اغتيال ..
القصة ليست حقيقية، لكن أحداثها حقيقية .. الواقع يقول بأن الحرب تغتال الأحلام .. بأن أولئك القساة الضعفاء يغتالون المشاعر، إن الألم اغتيال، الاشتياق اغتيال .. والانتظار أعظم اغتيال.. حارب لأجلك بإن الاغتيال مهنة قذرة لكن كثيرون من يمتهنونها .. حارب لأجل أن تنجو بأحلامك، ومشاعرك ..
نشر في 23 أكتوبر 2018 .
كنت في الثامنة من عمري وقد مر عشرون عاماً، لكن ما تزال تلك الذكرى معلقة في ذاكرتي كأنها حدثت في الأمس. عندما أوصلني والدي إلى المدرسة واحتضنته بقوة ..
كانت الحصة السادسة وكان قد بقي على انتهاء الدوام المدرسي قرابة النصف ساعة، عندما دخلت علينا المديرة بملامح مرتبكة وطلبت من معلمتي أن تخرج لرفقتها، ثم عادت معلمتي بعد عشر دقائق تقريباً ونادتني. كانت ملامح معلمتي تحمل من الأسى ما ينذر بأن مصيبة ما قد حلت، عندما طلبت مني أن أحزم أشيائي وآتي برفقتها، سألتها يومها ببراءة الطفولة :" هل أتى والدي لاصطحابي؟"، والفرحة على وجهي رغم الشك الذي كان يعتصر في قلبي. ابتسمت لي وفي عينيها حزن دفين ودمعة كانت تكابر عليها.
مشينا يومها في رواق المدرسة الذي بدا أطول مما كان عليه، احتضنتني عند باب المدرسة بقوة كأنها تراني للمرة الأخيرة .. وعندما خرجت كان بانتظاري عمي وليس والدي .. كان الوضع يبدو مريباً، الصمت الذي خييم علينا، ملامح عمي، الاتصالات التي كانت لا تتوقف على هاتفه المحمول، ملامحه التي بدت منطفأة، قيادته المتهورة، تنهيداته .. أجوبته المقتضبة على الهاتف، كلماته المجهولة، نظراته البائسة وهو يلتفت في كل مرة إلي ويحاول زرع ابتسامة مقهورة على وجهه!
كان منزلنا يومها مظلماً شاحباً، سيارات شرطة وأناس منهم من أعرفهم ومنهم من لا أفعل، والدتي التي ارتدت اللباس الأسود ووجهها الذي غطته الدموع .. كنت أسأل لكن لم يكن أحد يجيب. في المساء دخلت خالتي إلى غرفتي وراحت توضب أمتعتي في حقيبة سفر، سألتها إن كنا مسافرين، فابتسمت إلي وهي تكفف دمعها وقالت لي محاولة أن تخرج صوتاً مطمئناً من داخلها .. :" أجل يا صغيرتي، أنتِ ووالدتكِ ستافران في الصباح الباكر ..". وأبي ؟!
غفوت في حضن والدتي وأنا أبكي واسأل عن أبي دونما إجابة، وفي الصباح الباكر ودعت العائلة والمنزل والحي لآخر مرة حتى تاريخ يومنا هذا ..
كنت صغيرة حينها لأفهم معنى "اغتيال"، لكنني فهمت أن أبي صعد نحو السماء وأنه لن يعود. طوال رحلتنا الطويلة متنقلين بين المطارات والمحطات لم أكف لحظة عن البكاء. كان من الصعب جداً على طفلة في الثامنة من عمرها أن تفهم عبرة الموت، فما بالك بعبرة القتل .. أريد أبي .. كانت الكلمات الوحيدة التي نطقت بها حتى ثلاثة أشهر مرت بعد الحادثة.
كبرت يتيمة الأب في بلد غريب وأحياء غريبة، كانت والدتي تعاملني بشفقة مطلقة، والدتي التي لم تعد هي منذ ذلك اليوم، ملامح القهر التي لم تفارق وجهها لحظة، صراخها المستيمت علي عندما رأتني أكتب .. قامت يومها بتحطيم جميع أقلامي ومزقت الأوراق التي كتبت عليها، قالت لي أن الكتابة لعنة، أنها تودي بأصحابها نحو الجحيم، بأن الكاتب يغتال بطريقة بشعة، بأن أصابعه تحطم وقلمه يغزر في عينه .. قالت لي كلمات مقرفة وموجوعة .. ورغم ذلك لم أتوقف بعدها عن الكتابة!
كبرت وأنا ابحث عن معنى كلمة "اغتيال"، عن السبب الذي قد يدفع أحدهم لأن يجند طاقة كاملة ليقتل شخصاً ما لمجرد أنه كاتب. نسيت مع الوقت وطني الأم، لكنني لم أنسى والدي، مدرستي، الحي الذي نشأت فيه، أصدقاء طفولتي.. كانت خلافاتي تزداد يوماً بعد يوم مع والدتي التي كانت ترفض أن تخبرني أي شيء عن والدي، كانت تقول لي بأنه مات فقط .. مات بحادث سيارة .. الكاتب والصحفي الكبير مات .. قتلته كلماته، أفناه تمرده ..
والدي الذي وعدني ذات يوم بأن يأخذني برحلة حول العالم، وأنه سيهديني النسخة الأولى من كتابه الجديد الذي لم يسعفه الوقت حتى يكمله .. كبرت وأنا أحمل بداخلي نقمة على عدوٍ مجهول، رغم أنني كنت أعرفه حق المعرفة ..
كنت في كل يوم استيقظ في الصباح الباكر، أكتب ثم أقوم بدفن ما كتبته بين كتبي، وأخرج للجري، كان أكثر منظر يؤلمني هو رؤية طلاب المدارس برفقة آبائهم.. كنت أعود والقهر يشعل ناره في قلبي ..
حتى اكتشفت والدتي ذات يوم بأنني لم أتخلى يوماً عن كتاباتي، وبختني بقسوة، تشاجرنا، هددتها بالعودة إلى الوطن ..
لقد اخترت فرع الصحافة أريد أن أكمل ما بدأه أبي .. وقعت والدتي يومها بالمرض، دخلت المستشفى لشهور، اكتشفت بعدها أنها مصابة بسرطان القولون.. أصبنا كلتانا بعدها باكتئاب شديد، أصبحنا نعيش في ظلمة داكنة، لا نخرج من المنزل إلا لزيارة الطبيب .. كانت والدتي تحتضر في اليوم الواحد مئات المرات، وكانت وصيتها الوحيدة لي بأن اختار أي مهنة إلا الكتابة ..
وبعد وفاتها توقفت تماماً عن الكتابة، واليوم أنا أخط مذكرتي الأخيرة قبل أن أعلن استقالتي التامة عن الكتابة، رغم أنني أعيش صراعاً كبيراً مع هذا القرار. قراري هذا ليس نابعاً من خوف، ولا هو عملاً بوصية والدتي، بل هو انتقام.
سأنشر هذه المذكرات وسيكون اسم والدي في أول الإهداء، والدي الذي كان شهيد الكلمة، ربما أعود ذات يوم لأكتب .. لكنني سأكتب حينها وصيتي، وصيتي التي سأرفقها بهذا الكتاب، لأجعلها عبرة ..
مشاعري في هذه اللحظة تشبه امرأة تجهض بعد عشر سنوات من محاولاتها في الحمل، بعد فرحة كبيرة وأمل كبير .. تشبه نهاية معركة راح ضحاياها الملايين .. ثم فجأة خمدت النار، توقفت أصوات المدافع، توقف صوت الرصاص .. توقف الموت..
الحقيقة مؤلمة، لكن الألم الحقيقي هو أن تدفن الحقيقة في ثغر أصحابها .. والاغتيال هو اغتيال اللحظات، كل تلك اللحظات التي انتظرت فيها والدي وأنا أعرف أنه لن يعود، ابتسامته التي لن أراها سوى في الأحلام، خياله الذي لن يرافقني بعد هذا في الظلام، إلى روح والدي .. وروح كل من اغتال أحدهم لحظات سعادته، اغتال مشاعره، اغتال أحلامه .. إليكم هذه الكلمات!
التعليقات
اما ان كانت من نسج الخيال فأنت كاتبة باحتراف واحييك على هذه الكلمات