مالاً أو تجربة خلال حياته، لا غنى للآخرين عنها. يستطيع أن يكرّس نفسه في مساعدتهم بها. فيعطي نفسه سبباً للبقاء ودفئاً في المشاعر وارتقاءً بالوجود.

الوحدة صعبة، جُد بشيءٍ من حبّك، وبعضاً من مهاراتك، وقليلاً مما حباك الله إياه على مَن هم حولك، لتنعم بدفء الانتماء.


إن أعجبك الموضوع، فساهم في نشره. فإن عجزت، فشارة تشجيع إعجابٍ تكفي.

اقرأ أيضاً: رسولُ الحب


  • 8

  • أقباس فخري
    لا أكتب للناس بل أكتب لذاتي. أحاول العثور على نفسي حين أكتب. لعلّي ألملم شتاتها المبعثرة فأجمعها، أو عساني أعيد تكويني.
   نشر في 26 فبراير 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

آلاء بوبلي منذ 6 سنة
"الوحدة صعبة، جُد بشيءٍ من حبّك، وبعضاً من مهاراتك، وقليلاً مما حباك الله إياه على مَن هم حولك، لتنعم بدفء الانتماء."
مقال رائع ، دام قلمك .
0
أقباس فخري
شكرا لك ايتها الكاتبة الصغيرة. تشجيعك يدفعني للأفضل.
آلاء بوبلي
بل شكراً لكم على تشجيعكم كاتبة صغيرة مثلي .
مقال جميل دام الله قلمك
1
أقباس فخري
وردك يشجعني فشكرا جزيلا لك.
" منذ 6 سنة

فارقٌ كبير بينهم وبين من تسمّروا في أماكنهم، يبحثون عن أسباب السعادة فلا يعثرون عليها. يبحثون عن أنيس فلا يجدونه. ما منّا من أحدٍ إلا وقد حباه الله معرفةً أو هوايةً أو مالاً أو تجربة خلال حياته، لا غنى للآخرين عنها. يستطيع أن يكرّس نفسه في مساعدتهم بها. فيعطي نفسه سبباً للبقاء ودفئاً في المشاعر وارتقاءً بالوجود.
الوحدة صعبة، جُد بشيءٍ من حبّك، وبعضاً من مهاراتك، وقليلاً مما حباك الله إياه على مَن هم حولك، لتنعم بدفء الانتماء.برافو عليك أستاذ،الحل في العطاء .سعيدة لاكتشاف هذا القلم المبدع هاته الليلة،أصفق لإبداعك بحرارة فقد مسني وعبر عني
2
أقباس فخري
سعدت كثيرا بنيله استحسانك أخت فوزية. مواضيعك لا تقل حرارة ولا قرباً من القلب. مودّتي.
Salsabil Djaou منذ 6 سنة
مقال رائع فعلا،دام قلمك سيدي الكريم،تحياتي.
2
أقباس فخري
العفو يا سلسبيل. ليس سوى بعض ما عندكم.

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا