التقليد و التقديس و قوة الخُرافة . - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

التقليد و التقديس و قوة الخُرافة .

  نشر في 28 أبريل 2018 .

  يقول عالم النفس الفرنسي غابرييل تارد: "نتعلم كيف نعيش من خلال التقليد" ، حيث نتعلم اللغة و آداب السلوك و كيفية الإيمان و التدين و نؤمن بأساطير مجتمعاتنا و غيرها ، بفعل "التقليد L'imitation" ، الذي يتعزز بشكل أكبر عندما تكون صلات الأفراد فيما بينهم كبيرة جدا ، إذ يتم مفعول التقليد من الأعلى إلى الأدنى ، فالفقير يقلد الغني و الصغير يقلد الكبير و المحكوم يقلد الحاكم ، و المهزوم يقلد المنتصر و هكذا ، على مستوى الأفراد صعودا إلى مستوى المجتمعات و الحضارات ، بناءا على ذلك فكثيرا ما نُجابه بأفكار و عقائد و أيديولوجيات و تقاليد و عادات المجتمع الذي نعيش فيه ، في ثوب من الصلاح الملائكي الذي يَعدِمُ في الفرد حق اختيار أفكاره و عقائده و أيديولوجياته ، و بما أن السلوك توجهه أفكار ، فعندما يفقد الإنسان قدرته على اختيار أفكاره بعدها مباشرة يفقد قدرته على اختيار تصرفاته و سلوكاته ، لذلك يحلوا للحكومات الإستبدادية التحكم في شعوبها من خلال السيطرة على أفكارها و عاداتها و تقاليدها و النفخ فيها و نشرها على أوسع نطاق ، و هو ما يخدر هذه الشعوب.

لعل أهم التأثيرات السيكولوجية لمفعول التقليد ، تغييب هذا الأخير في المُقَلِّد "حس النقد" ، مثلا على مستوى "الخطاب" ، ففي المجتمعات التي تبجل الملوك و الرؤساء و الزعماء السياسيين من جهة ، و ينتشر فيها احتقار الأفراد بعضهم بعضا من جهة أخرى ، يتلقى الشعب خطابات الزعماء بنوع من الإندهاش الإفتخاري ، و بالمقابل يتلقون أفكار بعضهم بعضا بنوع من الإزدراء الإحتقاري ، لذلك لا تجد نقاشا إعلاميا أو فكريا أو نحو ذلك في هذه المجتمعات (المُتَخَلِّفَة بالضرورة) إلا ويبتدأ بتبادل التهم وينتهي بالسب والشتم وأحيانا بشجار و عراك بالأيدي ، حيث لا تتخاطب الأفكار في هذا النوع من المجتمعات بقدر ما تتخاطب الحيثيات الإجتماعية (فقير/غني ، عالم/جاهل ، عامي/نخبوي ، متكلم بلغة/لغات ، إسلامي/علماني ، أستاذ جامعي/عامل بسيط ، تقليدي/حداثي...) ، في هكذا حالة قد تجد راعيا في أطراف دغل من الأدغال يتفوه بأفكار بالغة القيمة عظيمة النفع غير أن الناس يصدون عنها و لا يتبنونها ، و قد تجد ملكا يخطب خطابا فارغا سخيفا ضحلا و مع ذلك يتذكره الشعب لمئات السنين ، من ذلك "فالذي يتحكم في استحسان أو اسقباح الخطاب (والأفكار) ، ليس هو الخطاب في حد ذاته بل الحيثية الإجتماعية لمن يتفوه به" ، فالذي جعل الناس يصدون عن خطاب الراعي و من يقبلون على خطاب الملك ، ليس مضمون الخطاب بقدر ما هي قيمة من يتلفظ به ، فذاك ملك يلتصق بإزاء من يتذكره حيثية اجتماعية (متمدن/نخبوي/متعلم/غني...) و ما الآخر إلا راعي تلتصق في ذهن المقلد بإزائه حيثية أخرى (بدوي/عامي/جاهل/فقير...) و استتباعا لذلك يلحق خطاب الراعي بالدونية و يلحق خطاب الملك بالرُّقِي ، بعيدا عن مضمون الخطاب نفسه و قيمته الفكرية و المعرفية.

بهذه الطريقة يحصل أن تجد طالبا لا يأبه له رغم أن أفكاره عظيمة ، و بالمقابل قد تجد أستاذا جامعيا لا يقوى على تركيب جملة مفيدة ، مع ذلك لو كتب الأستاذ مقالا و كتب الطالب آخر ستجد القراء يقرؤون مقال الأستاذ أكثر من مقال الطالب ، و ما يدفعهم إلى ذلك ليس مضمون المقال في حد ذاته بقدر ما هي الحيثية الإجتماعية للكاتب .

هذه المتلازمة تشتغل بشكل فظيع في مجتمعات التقليد ، حيث تجد الأب مهما أخطئ مهما تصرف بطريقة طائشة مهما فكر بطريقة خرماء حمقاء ، يبقى مبجلا لا يجوز نقده ، ليس لشيء آخر سوى لأنه "أب" فقط ، و قد تجد من يسميهم المسلمون "بعلماء الدين" أصحاب اللحي الطويلة و الملابس المهلهة لهم قيمة اجتماعية مرموقة ، و مهما نفثوا على الناس من الجهل و الحمق و العته ما يجل عن العد و الحصر ، مع ذلك ينظر إليهم أفراد المجتمع بكل وقار و احترام ، إذ لا يتعامل الناس معهم على أساس مضمون خطابهم الديني و مدى قيمته العلمية و المعرفية ، بل يتعامل معهم على أساس التقليد ، أي على منطق (من أنت و ما قيمتك الإجتماعية؟) ، فبما أن هؤلاء رجال دين فإنهم بالضرورة في وعي الناس صلحاء ربانيون ، مفطورون على الحكمة و قول ما هو صحيح حصرا ، رغم أنه في الواقع لا يوجد من هو أخس و أنذل و أجهل منهم فوق الأرض ، و جرائمهم و تزييفهم لوعي الشعوب و تحالفهم مع الحكام وقائعه و أحداثه في التاريخ أكثر سعة من أي اقتباس .

و تبقى أفكار و عقائد و أيديولوجيات كثيرة مستمرة بفعل التقليد ، لعل أبرزها "الدين" ، فلا يخفى عمن قرأ تاريخ الفكر أن ما من عبقري و مفكر و فيلسوف و عَالم إلا و نقد و فكك و ازدرء أفكار الأديان و وضح كم هي مناقضة للعقل و المنطق و الواقع ، غير أن هذه الأديان مستمرة في الوجود ، بفضل عاملين أساسيين: "التقليد" و "التقديس" و "الخوف" ، فالأول يضمن إعادة إنتاج الدين (توارثه) و النظر إليه بطريقة تبجيلية لا تحليلية ، و الثاني يضمن تنزيه أفكار الأديان عن النقد و النقاش و المسائلة ، إذ كم قتل المؤمنون منتقدي أديانهم ، و الثالث يجعل المؤمن يرتعب بأهوال ما سيلاقي من عذاب و ألم وهمي إذا ما ترك أفكاره الدينية ، و هو ما يجعله باقيا في دينه غير مفكر في التخلص منه بفعل تأثير الخوف ، فالكتب المقدسة مثلا لازالت تتحكم في اعتقادات و تصرفات الكثير من الناس خصوصا في المجتمعات المتخلفة ، ليس نظرا للمحتوى المعرفي و العلمي و الفلسفي لهذه الكتب التي في الواقع تجاوزها التاريخ و العلم و الأخلاق ، بل بفعل التقديس والتقليد والتلقين والتخويف ، الذي يجعل أفكار الكتاب المقدس منتشرة بين الناس ليست قيمتها المعرفية أو مضمونها بقدر ماهيتها المبجلة في وعي الناس (أي باعتبارها كلام الله) .

ففكرة كلام الله لوحدها -خارج التقليد و التقديس طبعا- تتثير عدة تساؤلات ، فهل يعقل أن يتكلم الله بلغات البشر ؟ هل يعقل أن يكون للإله صفات بشرية كالصوت و اللغة و أيدي و مؤخرة يجلس بها على عرشه ، كما له عواطف فهو يغضب و يفرح و يتوعد و يمكر كما تصوره الكتب المقدسة ، وهي ميزات الإله في الخيال البشري ، فلو استطاع البقر تصور إله لتصوروا أن له حوافر و قرون كما تصور البشر له أيدي و صوت ، إذ أن البشر أبدعوا بخيالهم كتبا اعتقدوا أنها كلام الرب حيث لا يتكلم كتاب إله قوم ما إلا بلغة هذا القوم ، فالألواح المقدسة للسومريين و البابليين مكتوبة بلغاتهم ، و الثوراة بلغة اليهود و الإنجيل بلغة السريان و القرآن بلغة العرب ، كما لو كان للماعز القدرة على كتابة نص مقدس لجاء فيه كلام الله في شكل باع باع باع ، فكل نوع من كائنات الطبيعة سوف يكتب كلام الله بلغته ، و هو ما يجعل الإله له الحمد و الشكر متكلما مع كل شعب بلغته و دائرٌ معه في مدار ثقافته و أساطيره ، فهل هذا يعقل ؟

ثم كما هو معلوم فإن أغلب الأديان لها كتاب مقدس واحد يعتقد المؤمنون أنه كلام الله و إلحاقا بهذا الأخير يصبح الكتاب: "كتاب الله" ، فلو كان لله إصدار واحد يكون غالبا مليء بالأساطير و الخرافات و النكت المقدسة ، و بالتالي لا تستفيذ منه البشرية جمعاء إلا من يؤمنون به ، فهذا يجعل عالما أو فيلسوفا له أكثر من كتاب وكتبه غاصة بأفكار علمية عقلانية منطقية تستفيذ منها البشرية جمعاء بغض النظر عن اختلاف أديانها و ثقافاتها ، بهذه الطريقة يكون هذا العَالِم أو الفيلسوف أحسن من الله وكتبه أكثر نفعا للناس من كتب الإله .

و قس هذه القاعدة على الأنبياء ، الذين يمنعون حق نقدهم بتسويق أنفسهم على أنهم "معصومين" أي لا يخطؤون قولا و فعلا ، حيث تجد الشعوب متأثرين بأفكارهم مُتَقفين لآثارهم ، ليس لشيء آخر إلا لأنهم "أنبياء" أي في وعي الناس لا يخطؤون و يتكلمون مع الله ، فهل يعقل أن يتكلم كائن متناهي الصغر كالإنسان مع من خلق الكون الذي يتضمن أكثر من 4 ألاف مليار مجرة ؟ هكذا فالذي يجعل هؤلاء الأشخاص مستمري التأثير في الشعوب ليست القيمة المعرفية لأفكارهم و معتقداتهم التي غالبا ما تكون مثيرة للسخرية ، بل بسبب ماهيتهم في وعي الأفراد ، وهو ما يفوت تفكيك وتشريح أفكارهم على مشرحة النقد والعقل والمنطق ، التي لو فُعِّلَت حتما سوف تقصل أساطيرهم وتدفعها إلى الإنقراض .



   نشر في 28 أبريل 2018 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا