من المؤسف جداً، أن يكون هذا المقال رثاءً لشهيد الصوت والكلمات غير المقيدة، والمقالات الداعية لكرامة الانسان وقيم العدالة، الصحافي الكبير جمال خاشقجي، فالوقت لا يزال مبكراً على ذلك، فحتى الكلمات لا تنساب على طبيعتها، والحروف تتعنت لتنعى الإنسان الذي يشع بالحياة، والألوان، ومشاعر العشق تجاه دولته وأمته.
لقد كان الشهيد جمال خاشقجي قريباً من مشارفة الستين سنةً من عمره، لكن وأنت تتجول على حائطه على الانتستغرام، لن تجدك إلا أمام طفلٍ في السادسة من عمره، فمن خلال صوره التي التقطها بعدسته، تراه وكأنه حديث عهد بالدنيا، لا يزال يكتشف العالم بنفس الدهشة الأولى.
مفزعٌ جداً تخيل أن صاحب ذلك الوجه المشرق والأمل المتوقد، قطع جسده قدداً وببطش شديد، وحبست أنفاسه بعدما عانقت حريتها لتوها، بأسفٍ جديد، علينا بالفعل أن نصدق الآن، أن الكابوس الذي دعونا كثيراً أن يكون مجرد حلم سيء، تحول لحقيقة موحشة وحكاية فظيعة.
"البعض يرحل؛ ليبقى"، هكذا غرّد الشهيد الصحافي جمال خاشقجي ذات يوم، وذلك ما كان حقاً وصدقاً، فالرحيل الذي عادة ما يكون صامتاً، لم يحصل معه، بل وقع العكس، حيث ملئت الدنيا ضجيجاً به، وصار إسمه مثل الآذان، لم يبق بيتٌ إلاَّ ودخله، ولم تسمع أذنٌ في هاته الأيام إلا إسمه، هو في الحقيقة لا يحتاج لشهرة، لكنه بات أشهر من نار على علم، حتى أنه أزعج كثيرين وبدؤوا ينقبون في تاريخه لعلهم يجدون ما يشوّه سمعته حتى تنطفئ وهج قضيته قبل أن ينال قتلته جزاءهم، ولم يجدوا سوى تغطياته في توتر، وصاروا يروجون لضلالات على أساس أنها وقائع، بينما يشوبها فقط جزءٌ من الحقيقة التي طالما تعمل أبواق السلطة دائماً على الإعتماد على طرف منها، إن لم تخفها تماماً.
ولئن كان المحاسبة تكون على الخواتم لدى المنصفين، فإن البعض، يعكس ذلك مع خصومه، ولو قام بألف مراجعات، يذكرونه بسيرته الأولى فقط، ولا ياتون على قناعاته الأخيرة.
انقضى نحب الشهيد جمال خاشقجي، والعالم يشهد أنه خرج من جحر ظلام دامس، وكسر نسق طقوس البيت العتيق، ليصدع بالحرية للبلاد والعباد، في سكون الصّمت ورهبة الأمن وإغراء المناصب والمال، واختار في طوع يشوبه إكره، إلى أن يهاجر ويترك أسرته وبلاده، ليهتف في المحافل الدولية بإطلاق سراح المعتقلين، وبإيقاف الحرب على اليمن، وإنهاء محاصرة بلد عربي، وحفظ مال المسلمين للمسلمين، والموازاة بين التنمية والديمقراطية وقيم حقوق الإنسان.
القيام بهاته المسائل، قد تبدو عادية في بعض الدول، ومنها عربية، فنحن في المغرب مثلاً، تنظم آلاف الأشكال الاحتجاجية سنويا، وتفجر حراكات شعبية، ويظهر المناضلون تباعاً من مختلف المشارب السياسية والاجتماعية، لكن في السعودية، لا يشيء من هذا يحدث إطلاقاً، ولو بشكل بسيط للغاية، حتى أنه يمكن لتغريدة أن ترسلك لسنوات لخلف القضبان، مما يعكس القبضة الأمنية المبسوطة على البلاد، فإذا خرج منهم محتج بصوته وصورته فيعد شجاعاً، فكيف بمن خرج من بيت الطاعة والسلطان رغم انعدام مشاكل وورود إغراءات؟ إنه بطلٌ حتماً.
منذ سنوات، وأنا على اطلاع بشؤون المملكة العربية السعودية، وكنت أصادف تغريدات عن أحوالها الحقوقية، وكانت الأخبار مفزعة وكنت أشك، إلى أن صادفت في مجلس معتقلين مغربين قضيا مدة في السجون السعودية، وذكرا في حديثهما أهوالاً مخيفة، وأكدا في الختام، أن "سجون المغرب على ما فيها؛ أرحم بكثير"، فكنت لما أصادف للشهيد جمال خاشقجي تصريحاً أو مقالاً، أتساءل: كيف لرجل يعرف بلاء بلاده أن ينطلق لسانه ويكتب قلمه هكذا أمور؟ قبل أن يأتي الجواب؛ أنا أبحث عن حريتي، لن أعيش مقيدا، ولدت بلبلاً وأريد أن أموت مغرداً.
لم يكن الشهيد جمال خاشقجي ناقداً لسياسات السلطات السعودية فقط، بل كان إنساناً معلماً أيضاً، فبتغريداته وتصريحاته دل الناس على خير كثير رغم ما كان يعانيه من قلق وخوف في آونته الأخيرة، إلا أنه كان يطلق كلاماً كبيراً هنا وهناك، وأثارني نصحه الدائم للشباب، وخصوصاً قوله لهم: "لا تسلموا عقولكم لأحد، افحصو وفكروا، ولكل مجتهد نصيب"، ثم دعوته للأمير محمد بن سلمان الذي كان لا ينطق باسمه إلا مرفقا بوصف "سمو ولي العهد"، بالاهتمام بهم.
الشهيد جمال خاشقجي، همه لم يكن نفسه أبداً، كانت أمته ودولته أكبر من أن يختار مصالحه الشخصية رغم خساراته الفادحة التي تكبدها جراء ذلك، علماً بأنه كان بإمكانه أن يكون في أفخم قصور الرياض، ومهما قيل في حقه يظلُّ قليلاً، فيكفيه أن أوصاله قطعت لأجل حرية المعتقلين ظلماً، والمقتولين في اليمن عدواناً، وكرامة المسحوقين في العالمين اعتداءً ، فهنيئاً له، ولتظل الغمائم السوداء تطارد قاتليه إلى يوم القيامة.