يقول عالم النفس الفرنسي غابرييل تارد: "نتعلم كيف نعيش من خلال التقليد" ، حيث نتعلم اللغة و آداب السلوك و كيفية الإيمان و التدين و نؤمن بأساطير مجتمعاتنا و غيرها ، بفعل "التقليد L'imitation" ، الذي يتعزز بشكل أكبر عندما تكون صلات الأفراد فيما بينهم كبيرة جدا ، إذ يتم مفعول التقليد من الأعلى إلى الأدنى ، فالفقير يقلد الغني و الصغير يقلد الكبير و المحكوم يقلد الحاكم ، و المهزوم يقلد المنتصر و هكذا ، على مستوى الأفراد صعودا إلى مستوى المجتمعات و الحضارات ، بناءا على ذلك فكثيرا ما نُجابه بأفكار و عقائد و أيديولوجيات و تقاليد و عادات المجتمع الذي نعيش فيه ، في ثوب من الصلاح الملائكي الذي يَعدِمُ في الفرد حق اختيار أفكاره و عقائده و أيديولوجياته ، و بما أن السلوك توجهه أفكار ، فعندما يفقد الإنسان قدرته على اختيار أفكاره بعدها مباشرة يفقد قدرته على اختيار تصرفاته و سلوكاته ، لذلك يحلوا للحكومات الإستبدادية التحكم في شعوبها من خلال السيطرة على أفكارها و عاداتها و تقاليدها و النفخ فيها و نشرها على أوسع نطاق ، و هو ما يخدر هذه الشعوب.
لعل أهم التأثيرات السيكولوجية لمفعول التقليد ، تغييب هذا الأخير في المُقَلِّد "حس النقد" ، مثلا على مستوى "الخطاب" ، ففي المجتمعات التي تبجل الملوك و الرؤساء و الزعماء السياسيين من جهة ، و ينتشر فيها احتقار الأفراد بعضهم بعضا من جهة أخرى ، يتلقى الشعب خطابات الزعماء بنوع من الإندهاش الإفتخاري ، و بالمقابل يتلقون أفكار بعضهم بعضا بنوع من الإزدراء الإحتقاري ، لذلك لا تجد نقاشا إعلاميا أو فكريا أو نحو ذلك في هذه المجتمعات (المُتَخَلِّفَة بالضرورة) إلا ويبتدأ بتبادل التهم وينتهي بالسب والشتم وأحيانا بشجار و عراك بالأيدي ، حيث لا تتخاطب الأفكار في هذا النوع من المجتمعات بقدر ما تتخاطب الحيثيات الإجتماعية (فقير/غني ، عالم/جاهل ، عامي/نخبوي ، متكلم بلغة/لغات ، إسلامي/علماني ، أستاذ جامعي/عامل بسيط ، تقليدي/حداثي...) ، في هكذا حالة قد تجد راعيا في أطراف دغل من الأدغال يتفوه بأفكار بالغة القيمة عظيمة النفع غير أن الناس يصدون عنها و لا يتبنونها ، و قد تجد ملكا يخطب خطابا فارغا سخيفا ضحلا و مع ذلك يتذكره الشعب لمئات السنين ، من ذلك "فالذي يتحكم في استحسان أو اسقباح الخطاب (والأفكار) ، ليس هو الخطاب في حد ذاته بل الحيثية الإجتماعية لمن يتفوه به" ، فالذي جعل الناس يصدون عن خطاب الراعي و من يقبلون على خطاب الملك ، ليس مضمون الخطاب بقدر ما هي قيمة من يتلفظ به ، فذاك ملك يلتصق بإزاء من يتذكره حيثية اجتماعية (متمدن/نخبوي/متعلم/غني...) و ما الآخر إلا راعي تلتصق في ذهن المقلد بإزائه حيثية أخرى (بدوي/عامي/جاهل/فقير...) و استتباعا لذلك يلحق خطاب الراعي بالدونية و يلحق خطاب الملك بالرُّقِي ، بعيدا عن مضمون الخطاب نفسه و قيمته الفكرية و المعرفية.
بهذه الطريقة يحصل أن تجد طالبا لا يأبه له رغم أن أفكاره عظيمة ، و بالمقابل قد تجد أستاذا جامعيا لا يقوى على تركيب جملة مفيدة ، مع ذلك لو كتب الأستاذ مقالا و كتب الطالب آخر ستجد القراء يقرؤون مقال الأستاذ أكثر من مقال الطالب ، و ما يدفعهم إلى ذلك ليس مضمون المقال في حد ذاته بقدر ما هي الحيثية الإجتماعية للكاتب .
هذه المتلازمة تشتغل بشكل فظيع في مجتمعات التقليد ، حيث تجد الأب مهما أخطئ مهما تصرف بطريقة طائشة مهما فكر بطريقة خرماء حمقاء ، يبقى مبجلا لا يجوز نقده ، ليس لشيء آخر سوى لأنه "أب" فقط ، و قد تجد من يسميهم المسلمون "بعلماء الدين" أصحاب اللحي الطويلة و الملابس المهلهة لهم قيمة اجتماعية مرموقة ، و مهما نفثوا على الناس من الجهل و الحمق و العته ما يجل عن العد و الحصر ، مع ذلك ينظر إليهم أفراد المجتمع بكل وقار و احترام ، إذ لا يتعامل الناس معهم على أساس مضمون خطابهم الديني و مدى قيمته العلمية و المعرفية ، بل يتعامل معهم على أساس التقليد ، أي على منطق (من أنت و ما قيمتك الإجتماعية؟) ، فبما أن هؤلاء رجال دين فإنهم بالضرورة في وعي الناس صلحاء ربانيون ، مفطورون على الحكمة و قول ما هو صحيح حصرا ، رغم أنه في الواقع لا يوجد من هو أخس و أنذل و أجهل منهم فوق الأرض ، و جرائمهم و تزييفهم لوعي الشعوب و تحالفهم مع الحكام وقائعه و أحداثه في التاريخ أكثر سعة من أي اقتباس .
و تبقى أفكار و عقائد و أيديولوجيات كثيرة مستمرة بفعل التقليد ، لعل أبرزها "الدين" ، فلا يخفى عمن قرأ تاريخ الفكر أن ما من عبقري و مفكر و فيلسوف و عَالم إلا و نقد و فكك و ازدرء أفكار الأديان و وضح كم هي مناقضة للعقل و المنطق و الواقع ، غير أن هذه الأديان مستمرة في الوجود ، بفضل عاملين أساسيين: "التقليد" و "التقديس" و "الخوف" ، فالأول يضمن إعادة إنتاج الدين (توارثه) و النظر إليه بطريقة تبجيلية لا تحليلية ، و الثاني يضمن تنزيه أفكار الأديان عن النقد و النقاش و المسائلة ، إذ كم قتل المؤمنون منتقدي أديانهم ، و الثالث يجعل المؤمن يرتعب بأهوال ما سيلاقي من عذاب و ألم وهمي إذا ما ترك أفكاره الدينية ، و هو ما يجعله باقيا في دينه غير مفكر في التخلص منه بفعل تأثير الخوف ، فالكتب المقدسة مثلا لازالت تتحكم في اعتقادات و تصرفات الكثير من الناس خصوصا في المجتمعات المتخلفة ، ليس نظرا للمحتوى المعرفي و العلمي و الفلسفي لهذه الكتب التي في الواقع تجاوزها التاريخ و العلم و الأخلاق ، بل بفعل التقديس والتقليد والتلقين والتخويف ، الذي يجعل أفكار الكتاب المقدس منتشرة بين الناس ليست قيمتها المعرفية أو مضمونها بقدر ماهيتها المبجلة في وعي الناس (أي باعتبارها كلام الله) .
ففكرة كلام الله لوحدها -خارج التقليد و التقديس طبعا- تتثير عدة تساؤلات ، فهل يعقل أن يتكلم الله بلغات البشر ؟ هل يعقل أن يكون للإله صفات بشرية كالصوت و اللغة و أيدي و مؤخرة يجلس بها على عرشه ، كما له عواطف فهو يغضب و يفرح و يتوعد و يمكر كما تصوره الكتب المقدسة ، وهي ميزات الإله في الخيال البشري ، فلو استطاع البقر تصور إله لتصوروا أن له حوافر و قرون كما تصور البشر له أيدي و صوت ، إذ أن البشر أبدعوا بخيالهم كتبا اعتقدوا أنها كلام الرب حيث لا يتكلم كتاب إله قوم ما إلا بلغة هذا القوم ، فالألواح المقدسة للسومريين و البابليين مكتوبة بلغاتهم ، و الثوراة بلغة اليهود و الإنجيل بلغة السريان و القرآن بلغة العرب ، كما لو كان للماعز القدرة على كتابة نص مقدس لجاء فيه كلام الله في شكل باع باع باع ، فكل نوع من كائنات الطبيعة سوف يكتب كلام الله بلغته ، و هو ما يجعل الإله له الحمد و الشكر متكلما مع كل شعب بلغته و دائرٌ معه في مدار ثقافته و أساطيره ، فهل هذا يعقل ؟
ثم كما هو معلوم فإن أغلب الأديان لها كتاب مقدس واحد يعتقد المؤمنون أنه كلام الله و إلحاقا بهذا الأخير يصبح الكتاب: "كتاب الله" ، فلو كان لله إصدار واحد يكون غالبا مليء بالأساطير و الخرافات و النكت المقدسة ، و بالتالي لا تستفيذ منه البشرية جمعاء إلا من يؤمنون به ، فهذا يجعل عالما أو فيلسوفا له أكثر من كتاب وكتبه غاصة بأفكار علمية عقلانية منطقية تستفيذ منها البشرية جمعاء بغض النظر عن اختلاف أديانها و ثقافاتها ، بهذه الطريقة يكون هذا العَالِم أو الفيلسوف أحسن من الله وكتبه أكثر نفعا للناس من كتب الإله .
و قس هذه القاعدة على الأنبياء ، الذين يمنعون حق نقدهم بتسويق أنفسهم على أنهم "معصومين" أي لا يخطؤون قولا و فعلا ، حيث تجد الشعوب متأثرين بأفكارهم مُتَقفين لآثارهم ، ليس لشيء آخر إلا لأنهم "أنبياء" أي في وعي الناس لا يخطؤون و يتكلمون مع الله ، فهل يعقل أن يتكلم كائن متناهي الصغر كالإنسان مع من خلق الكون الذي يتضمن أكثر من 4 ألاف مليار مجرة ؟ هكذا فالذي يجعل هؤلاء الأشخاص مستمري التأثير في الشعوب ليست القيمة المعرفية لأفكارهم و معتقداتهم التي غالبا ما تكون مثيرة للسخرية ، بل بسبب ماهيتهم في وعي الأفراد ، وهو ما يفوت تفكيك وتشريح أفكارهم على مشرحة النقد والعقل والمنطق ، التي لو فُعِّلَت حتما سوف تقصل أساطيرهم وتدفعها إلى الإنقراض .